عن اليأس والأمل في غياب العمل
1
لوين رايحين؟ سؤالٌ ما زلت أسمعه من الكثيرين على امتداد سنوات الحرب، ولستُ أكثرَ معرفةً منهم، وإنما يمكن أن نرى شكل العام القادم من خلال عملنا هذا العام، إذ يرتبط الأمل بالواقع وليس بالأحلام، وواقعنا اليوم أننا لا نصنع شيئاً سوى إلقاء اللوم على بعضنا، وعرقلة أعمال الناجحين بيننا، واللا مبالاة تجاه الهاجرين لبلادنا!
فمنذ اشتعالها قبل 12 سنة استمر أمل الناس بانتهاء الحرب، ورغم صمود مؤسسات الدولة السورية ودعم القسم الأكبر من الشعب للجيش والدولة فإن سياسات حكوماتنا قصرت في استثمار ذلك ولم تكن بمستوى التضحيات! وكلما طالت الحرب وارتفع دخانها كانت الغمامة السوداء تتمدد فوق أرواح الناس وتحجب ضوءها رويداً رويداً، إلى أن غطت سماء البلاد وعم الظلام وانعدم الأمل ولم يعد الخلاص الفردي كافياً للسعادة طالما أن من حولك إما يائس أوغاضب أوحزين ويعاني من كومة أمراض نفسية ...
ولكن لو راجعنا تاريخ الحروب لوجدنا أن أسوأ ما تمر به الشعوبُ يكون في نهايات حروبها عندما يكونوا فقدوا كل شيء: الأمانَ والرزقَ والعملَ والشرفَ والأصدقاء... وهي لحظة تحد كبير تولد منها قوة الشعب الخارقة باتجاه حياة جديدة مختلفة عن تلك التي كانت قبل الحرب، فالحروب مثل حرائق الغابات: تدمر كل ما فوق الأرض ولكنها لاتصل إلى الجذور، فتنمو في العام الثاني لتغدو أفضلَ مما كانت عليه، ويساهم رمادها في تخصيب ترابها، حيث يمثل الرماد عظة الشعوب في شهدائها والجذور شيفرتها التي تسقيها أمطار الأمل. فمن اليأس يولد الأمل، وبحسب "كيركيجارد" في أطروحته "مبحث اليأس" فإن انعدام الأمل، هو الشرط الأساسي للوعي، ذلك أن الشعور بانعدام الأمل يعيدنا مباشرة إلى الحاضر، الذي هو حياتنا التي بأيدينا، حيث تنهض الشعوب من رمادها مثل أسطورة الفينيق.
2
فلو نظرنا إلى حركة التاريخ فوق هذا الكوكب الجميل لوجدنا أن العقل الإنساني يتقدم طرداً مع الحروب، رغم تهاوي مقومات الحياة، بينما الجميع يشعر بطعم الرماد واليأس والخيبة، وعندما يصل العقل بالأمم إلى أوج قوتها تنسى ما كان من أمرها وتكرر حروبها، ويقول المتنبي في ذلك: "كلما أنبت الزمانُ قناةً ركب المرء في القناة سنانا"!؟ فللتقدم والتغيير ثمن تمتصه الدول القوية من دم الدول الأضعف منها، إلى أن تجف فرائسها فتنتقل إلى افتراس بعضها ونفسها في دورة جديدة من الحروب المدمرة، وبناء على ذلك يبدو أن تناطح القوى العظمى سوف يكون قريباً على مسرح شرقنا المحكوم بأساطيره وأطماع الأمم فيه.
فالدول القوية، الصديقة والعدوة، مازالت تمتص سلامنا وثرواتنا وقوتنا البشرية، ونحن كمؤيدين أو معارضين نتصارع على بقايا ما تخلفه لنا كالأيتام على موائد اللئام..
3
يستقوي الفاسدون وتزدهر أعمالهم اليوم بحسب اتساع هامش الفوضى والخروج على القوانين الذي يوفره حطام الدول التي مرت عليها ثيران الربيع العربي، حيث قامت على أنقاض الأنظمة الوطنية الاستبدادية أنظمة مافيوية تهدر الاقتصاد وحياة العباد من أجل حفنة من الدولارات. ومع كل يوم يمر يتسع نطاق الفقر والجريمة والتعصب الديني والإرهاب، مثلما تزداد حصة كبار الموظفين من مال المعونات الأممية والمشاريع والإستثمارات وحوالات المهاجرين الذين تتضاعف أعدادهم كل ساعة ودقيقة، حتى ليظن المراقب أن يوم القيامة ومغادرة الناس لهذه الأرض وشيكة..
في ظل هذه الأجواء غير الآمنة، حيث تعيد مؤسسات الدولة إنتاج سياساتها وأخطائها السابقة التي مهدت لحربنا، سيكون المجتمع برمته قلقاً، وسوف ينعكس ذلك على حياة الناس غداً ضِعْفَ ما هو عليه اليوم، حيث يزداد نطاق العض بين موظفي الحكومة والقطط السمان التي تعض بدورها الفئران، بما يدفع الفئران إلى الانضواء داخل مجموعات حاضنة، مذهبية أو إثنية أو حزبية أو مافيوية أو حتى فيسبوكية بأمل أن تخفف من يأسهم وقلقهم.
4
في منتصف عشرينات القرن الماضي، أثناء السفربرلك، هاجرت أعداد كبيرة من السوريين بسبب الحرب والجوع والأمراض وانعدام الأمن والظلم، فتناقص عدد السكان إلى بضعة ملايين وسهل على الفرنسيين احتلال البلاد وإعادة تنظيمها مؤسساتياً على النمط الأوروبي وكأنهم سيرثون سورية إلى أبد الآبدين. غير أن سلوك العسكر الفرنسي أثار غضب من بقي من السكان الذين عوملوا كغنيمة حرب، الأمر الذي ساهم بتوحيد السوريين فأخرجوا قوتهم من قلب يأسهم، وكانت نتيجة الاحتلال وحدة الثوار والسياسيين الذين ورثوا المؤسسات والجيش الذي شكله الفرنسيون قبل أن يجلوا عن البلاد. ولما لم يكن هناك كبير حاجة للجيش بعد خروج الإحتلال فقد توفرت للناس بعض من الديمقراطية السياسية في مجتمع مدني كاره للحرب، وصولاً إلى قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على القسم الجنوبي من سورية فقوي حينذاك حضور الجيش وتعززت أسباب تدخله في الحياة السياسية، حيث مرت البلاد بسلسلة من الانقلابات العسكرية التي أضعفت الحياة المدنية ورهنت مؤسسات الدولة وسياساتها من أجل مواجهة العدو الإسرائيلي قومياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً وأمنياً وديبلوماسياً، الأمر الذي عرقل مواكبتنا لحركة التقدم الأممي فقصرنا عن أندونيسيا واليابان والهند وحتى عن تركيا التي كانت سبباً في تخلفنا وهجرة مواطنينا الذين تضاعفت أعدادهم في الأمريكيتين إلى ضعف عدد سكان سورية الآن وشكلوا فاقداً تاريخياً وثروة وطنية مضيَّعة لم نستطع استقطابها رغم الوزارات التي أنشأناها باسمهم (المغتربين) التي تشهد اليوم، بعد مئة عام، هجرة السوريين الثانية، فلا تفعل شيئا سوى أن تجعل من جواز الهجرة السوري أغلى جواز سفر بالعالم !؟
5
اليأسُ عدوُّ الأخلاق ولا يوجد ما هو أخطر من اليأس على نشاط الإنسان والنظام الاجتماعي، أما دواؤه فهو الأمل والتفاؤل، وهما أمران يرتبطان بالحاضر وليس بالماضي، فكيف إذا كانت الأمة ذات ثقافة دينية وقومية ماضوية تخشى وتناهض كل فكر مختلف؟
فالأصنام الدينية والمذهبية والإثنية المستقرة في كعبة الوطن تساهم في اختلافنا وتخلفنا ويأسنا دون أن يجرؤ أحد على تحطيمها. وكذلك احتكار الحزب الواحد للسياسة الداخلية، والحكومات التي تكرر فشلها، والبرلمان الخلبي، والإعلام الحطبي، والاقتصاد الريعي، والرواتب والأجور التي لا تغطي نفقات تنقل الموظفين إلى عملهم، بينما النخب الوطنية تعمل من أجل حضورها الفردي فوق حطام الوطن دونما اهتمام بتأسيس مشاريع تنوير علمانية ترتقي بالعقل الجمعي إلى مستوى استحقاقنا العالمي، يضاف إلى كل ذلك المحطات الإعلامية السورية الخارجية التي تنشر ثقافة البذاءة وتفاقم التعصب والعنصرية والكراهية ضد مذاهب وقوميات سورية عريقة!
6
غالبا ما يكون الرفض و”اللا” سمة الناس تجاه حكوماتهم بينما القبول والنعم هو مبتغى الحكومات من محكوميها، وبين “لا” المحكومين و”نعم” الحكام يتشكل الواقع السياسي للبلاد. وحسب الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ فإن (اللا تنشأ بسبب التملك)، إذ كل فرد يرفض السلطات بقدر ما تسمح لغيره بأن يتملك أكثر منه، فكيف إذا كان هذا الفرد لا يملك شيئاً سوى قوته الجسدية أوطاقته الفكرية المعطلة عن العمل؟ بالطبع سوف تكون لاؤه مضاعفة، ومن هنا يمكن القول أن عدالة العمل هو ما يعزز الأمل، ومن أطلق شعار "الأمل بالعمل" كان مصيباً، لولا أنه بقي شعاراً لم تتمكن حكومة عرنوس من تطبيقه أو حتى وضع برنامج زمني لتنفيذه !؟
ولن تتراجع أو تتقلص "لا" الناس ورفضهم لحكوماتهم المتكررة من دون تعزيز حياتهم، إذ ستبقى أسباب الخلاف والصراع موجودة وسيبقى السلام المجتمعي هشاً، ويشرح إرنست بلوخ ذلك في كتابه "مبدأ الأمل" بالقول: إذا كانت الحاجة تلازم حياة الفرد على الدوام وتدفعه إلى العمل باستمرار، فقد كانت أيضاً هي الدافع وراء سلوك الجنس البشري بأكمله. فالحاجة علمت الإنسان أن يفكر، وأن يصنع الأدوات، ويشعل النار، ويبني الأكواخ، والحاجة هي التي علمت البشر أن يتجمعوا في العشيرة والجماعة والدولة، والحاجة علمت الإنسان كذلك أن يدعو ويصلي كلما قصرت قواه وعجزت قدراته عن إشباع حاجاته. بذلك يكون «اللا- تملك» هو الدافع الأساسي وراء الحركة والتغيير، ويبقى «اللا» على الدوام متعلقًا بالتملك الذي لم يتم الحصول عليه بعدُ، بحيث إن عدم التملك هو الأصل المادي الديناميكي لكل ما يملك في المكان والزمان وهو الذي يدفع إلى الحركة ويغير الطبيعة، كما يفرض على الإنسان العمل على تغيير مادة التاريخ البشري...
بقي أن نذكر أن بلوخ وضع نظريته عن الأمل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا وشعبها بين المنتصرين بإقامة جدار اليأس الذي أقدم الألمان على إزالته بعد 28 عاما في التاسع من تشرين الأول 1989 مسجلين نهاية عصر وبداية آخر، فهل نحطم بدورنا جدران اليأس التي تباعد بيننا ؟
هوامش:
*كيركيغارد: اليأس هو مرض روحي يعاني منه مُعظم البشر، وهو الحالة الأصلية عند الجنس البشري غير أن الأمل يصنع الحياة.
*في انتظار غودو لصموئيل بيكيت، مسرحية تسخر من وهم الأمل الأسطوري المتوارث كقيامة الماشيح عند اليهود وعودة المهدي عند المسلمين، حيث الوهم والكسل يؤخران التقدم والعمل.
*أدونيس: من هناك يرجّ الشرق؟ جاء العصف الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميلُ!
نبيل صالح: هاشتاغ
التعليقات
عندما ينتشر الطاعون في جسد…
عندما ينتشر الطاعون في جسد ما يكون التطهير بالحرق آخر فرصة لإنقاذ البقية حكومتنا لاتبالي أن ماتفعله سيصل إلى عمادة بالنار والكبريت
إضافة تعليق جديد