الحمار الإلكتروني
1
عندما يحرن حمار الفلاح ولا يرضى أن يمشي خلفه إلى الطاحون يمد له باقة حشيش فيتبعه، وكلما حرن يعطيه قضمة من الباقة فيتبعه حتى يصل الحمار بحمله إلى الطاحون ومازال جائعاً: هكذا يعمل عقل مدمني وسائل التواصل الاجتماعي على معالف الإثارة الإلكترونية، إذ يشعرون بفراغ أكبر وجوع أكثر بعد كل قضمة منها، حيث يمضغ المتصفح خبيصة متنافرة من البوستات الغث فيها أكثر من الثمين والشاذ أو الكاذب أكثر من الصحيح، ذلك أن حجم الفراغ والملل عند الفرد يحددهما زمن تواجده على منصات التواصل، سوى أولئك الذين يديرون المنصات ويجمعون مالهم من مستهلكيها، كالسوبر ماركت: تدخل إليها لتأخذ غرضاً تريده وتخرج منها محملاً بأشياء لم تكن تريدها…
2
المفارقة أن منصات التواصل العالمية باتت تشكل هوية المستهلكين أكثر من بطاقتهم الوطنية (الهوية)، بعدما أصبح حضور الناس الإفتراضي أكثر من الواقعي، وباتت الصفحة الشخصية هي ما يرسم صورة الفرد الملونة أمام بقية المستهلكين، وهو غالباً تمثيل افتراضي قد يبدو الكلب فيه سبعاً والبقرة فراشة والديك نسراً والسمكة حوتاً والسلحفاة أرنباً والدودة ناسكاً، حتى بات العالم أشبه بغابة مزيفة قد يعاقبك قانونها الإلكتروني إذا أظهرت حقيقة كائناتها ونزعت عنهم أقنعتهم بتهمة التعدي على الخصوصية!
فبعدما كان الكتاب والممثلون هم من يقدم المسرحية على الخشبة صار الجمهور هو من يكتبها ويمثلها، حيث غالبية النساء يقلدن الفنانات ويقدمن صورتهن كمزيج بين مريم العذراء ومارلين مونرو في نشراتهن الصباحية والمسائية، بينما الرجال يقدمون أنفسهم كشعراء وحكماء وفنانين، وبات الفيس والتويتر واليوتيوب جريدة من لاجريدة له، كل من فيها مخبر وصحفي ومحقق وقاضٍ ومصلح ومعالج نفسي ومذيع ودكنجي وأزعر ومتنمر ومتدين ونجمة إغراء وشاعرة ومعالجة بالطاقة الكونية، مع الكثير من المتسولين والنصابين والمتحرشين بالطبع، حتى مُسخت الاختصاصات وبات الشعب يستمع للأكثر شعبية وليس للأكثر معرفة بالموضوع المطروح.
المفارقة الثانية أن المؤسسات الرسمية باتت رهينة التريندات وهوس الجمهور، حيث تحاول استرضاءه بحركات فاشلة على الأغلب، رغم جيش الاختصاصين الذين تستخدمهم، والصفحات الوهمية التي تطلقها، والأموال التي توظفها لشراء آدمن الصفحات المؤثرة، لا بل باتت الوزارات تؤسس صفحاتها وتخاطب مواطنيها على وسائل التواصل بشروط أصحاب المنصات متعددي الجنسيات رغم أنها تصنف نفسها ضمن الحلف المناهض لليبرالية الجديدة!؟
المفارقة الثالثة أن الإعلام الدولي العريق والمحترف بات يستخدم الفيديوهات المجتزأة أو المركبة وتعليقات الجمهور الإفتراضي على الحدث ويركزون على تلك التي تناسب سياسة مموليهم على حساب الحقيقة !
3
أفضل كتاب قرأته عن المستقبل الذي نعيشه الآن كان كتاب زبغينو بريجنسكي: " بين عصرين: الاستراتيجية الأمريكية في العصر التكنوتروني" الصادر سنة 1969 ، ترجم إلى العربية في بيروت عام 1982 ، وبشر فيه حينذاك بتشكل نظام عالمي جديد تقوده أمريكا، وتحدث عن حركة التاريخ راصداً تغير شكل الديانات والأخلاق في المجتمع الرعوي فالزراعي فالصناعي، وصولاً إلى ما بعد الصناعي حيث تسود الأخلاق الإلكترونية التي بدأت تتشكل منذ أواخر القرن الماضي، ليصل تأثيرها إلينا بعد ربع قرن، ذلك أن حداثتنا وعلمانيتنا متأخرة دائماً، فنكون ذاهبين إلى المكان الذي تجاوزته الأمم الأخرى، بسبب حمولات ثقافتنا النقلية المتوضعة في أعماق رؤوس مواطنينا والتي تعرقل تقدمنا …
بدأ الإعلام الورقي بالتراجع لصالح الإعلام الإلكتروني مع بداية الألفية الثالثة، وبتنا نلاحظ تسرب قرائنا الورقيين نحو المواقع الإلكترونية، حيث يمكنهم الحصول على الأخبار لحظة وقوعها، كما يمكنهم إبداء رأيهم تجاهها… فقد تأسست خلال السنوات الخمس الأولى بضعة مواقع سورية كان موقعي (الجمل) من بينها، وقد استدعى تكاثرنا تأسيس فرع لأمن المعلومات، وكان دوره سلبياً تجاه من لم يخضع لتوجيهاتهم، وكذلك كان دور وزارة الإعلام سلبياً وغير مواكب للتطور، وصولاً إلى بداية الحرب السورية حيث انقسمت هذه المواقع بين مؤيد ومعارض لسياسة الدولة، وتمت تغذية المعارض منها بمال البترودولار، بينما راحت المواقع المقيمة تجف رويداً رويداً وتختفي باعتبار أن تمويلها كان يعتمد على الإعلانات، كما بدأ جمهورها بالتقلص بعد السنة الثانية للحرب، حيث انتقل قراؤنا إلى الفيس وتويتر وتحولوا إلى صحفيين ومحللين!
وبما أنه لا قيمة للكتابة من دون قراء فقد اضطر الكتاب والصحفيون إلى اللحاق بجمهورهم إلى مضافة كل الأمم، ولكن بشروط أخرى، قد تكون ديمقراطية وتساهم في إغناء الحوار، ولكنها ضيعت المقامات وقلصت من شجاعة الكُتاب في قول ما لا يوافق هوى الجمهور، الأمر الذي ورط بعضهم في رذيلة النفاق الاجتماعي وعدم الجرأة على طرح أفكار ثورية لا تتماشى مع ثقافة المجتمع النقلية! فعندما يكون الهدف إعجاب المتلقي لا تنويره يضعف حضور الحقيقة وتتباطأ حركة التجديد وتتقلص مساحة المعرفة في مجتمع استهلاكي يميل إلى الطعام السهل والسريع والمجاني على حساب تغذية الكتاب الذي يحتاج إلى وقت مديد وتفكير عميق، وأصبح المستهلك الإلكتروني يعرف شيئاً عن كل شيء ولكنه غير مختص في أي شيء!
4
كل امرئ يدمن شيئاً ما ولكن هناك أشخاص لديهم قابلية إدمان أكثر من غيرهم وأغلب جمهور وسائل التواصل الإجتماعي منهم. وتتحدث بعض الدراسات النفسية عن مظاهر الإدمان الإلكتروني وأولها (الفومو) أي الشخص الذي يخشى فوات الشيء فيتابع الأحداث والأشخاص على مدار الساعة ولا يفوت فرصة الحضور والمشاركة الافتراضية فيها للظهور بمظهر الفاعل والمتضامن أو الرافض والمتنمر، فهو يخشى نسيانه في حالة الانقطاع وعدم قبوله اجتماعياً لذلك قد يقوم بأشياء مخالفة للأعراف كي يستعيد حضوره، كأن يسرق مقولات الآخرين، أو ينشر أخباراً كاذبة وصوراً مركبة أو مفلترة، وقد يتنمر على الآخرين لا لخطأ فيهم وإنما لأنهم أكثر استعراضاً وشهرة منهم .. وتضيف الدراسات أن ساعات الحضور على وسائل التواصل ترتبط بمستوى إحساس المرء بالعزلة الاجتماعية والاكتئاب والغيرة وسوء تقدير الذات…
بالطبع فإن الأنظمة العربية الاستبدادية، التي همشت الفرد طوال قرون، هي المسبب الأول لتضخم الأنا المبالغ فيها على وسائل التواصل، حيث الرفض للسياسات الداخلية يشعر الفرد بأهميته بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه السياسات (أنا أعارض، إذاً انا موجود)، فكانت منصات التواصل أكثر تأثيراً من الإعلام الرسمي الذي انفض الجمهور عنه ولم يعد يتابعه أحد سوى صانعيه، لذلك نجحت هذه المنصات باستقطاب الجمهور وتحريضه ضد حكوماته، ولكنها لم تتمكن من تحسين أخلاقه وحياته، لأن المؤسسات لا المقاهي الإلكترونية هي ما تبنى عليه الدول القوية…
5
لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي شكلت نقلة جديدة في الحضارة الإنسانية، غير أنها في البلاد العربية، التي تستخدم وسائل التقدم لتعزيز التخلف، ساهمت في تنمية الغيرة والحسد والشهوة والغش والكذب والنفاق والخيانة والتمرد والتطرف والإرهاب والميوعة والشذوذ وضعف التواصل مع العائلة، حيث يعرف المرء عن الأغراب أكثر مما يعرف عن أسرته، وعندما تجتمع الأسرة مع بعضها تفرقها أجهزة اتصالها، وكل ذلك يساهم في الانشغال غير المجدي وبالتالي عطالة وضعف إنتاجية المجتمع، وتعزيز الفرقة والغربة الروحية وضعف الثقة بالذات والكثير من الأشياء السيئة مقابل القليل من الأشياء الجيدة كاستعراض الذكاء والعطاء، ولا علاج لذلك حتى الآن حيث تبدو نصائح الوعاظ قديمة ومضحكة، وحضور الكتاب والباحثين والمفكرين ضعيفاً، ذلك أن النفس البشرية تميل إلى السهولة والمتعة والاسترخاء والتحرر من القيود الأخلاقية، فأهلاً بكم في العصر الإلكتروني الذي جعل من العالم غابة كونية موحدة وعزز النمط الأمريكي الاستهلاكي على حساب ثقافات بقية الأمم، فقد سبق ورأينا بعض تطبيقاته في أحداث (الربيع العربي) حيث ارتكبت تنسيقياته الإلكترونية كل ما تقدم من شرور تحت شعار "الحرب خدعة" نسبة إلى الحديث المنسوب للرسول الكريم، مع أن الرسل لا يجب أن يخدعوا أو يكذبوا أو حتى أن يحاربوا طالما أن المرسل ليس بكاذب أو خداع كما يفترض المنطق الإلهي، وبالتالي فقد ربح أصحاب دكاكين التواصل الاجتماعي وخسر المستهلكون أيا كان عرقهم أو دينهم أو توجههم السياسي.
وبالعودة إلى نظرية بريجنسكي عن الأخلاق الإلكترونية أذكر قصة للناشئة قرأتها في مجلة "سوبرمان" سبعينيات القرن الماضي حيث كان يعربها ويطبعها ويصدرها لنا الإخوة المصريون، إضافة إلى مجلات "ميكي" و"الوطواط" الأمريكية… وتتحدث القصة عن رحلة سوبرمان إلى كوكب كريبتون الذي ولد فيه، بعدما تسرب إليه تسجيل يقول فيه طيف والد سوبرمان لوالدته: لقد أوشكنا على ارتكاب أفضل جرائمنا يا لارا!؟ الأمر الذي دفع سوبرمان للسفر في الفضاء لمعرفة الحقيقة، كونه يحمل مفهوما أرضياً عن الأخلاق والوصايا.. وعندما دخل كوكب كريبتون شاهد الناس يرتكبون جرائمهم بنشاط وثقة وإيمان بعظمة وأهمية ما يقومون به، وعندما تدخل سوبرمان لحماية مواطن كريبتوني من عصابة تشليح تسبب العراك وإنقاذه للضحية بتحطيم واجهة زجاجية، فحضرت الشرطة وحققت معه، وبعدما روى الحادثة واعترف يتحطيم واجهة المحل وصد الأشرار عوقب بالسجن لأنه قال الحقيقة ولم يكذب، إضافة إلى تهمة عرقلة عمل المجرمين، إذ أن الوصايا هناك تقول: اكذب اسرق اقتل!؟ والواقع أن أفلام الكرتون الأمريكية كانت تنطلق من نفس الرؤيا التي تحدث فيها بريجنسكي عن عصرنا هذا حيث العاهرة نجمة والجبان بطل والقواد مثال واللص مستثمر والشواذ هم الأصل والطبيعيون استثناء… كل ذلك يؤكد نمطاً جديداً من الأخلاق والعادات والثقافات لها قادتها وأنبياؤها وتجارها حيث يرتد الكوكب نحو عمائه البدئي…
على الهامش: قالت المرأة الحسناء لزوجها الكاتب: بدك تعطيني فكرة بوست يكسر الدنيا! فنظر إليها بهدوء وقال: اكتبي سأقتل زوجي هذا المساء.. فلم تكذب خبرا ونشرت الحسناء على صفحتها ماقاله زوجها الكاتب الذي كان يرغب في موته الإفتراضي بالتوقف عن الكتابة في بلاد لاتقرأ بقدر ماتتصفح وتتسلى.. وبالطبع فقد أثار إعلان الزوجة على الفيسبوك إعجاب آلاف المعلقين وكان من بينهم بعض أصحاب الكاتب الذين وضعوا (أحببته) بل أن أحد مريدية علق ب (أدعمه) !
نبيل صالح: هاشتاغ
التعليقات
مقال رااائع وتوصيف دقيق…
مقال رااائع وتوصيف دقيق للحالة الراهنة التي نعيشها ..
(أصبح المستهلك الإلكتروني يعرف شيئاً عن كل شيء ولكنه غير مختص في أي شيء!)
لا فض فوك و بارك الله بقلمك…
لا فض فوك و بارك الله بقلمك.. للاسف هذا ما وصلنا اليه عزلة مع ذواتنا وعيش في قوقعة لا تحمينا من العصف في الخارج .. لقد شخص المرض فما العلاج؟؟
إضافة تعليق جديد