مناقشة بيان الأزهر حول محظورات العيد
د.سامح عسكر:
أمس وبتاريخ 8 يوليو 2022 أصدر مركز الأزهر العالمي للفتوى بيانا بعنوان "محظورات العيد" ومن تلك المحظورات التي ينهي عن فعلها الأزهر (عدم تناول المحرمات) و (التزام الشعب بضوابط وأوامر الإسلام) و (عدم خروج المرأة مُتزيّنة أو بغير حجاب)
سأتجاوز عن المحظورين الأول والثاني برغم خطورتهم في تقنين ما تسمى "جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فقصة عدم تناول المحرمات أو الالتزام بضوابط الإسلام" يمكن تفسيرهما بالأفعال المخفية ومراقبة المسلم لنفسه، برغم أن فحوى البيان ولغته تحتمل غير ذلك كرسالة مباشرة لمن يقدر على تغيير المنكر بيده، فلولا أن البيان تمت عنونته (بالمحظورات) لقلنا أنها مجرد فتوى فقهية أو رأي شرعي اجتهادي، لكن انتقال البيان من لغة الفتوى إلى لغة (الحظر) يعني انتقال الفتوى إلى حكم قانوني عملي يجب على الشعب تطبيقه فورا، وهذه فحوى خطورة البيان في تأسيس وترسيخ الدولة الدينية بمصر وإنهاء ما تبقى من الدولة المدنية التي حاول الإخوان المسلمين القضاء عليها بعد ثورة يناير 2011
أما تحذير الأزهر ضد غير المحجبات فهو ما لا يمكن السكوت عنه لعدم احتماله معانٍ أخرى غير التحريض المباشر على التحرش والعدوان على غير المحجبات، فسياق البيان بحظر خروج النساء غير المحجبات يعني رسالة مباشرة للمجتمع بالنهي عن ذلك ..وهو كما قلنا هو انتقال عملي للفتوى الفقهية - الصادرة عن المركز - إلى قانون اجتماعي سوف يكون بديلا عن قانون الدولة ومنافسا له أو ربما يلغيه إذا لزم الأمر، أو إذا نجحت تيارات العنف في حكم مصر وإلغاء الدستور المدني رسميا..
يجب الانتباه هنا لتجارب الدول التي فرضت الحجاب في القانون واستخلاص التجارب منها، على سبيل المثال فالحجاب المفروض لا يمثل قناعة نسائية في الغالب أكثر من كونه عقوبة اجتماعية وقانونية ضد المرأة ترسخ الفهم الذكوري للدين والحياة، ومن هذه الجزئية رأينا مشاهد خلع نساء إيران والسعودية وأفغانستان للحجاب فور صعودهم للطائرة، صحيح تخلصت السعودية من بعض هذه القوانين والأعراف - من ضمنها تقييد سلطة المحتسب - لكن الماضي للذكرى والاعتبار، أن حجاب المرأة يمثل هوية دينية واجتماعية لها من أُثر العادة، وأنه لم يعد بفعل ممارسته يعني ضمنيا (العفة والحشمة) فسواء كانت المرأة محجبة أو غير محجبة لا علاقة لذلك بعفتها التي محلها القلب والسلوك لا في الشكل والمظهر.
فمفهوم الحشمة مثلا هو أوسع شمولا من قصة غطاء الرأس..كما أنه يُطلق على الرجال والنساء بمعنى الحياء والأدب والوقار..وهذه سلوكيات عند غير المحجبات عادي، بينما توجد محجبات غير محتشمات في سلوكهن ومظهرهن العام مثلما يوجد رجال لا يحتشمون سلوكيا، أي لا حياء ولا وقار ولا أدب..أما مفهوم العفة هو مرتبط بنفس المعنى للحشمة لكنه يتضمن أيضا معانى "التخلي والزهد" فالعفة هنا للرجال والنساء كما للحشمة، والإنسان العفيف هو الذي يتخلى عن شهواته وأطماعه، فيكون بيان الأزهر هنا بحظر خروج النساء غير المحجبات هو تقنين لخروج المحجبات غير المحتشمات سلوكيا والذين لا حياء لهن ولا وقار ولا أدب، وتصريح أيضا بخروج النساء غير العفيفات بما يعني نشر سلوك الفُحش والمجون في المجتمع، وقد يستغرب الأزهري والسلفي من هذا الكلام..لكنه لن يستغرب بعدما يفهم جيدا لماذا مجتمع مصر كان آمنا على النساء قبل 50 عاما، وأن غياب الحجاب كليا عن مصر في هذا التوقيت لم يمثل أي خطورة على أخلاق المجتمع، بل كانت أخلاق الناس أفضل إذا قارننا حوادث التحرش الجماعي التي تحدث حاليا بلغة التحرش وحوادثها في هذه الفترة الزمنية..
لا أتحدث عن الجانب الذكوري من البيان فهو واضح، ولست بوارد الرد على هذا الجانب فمقالاتي السابقة عن الحجاب عرضت فيها لتحليل الظاهرة من بعض الجوانب العقلية والفقهية، لكن الخطورة التي مثلها البيان هي في انتقال الفتوى والرأي الفقهي من الشيخ إلى محظور اجتماعي مثلما أًصدر بذلك المركز العالمي للفتوى أمس، وهو تطور خطير في سير الخطاب الديني للأزهر ينقله من اعتبار رأي الأزهر كونه رأيا فقهيا يقبل الاجتهاد والمناقشة إلى كونه قانون للدولة يجب العمل به فورا، وبالتالي فيجب على نفس المنوال أن نطبق تعاليم الأزهر الأخرى القاضية بتطبيق الحدود الشرعية وإلغاء الدستور الحالي الذي ينص على علاقة اختيار بين الحاكم والمحكوم، بينما شريعة الأزهر لا زالت ترى أن هذه العلاقة الاختيارية ضد الإسلام كونها تجيز الحكم بغير ما أنزل الله، وهو نفس المعتقد السائد عند الجماعات الإرهابية الذين يريدون الانقلاب على الدولة الحديثة والعودة بمصر للقرون الوسطى والحُكم الثيوقراطي الديني..
لو سألت نساء إيران وأفغانستان غير المحجبات ممن يعتادون السفر ترى أن غطاء الشعر ليس جزءا من هويتهم، وأنهن أجبرن على ارتدائه في دولهن ، وأنهن يشعرن بالاغتراب النفسي عن أوطانهن فصار من الطبيعي مشاهد خلع غطاء الرأس في الطائرات حتى قبل أن تغادر مطار الدولة الأم، وهو مشهد اجتماعي فاضح لرجال الدين يدل على أن كافة معاني الحشمة والعفة والوقار التي أطلقوها على المحجبات ونزعوها عن غير المحجبات ليست ذات معنى ، وهي غير حقيقية على الإطلاق..فالنساء الذين يخلعن الحجاب في الطائرة وصفوا في مجتمعهن بهذه الأوصاف رغم أن حقائقهم ضد هذا الحجاب بالأساس، وهو فارق كبير بين الجوهر والمظهر يصر رجال الدين على إهماله والتغاضي عنه وتحاشي مناقشته مع المثقفين والأكاديميين وعلماء الاجتماع، فالقصة أبعد من كونها التزام بأمر ديني ولكنها إجبار عنصر أساسي من الشعب يمثل نصف عدد السكان تقريبا على فعل أمر لا يرغبوه ولا يقتنعون به، فالنتيجة المتوقعة هي اغتراب نفسي عن الوطن وعدم شعور بالقضايا المشتركة، ومآلات ذلك على سلطة القانون كبيرة حيث يجري التحايل عليه ليس بأعداد فردية ولكنه تحايلا جماعيا يُحرج الدولة والمسئولين..
في مصر لا ينحصر كشف الرأس على النساء العلمانيات، بل يوجد من يتبنون أفكارا أصولية سلفية من النساء لا يلتزمون غطاء الشعر، والبعض من هؤلاء عرفوا في الوسط الفني والإعلامي وهم منتشرين في الطبقات الوسطى والعليا، لكن الطبقة الدنيا الكادحة والتي تمثل أغلبية الشعب هي التي انتشر فيها الحجاب لأسباب ليس هنا موضع ذكرها، وهو دليل اجتماعي أن هذا الملبس هو زيّ طبقي نسائي في جوهره ليس ملبسا دينيا على الإطلاق، لكن الإسلام السياسي خاض معركة قبل 50 عاما لنشره بدعم مالي وسياسي هائل ولافتات في الشوارع وبرامج دينية وصحف واختراق للطبقات العليا والمسئولين أدى لتحجيب نساء مصر في ظرف عدة عقود..
في المقابل توجد نساء علمانيات في مصر محجبات ، وقد امتثلن لهذا الملبس ليس عن وازع ديني بل عن سلطة اجتماعية موروثة من الأسرة..وهذا التناقض لا ينتبه إليه رجال الدين الذين يربطون بين كشف الشعر والعلمانية، فالمرأة العلمانية ترى هويتها ضد الإسلام السياسي وخلط الدين بالدولة فقط، لكن لا تربط هويتها بالمظهر، توجد نساء علمانيات يرون هويتهن في غير الحجاب وهذا صحيح لكن هذه المعركة منها حدثت ضمن سياق معركة أكبر ضد الإسلام السياسي على اعتبار أن هذه الجماعات هي التي تأمر بالحجاب وبالتالي فعليها معارضة هذا الأمر، ومن تلك الزاوية تشكلت هوية النساء العلمانيات المعارضات للحجاب، لكن هناك علمانيات لا يفكرن بهذا الشكل، حيث يرون الملابس قصة اجتماعية بحتة خاضعة للعُرف الاجتماعي ..وأن العلمانية لا تعارض لبس الحجاب شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى سلطة لرجال الدين في القانون والمجتمع..
لن أطيل على حضراتكم ..وما أود قوله أن بيان الأزهر خطير فهو علاوة على قفزه عن مناقشة الحجاب دينيا وقرآنيا، وفوق أنه يختصر المرأة في قطعة قماش على الرأس لدرجة حصر محظورات العيد بشأنها في هذا الغطاء ..مما يعد إهانة لملايين النساء، هو يحرض بشكل مباشر على التحرش والعدوان بغير المحجبات، وتحويل رأيه الفقهي القابل للاجتهاد والمناقشة إلى قانون اجتماعي مُلزِم، في وقت حوادث التحرش وقتل النساء منتشرة في الشرق الأوسط أشهرها قتل نيرة أشرف في مصر وإيمان رشيد بالأردن، فالتوقيت الذي خرج فيه البيان لم يُراع هذا السياق العنيف، ولغة البيان الحادة بعنوان (محظورات) لا تترك فرصة للتفكير والاختيار عند بعض الشباب الذين سوف يعتدون على النساء وهم مقتنعين أنهم يطبقون تعاليم الشرع التي أمر بها الأزهر وتحولت مصر من خلالها إلى دولة دينية للكهنوت، وسوف يظل هذا المقال تأريخا لهذه الحقبة الزمنية ومحاكاة لظرفها الاجتماعي والسياسي حتى أننا قد نلتقي في المستقبل وقد استجابت لنا الدولة في الحد من هذه السلطة الدينية الجديدة التي تريد فرض نفسها على المصريين، أو لا قدر الله تكون مصر تحولت لأفغانستان أخرى فيكون هذا المقال هو نقل لمشاعر مصري قبل التدمير
إضافة تعليق جديد