البعد السياسي في صلاة الجمعة
د.سامح عسكر:
جاءني سؤال من صديق: لماذا حكم تارك الصلاة عند الفقهاء هو القتل؟..لماذا يتشددون في عبادة خاصة كهذه لن يتضررون منها، فالمصلي لا يفيدهم بشئ ولن يضرهم..
قلت: عزيزي.. التاريخ يحكي إلى وقت قريب أن الفلاحين في القرى لم يعرفوا صلاة الجمعة بسبب قلة عدد المساجد وانعدامها في المجتمع القروي بشكل شبه تام، بينما أكثر مساجد الدولة على الإطلاق كانت في المدن وبعدد محدود يسهل السيطرة عليه..
كانت المساجد في القرى فردية أو جماعية صغيرة تسمى (زاوية) بينما ثقافة بناء المساجد في القرى لم تنتشر سوى في القرن 20 وقبل هذا الزمن كانت معظم قرى مصر – على سبيل المثال – بلا مساجد وبالتالي بلا خطبة جمعة وبلا صلاة جماعة..
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن التشدد في عقاب تارك الصلاة له (سبب سياسي) متعلق بالولاء للحاكم قديما، فالمدينة هي مركز الحكم ومنتهى القوانين وفيها الشرطة والجيش والعسس والجواسيس، أما القرى فكانوا يحكمون أنفسهم بالعُرف بعيدا عن سلطة الدولة، وتتلخص علاقتهم بالسلطة عن طريق الضرائب السنوية (كالجزية والخراج) فقط لا غير..ويكون تحصيلها من رحلة "جند الملك" للأرياف لا تتكرر سوى كل عام..
كان حضور سكان المدن للصلاة واجب كطقس من طقوس الولاء للحاكم ضد خصومه، فقديما كانت الحروب الدينية مشتعلة والمؤامرات السياسية وقتل الأمراء لا يتوقف، أذكر أنه وفي عصر المماليك كانت فترة حكم سلاطينهم قليلة عبارة عن أعوام أو بضعة شهور ويحكي التاريخ أن العصر المملوكي شهد 20 اغتيال ناجح للأمراء والسلاطين وكذلك 35 انقلاب ناجح فطبيعي أن الحاكم والسلطان يطمئن لنفوذه وسلطانه بصلاة الناس حوله وإعلان مبايعتهم له بشكل متكرر، علما بأن جذور قتل تارة الصلاة ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، لكن معظم فتاوى القتل خرجت في العصر المملوكي، وتمثلت بشكل واضح في كتب ابن تيمية واستمرت طوال العصر العثماني كظاهرة دينية على تمدد المماليك وحكمهم بعد قرار الباب العالي بالاعتماد على المماليك في الحكم وقصر العلاقة بين الناس والخليفة العثماني بالضرائب الموسمية المشهورة (الجزية والخراج والعشور)
فالفقهاء لم يتشددوا في إجبار الناس على الصلاة من عندهم بل كانوا مجبورين عليها من الساسة والأمراء والأدلة على ذلك كثيرة :
أولا: كل طائفة وفرقة قالت بمنع الحكم على إيمان الناس (كفّروها) وأشهر هذه الفرق (المرجئة والمعتزلة) فالمرجئة قالوا بأن مرتكب الكبيرة لا نعلم أمره ويؤخر الحكم عليه ليوم الساعة، بينما المعتزلة رفضوا تكفير مرتكب الكبيرة وبالتالي لو شخص عادي لا يُعاقب..بينما لو أمير يُعزَل فورا لأن الشرط الأول في الخليفة هو الإيمان والصلاح..علما بأن شرط المعتزلة صلاح وإيمان الأمراء كان سببا لثورة الحكام الأمويين والعباسيين عليهم واضطهادهم لاحقا، بينما لم يتشددوا في الحكم على عوام الناس ولم يذهب معظمهم لعقاب العامة على الكبيرة إلا بالتعزير، وهي عقوبة سياسية موكولة للحاكم قال بها بعض فقهاء المعتزلة خشية السيف لا أكثر، لكن مذهبهم واضح بوجوب الحرية والاختيار في الإيمان وما يتعلق به من العبادات ..
ثانيا: مذهب السنة كالخوارج في عقاب تارك الصلاة، كلاهما يقول بالقتل..وحدث ذلك لأن كليهما مذهب سلطوي سياسي فكان الأمير يضع الحكم الديني ويفرضه على فقهاء المذهب ، لذا كانت الصلاة في المسجد عند الأمير (الخارجي والسني) فريضة واجبة كدليل على المبايعة السياسية له ضد خصومه..ولما قلناه أن عدد المساجد القليل جدا والمحدود في المدينة يعطيهم القدرة على التحكم والسيطرة وعقاب الخارجين عن هذا القانون..
ثالثا: الشيعة لم يتشددوا في عقاب تارك الصلاة لأنه وفي معظم تاريخ الإسلام لم يكونوا حكاما ولم يسوسوا الناس ويفرضوا شريعتهم، لذا خرج مذهبهم ليس عنيفا ضد تارك الصلاة مثلما عليه السنة والخوارج، لكنهم قالوا بكفر تارك الصلاة إذا كان منكرا لوجوبها وهذا مما استنبطه فقهاء المسلمين (عامة) من آي القرآن ودخل المذهب الشيعي طبعا..
رابعا: مذهب أبي حنيفة الأصلي كالشيعة في عقاب تارك الصلاة، لا يقول بالقتل بل يحكم عليه بالفسق والتوبة فقط، وهذا المذهب مشهور في كتب التراث عن أبي حنيفة خالفه فيه بعض تلاميذه من أثر الضغوط السياسية لاحقا في العصر العباسي الثاني، وهذه من أسباب غضب الخلفاء والحكام على أبي حنيفة واتهامه (بالإرجاء) في حياته وبعد وفاته..ويمكن اعتبار موقف أبي حنيفة من تارك الصلاة واتهامه بالإرجاء (دليلا قويا) على أن عقاب تارك الصلاة بالقتل هو عمل سياسي بالدرجة الأولى، وسبق أن شرحت في محاضرتي عن المرجئة كيف أن هذه الطائفة هي من أكثر طوائف وفرق المسلمين القديمة عقلا وتسامحا وأن غضب الحكام عليها لرفضها تكفير وقتل الناس على أساس الدين والطقوس والعبادات هو السر وراء تشويهها ونسج الأكاذيب عليها في كتب المؤرخين,,
خامسا: مذهب الشافعي الأصلي كالشيعة والأحناف أيضا، لم يقل بكفر وقتل تارك الصلاة إنما هو قول متأخري المذهب خصوصا في العصر المملوكي لما قلناه بصدر المقال لأسباب سياسية، فمذهب الشافعي الأصلي مروي بمناظرة مشهورة بينه وبين ابن حنبل ، فقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية أن الشافعي وأحمد تناظرا في تارك الصلاة فقال الشافعي : يا أحمد ، أتقول إنه يكفر ؟ قال : نعم ، قال : إذا كان كافرا فبم يسلم ؟ قال : بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله . قال الشافعي : فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه . قال : يسلم بأن يصلي . قال : صلاة الكافر لا تصح ، ولا يحكم بالإسلام بها ، فانقطع الإمام أحمد.
علما بأن الشيخ الشعراوي عندما قال بكفر وقتل تارك الصلاة نقل ذلك عن ابن تيمية وفقهاء الشافعية بالعصر المملوكي، لا قول الشافعي نفسه وموقفه المشهور ضد ابن حنبل في ذلك، فالشعراوي كان فقيرا بالتاريخ والسياسة وعلم الاجتماع ولولا فقره بهذه العلوم ما أفتى بقول ابن تيمية الحنبلي في مذهبه الشافعي، ولمن يشأ الاطلاع على محاضرتي عن الشعراوي التي استمرت ما يقرب من 3 ساعات تجدوها على اليوتيوب ففيها شرحا وتفنيدا ونقدا لفكر الشعراوي وفتاويه ومواقفه بشكل مختلف..
أما الآن ومع الثورة غير المسبوقة في بناء المساجد وزيادة عدد الناس لأرقام قياسية والمسلمين لأكثر من 1700 مليون نسمة حول العالم صار عقاب تارك الصلاة (عمل مجنون) ومن يدعو إليه أحمق يشعل الفتن والفوضى والقتل المجاني بالمجتمع، وسيؤدي به الوضع لقتل معظم الناس خصوصا مع نظام الحياة العصري والمميز ب (التكنولوجيا والصناعة) فجعل من وقت فراغ الناس بسيطا وهذا لم يكن عليه وضع البشرية في المدن، حيث وقبل الثورة الصناعية كان وقت فراغ الناس كبيرا في المدن فيسهل محاسبتهم وحملهم على الشريعة، لكن عند الفلاحين كان الوضع مختلفا، لأن وقت فراغهم بسيطا كان الفلاح يقضي معظم وقته في رعاية حقوله ومواشيه، فحتى لو كان هناك مساجد لديه لن يحضر معظم صلوات الجماعة فيها، بالتالي لو كان هناك عقابا لتارك الصلاة لديهم يصعب تنفيذه ، واعلم ياسيدي أن كافة نصوص الشريعة والتاريخ المكتوبة هي تحكي أجواء المدن وسيرة الحكام ولم تهتم مطلقا بالفلاحين والأرياف والطبقات الكادحة..
إضافة تعليق جديد