عالجوا التطرف بالسعادة والترفيه
د.سامح عسكر:
في قريتنا بمحافظة الغربية كان يوجد ملعب كرة قدم حتى منتصف التسعينات، لم يكن مجرد ملعب بل كان احتفالا لكل أهالي القرية ومكانا للمناسبات والولائم والحفلات..
كل من يشعر بالضيق يذهب ليفك عن نفسه بمشاهدة الشباب ومباريات كرة القدم والطائرة، وكل من يشعر بالملل والتعب من أعمال الفلاحة المُرهقة يذهب إليه ليجد أصحاب السمر واللهو فيملأ المكان بهجةً وسعادة، لم تعرف قريتنا الأوبئة الكبيرة عضويا ونفسيا طوال هذه الفترة، ولكل فلاح وأسرة وبيت وشارع جلسات خاصة بين العائلات والأصدقاء يذهبون فيها للذكريات والضحك ليلا ..فإذا كان هناك مشكلة تجد أهالي القرية كالجسد الواحد..
كان المسجد مكانا للعبادة فقط وليس تجمعا للتعارف والترفيه، فقد كان الملعب يؤدي هذا الدور ببراعة..ففيه كانت تعقد الولائم والمناسبات والمنافسات ..ولم يسيطر على تلك المناسبات والتجمعات في الملعب جماعة بعينها لطبيعة المكان الترفيهية بالأساس، والتي كنا نسمع فيها الأغاني والأهازيج في الدورات المجمعة التي يأتي إلينا فيها شباب القُرى المجاورة ليصبح الملعب كرنفالا يشعر الناس فيه بالتغيير والحيوية الدائمة..
منذ بداية عام 1996م تغير الوضع..حيث دخل أحد الأهالي في منازعة قضائية حول ملكية الملعب، وعندما ربح القضية تم تجريفه والبدء في زراعته واستثماره لصالح المالك، هنا لم يعد في القرية ملعبا ولا تجمعا للشباب والأهالي كما كان، وفي ظل الوعود بقرب توفير ملعب بديل ركن الناس إلى بيوتهم حتى كثرت المقاطعات بين العائلات والأصدقاء، وتحت الضغط النفسي كبرت المشاكل وتضخمت على أتفه الأسباب..
كان بناء على هذا التفكك الاجتماعي سيطر الإخوان على القرية بثلاثة وسائل:
الأولى: تم استبدال الملعب بالمسجد..فصار مسجد القرية الكبير هو مكان التعارف واللقاءات الاجتماعية المفقودة بعد تسليم الملعب القديم، وحيث أن الإخوان والسلفية مسيطرين على المسجد صار التعارف والاجتماعيات يحدث من خلالهم فزادت قوتهم أضعافا عن ما كانوا عليه..
الثانية: شعر الناس بالملل والضيق النفسي بفقدان الملعب فاضطروا لملازمة بيوتهم حتى مرضوا نفسيا وكثرت الشكاوى والأوجاع والأمراض..وبدأت القرية تخسر مئات من أبنائها إلى اليوم جراء تفشي الاكتئاب والمقاطعات وكراهية الحياة التي لم تعد ممتعة، ومن هذا الباب دخل السلفيون والإخوان لتذكير الناس بالموت واللعب على مساحة الدين المخزونة في وعي الفلاحين، فاستبدل الأهالي جنة الدنيا التي كانوا يشعروها بجنة الآخرة التي وعدهم بها التنظيم وشيوخ السلفية إذا أطاعوهم..
الثالثة: تحريم كل وسائل اللهو والانفتاح والسمر..فتم منع انعقاد المولد النبوي كل عام، والضغط على الأهالي بعدم تشغيل الموسيقى والأغاني في الأفراح واستبدالها بأناشيد إسلامية وجهادية لصالح حركة حماس، حتى أن مولد سيدي "حسب الله الرفاعي" والذي كان مناسبة احتفالية كبيرة بقرية "محلة زياد" المجاورة تم تحريمه ومنع الناس من الذهاب إليه، فقد كان أسبوعا احتفاليا للأهالي ومصدر سعادة للفلاحين كل عام..
من تلك الوسائل الثلاثة استبدل الناس أذواقهم الاجتماعية من الانفتاح واللهو إلى الانغلاق والتشدد، حتى صار مجرد استقدام فرقة موسيقية تحيي حفلات الزفاف نقيصة دينية واجتماعية في حق العائلة، ثم استبدل الناس سعادتهم في الأفراح والموالد بخُطَب المساجد والصوت العالي المرافق لها الذي يحذر الناس من فتن الدنيا ويذكرهم بالقبر وجهنم وشجرة الزقوم..
تخيل حضرتك أن ذلك حدث بمجرد فقدان ملعب كرة، وحتى الآن لم تنجح وزارة الشباب في توفير ملعب بديل حتى هجر الشباب القرية ولزم كل فلاح بيته ليُصاب بالأمراض تباعا حتى الموت، وكان من جراء ذلك أن كثرت حالات الشلل الكلي والجزئي التي كنت شاهدا على بعضها في أصدقاء وفلاحين معروفين بالأخلاق والسيرة الحسنة، لكن شللهم هو نتيجة طبيعية لما حدث من تغيير اجتماعي كبير وفقدانهم للأصدقاء والمحبين
منذ عامين تطوع بعض كبراء عائلتنا "عسكر" في إحياء الموالد والحفلات الدينية مرة أخرى..فتم استقدام بعض المنشدين والموسيقيين ليخرج أبناء القرية من بيوتهم لأول مرة منذ 25 عاما كأنه يوم الحشر، وشهدت إحدى هذه الحفلات لسيدي "حسب الله الرفاعي" فرأيت وجوها ضاحكة وسعادة كانت مفقودة منذ أعوام طويلة، والبسمات على شفاه الفلاحين تصرخ بالتمرد على حياة الذل والقبور التي وضعهم فيها الشيوخ في لحظة ضعف وجهل..لكن تبقى مشكلة الملعب لأهالي القرية كبيرة الكبائر..ومع وعود كل نائب ومرشح للبرلمان في حلها تخفق قلوب الفلاحين لكن دون فائدة..فالشيوخ والإخوان مثلما كذبوا على الأهالي ووعدوهم بالسعادة كذب النائب في توفير الملعب..وكأن قدر الفلاحين أن يقعوا ضحية لثنائي النصب الأزلي (رجل الأعمال ورجل الدين)..
إضافة تعليق جديد