طه حسين والشعر الجاهلي
حين نشر الدكتور طه حسين كتابَ “في الشعر الجاهلي” في عام 1926م، تعرَّض لعاصفةٍ كبيرةٍ من الهجوم؛ نتيجةَ أفكاره النقديّة والبحثيّة المهمة التي نشرها بالكتاب، والتي كانت معبرةً عن عقليةٍ باحثةٍ عن الحقيقة وسط ركامٍ من الأساطير التي يعجُّ بها تاريخُ الشعرِ والأدب العربيّ.
طه حسين في كتابه يضربُ جبلَ الجليد بفأسِ علمه، ويحطمُهُ ويفتحُ أبوابَ العقل الذي يركن للقديم وللموروث، ويضعُ ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ حوله ببراعة. يحطم الدكتور طه حسين كلَّ الثوابت، وينقر بإزمليه على جدرانِ العقول المتحجرة، ليفتحَ أوّلَ نافذةٍ للضوء في تاريخ النقد العربيّ، والتي سار على طريقها الكثيرون. وبالرغم أن الدكتور طه حسين رضخَ للعاصفةِ الهوجاء، وحذف بعض الفقرات التي أثارت حمية التقليديين عند إصداره للطبعة الثانية للكتاب، إلا أنّ الطبعة الأولى الأصليّة للكتاب غدت متاحةً بنسخةٍ إلكترونيّة.
ومع حريّةِ المعلومات والإنترنت لم يعد هناك منعٌ أو تقييدٌ للقراءة الحرة؛ لأن هذا الكتاب هو من ضمن الكتب الرائدة في إيقاد الذهن، لذلك على من يبحث عن القراءة المختلفة غير التقليديّة أو المتكلّسة أن يبدأ قراءته في النقد بهذا الكتاب القيّم، الذي يعمل على إعمال العقل في الموروث الشعريّ. فالدكتور طه حسين في كتابه حاول أن يبرهن على عدم وجود الشعر الجاهليّ، وحاول أن يثبت في كتابه بأن قصائدَ الشعر الجاهليّ التي وصلت إلينا من كتب الأدب العربي القديم هي قصائد منتحلة؛ وذلك لعدة أسباب من بينها كما يقول الدكتور طه حسين: “بأن بعض الشعراء في العصر الأموي والعباسي شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب مطابق في ألفاظه للغة العرب؛ فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيءٍ من شعراء العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيلَ إلى الشك في عربيّتها”
كذلك يقول الدكتور طه حسين بأن للأهواءِ السياسيّة دورٌ في انتحال الشعر ونسْبه للعصر الجاهلي، نتيجة الحروب التي كانت تقع بين القبائل العربية. فللعواطف الدينية على اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسيّة من التأثير في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليّين.
قد يهمك: الشعر الجاهلي قَيْدَ المُحَاكَمَة: كيف كان يرى طه حسين شِعْرَ الجَاهِليِّين؟!
ويستفيض الدكتور طه حسين في بحثه ويقول “بأنّ الشعر الذي يسمّونه الجاهليّ لا يمثل اللغةَ الجاهليّة؛ وذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم كثيرًا من الشعر الجاهلي قومًا ينتسبون إلى عرب اليمن أو القحطانيّة العاربة، التي كانت تتكلم لغةً غيرَ لغةِ القرآن الكريم، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء إن لغتها مخالِفةٌ للغةِ الغرب، والتي أثبت البحثُ العلميُّ الحديث أن لها لغةً أخرى غير العربية، ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضافُ إلى شعراء القحطانية، أي: العرب العاربة في اليمن، لا نجد فرقًا كبيرًا بينه وبين شعراء العدنانية، أي: العرب المستعربة في مكة والمدينة، بل لا نجد فرقًا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن، فكيف يمكن تفسير ذلك وتأويله؟ ويجيب الدكتور طه حسين على السؤال الذى طرحه بالقول: أن أمرَ ذلك يسير، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانيّةِ قبل الإسلام ليس من القحطانيِّة في شيء، ولم يقله شعراؤها، وإنما حُمّل عليهم بعد الإسلام لأسبابٍ مختلفة.
وفي فصلٍ آخر من الكتاب يستعرض الدكتور طه حسين كثيرًا من الحكايات والقصص في كتب الأدب العربي للجاحظ وابن قتيبة التي يحللها ويظهر كذبَها وانتحالها.
وفي القسم الثاني من الكتاب يضع تحت مِشرط نقده ودراسته البحثيّة أبرزَ شعراء العصر الجاهلي من خلال خمسة فصول ويبدؤه بفصل “قصص وتاريخ“، “امرؤ القيس وعبيد وعلقمة” و”عبيد بن قميئة ومهلهل وجليلة“، و”عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة” و”طرفة بن العبد والمتلمّس“.
ويبدأ بالشاعر امرئ القيس ويسرد قصته المعروفة ويقارنها بقصةِ حفيده عبد الرحمن بن الأشعث، حيث يظهر الشبه بين قصتيّ حياتهما، ولذلك يرجح بأن امرأ القيس هو شخصيّة متخيَّلة، حاول بها الرواةُ التمثيلَ لحياة عبد الرحمن بن الأشعث الذي حارب سلطة بني أميّة، واستعاروا له اسمَ الملكِ الضّلِّيل. وحتى شعر امرئ القيس فهو في قسمٍ كبيرٍ منه شرحٌ لقصة حياته التي انتحلها الرواة في ظل التنافس القويّ الذي كان قائمًا بين قبائل العرب في الكوفة والبصرة، لذلك فقصائده المعروفة قد قيلت في العصر الإسلاميّ وليس في العصر الجاهليّ.
كما أن التفسير الثاني الذي يقدمه الدكتور طه حسين حول شخصية امرئ القيس المتخيَّلة بأنها أشبه شيءٍ بشخصية الشاعر اليونانيّ “هوميروس“، التي يؤكد مؤرّخو الآداب اليونانية بأنها وُجدَت ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئًا يمكن الوثوق به، فـ”هوميروس” أيضا تنقّل عبر المدن اليونانية، ومنها من قامت بتبجيله وضيافته ومنها من أعرضت عنه، وهذا تمامًا ما نقرؤه في سيرة حياة امرئ القيس المتخيَّلة، الذي تنقل بين القبائل العربية.
وفي رؤية وتحليل الدكتور طه حسين عن شعر امرئ القيس يقول: “بأنّ كل الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص، أما القسم الثاني من شعره وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها يتجسد في قصيدتان: (قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ) وقصيدته الثانية (ألا عِم صباحًا أيها الطللُ البالي)”.
كذلك يقدم الدكتور طه حسين برهانًا آخر على انتحال قصة امرئ القيس، وهو ما يتصل بأصله، وهي أن امرأ القيس -إذا صحّت أحاديثُ الرواة طبعًا- يمنيٌّ وشعرَه قرشيُّ اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه، ونحن نعلم بأن لغةَ اليمن مخالفةٌ للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمنيّ شعرَه بلغة أهل الحجاز، وخاصة أن لغة قريش لم تكن سائدةً قبل القرن السادس الميلاديّ؟
أيضًا يشكك الدكتور طه حسين في شخصيات قصائد شعراء آخرين من العصر الجاهليّ، مثل: عبيد وعلقمة. ويذكر بأن الكثرةَ المطلقة من شعرهم مصنوعة، ويوضح ذلك بمناقشةِ أفكار قصائدهم التي تتعارض مع العصر الجاهليّ، ومنها ذكر الإيمان بالله ووحدانيته في قصائدهم.
ويتحدث أيضًا عن عمرو بن قميئة والمهلهل بن الربيعة، الذي يقول الرواةُ بأنه خالَ امرئ القيس، وعمرو كما يزعم الرواةُ قد قُتل مع امرئ القيس على يد ملك الروم. ويفنّد قول الرواةِ بأن أوّل من قال الشعر هو المهلهل بن ربيعة خال امرؤ القيس، مبرهنًا على ذلك بالثغرات الموجودة بقصائده، التي لا تدلّ على أنها كتبت بالعصر الجاهليّ.
وفي فصلٍ آخر يتحدث الدكتور طه حسين، عن عمرو بن كلثوم الذي يقول الرواة عنه بأنه قتل ملكًا من ملوك الحيرة، فهو يكذّب الروايةَ متسائلًا هل يمكن أن يقتل ملك الحيرة بكل بساطةٍ وتقف المسألة عند هذا الحد بين آل المنذر وبني تغلب وبين ملوك الفرس؟ طبعًا ذلك لا يستقيم مع التفكير المنطقيّ والعقلانيّ السليم؛ وهو يعتبر ذلك نوعًا من أنواع القصص التي يرويها الرواة والقصاصين للمفاخرة بقبائلهم، كالتي تعجُّ بها أبيات قصيدته المشهورة التي يتفوّق فيها الاعتزاز بقومه للقول:
“ألا لا يَجْهَلَنَّ أحدٌ علينا
فنجهلُ فوق جهلِ الجاهلينا”
كما أن سهولةَ الألفاظ واللين في القصيدة، يتنافى مع حديثِ ولغةِ العربِ في منتصف القرن السادس الميلاديّ، وقبل ظهور الإسلام بنصف قرن.
وكما يقول الدكتور طه حسين “ما هكذا كانت تتحدثُ ربيعة، خاصةً في العصر الذي لم تَسُد فيه لغة مُضَر ولم تصبح فيه لغةَ الشعر“.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يعرض الدكتور طه حسين للحديث عن شاعرين آخرَيْن من ربيعة، وهما طرفة بن العبد والمتلمّس، الذي تقول قصصُ الرواةِ بأنه خال طرفة، لذلك جمعتهما قصص القصاصين والرواة مع بعض، ومنها قصتهُما المعروفة مع الملك عمرو بن هند التي قُتل فيها طرفة بن العبد، ويذكر طه حسين بأنه لم يُعثر للمتلمس على قصائد، وإنما بضعة أبيات ذكرهما ابن قتيبة في طبقات الشعراء، أما طرَفَة فلقد عُرفت له المطوّلة الشهيرة:
“لخولةَ أطلالٌ ببرقةَ ثهمدِ
تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ”
وأيضًا الرائية المشهورة وبضعة قصائد متفرقة.
ومن خلال بحثه القيّم بالكتاب يرى الدكتور طه حسين بأن أسبابَ انتحال الشعر الجاهلي عديدة: منها أسباب دينية، وأخرى سياسية وشعوبية وأيضًا سبب متصل بالرواة أنفسهم؛ وهم كما يقول بين اثنين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثرُ به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي فهم متأثرون بما يتأثرُ به الموالي من أسبابٍ تجعلهم يعملون على انتحال الشعر.
ويدعو طه حسين في آخر الكتاب القارئَ قائلًا: “يجب إعمالُ البحث والنقد فيما يسمّى الشعر الجاهلي، وعدم الارتكان لما وصل إلينا من الرواة وكتب الأدب القديم“. ولا يرى في إبطال الشعر الجاهلي أي خوفٍ على عربية القرآن، وكما يقول في آخر الكتاب: “أيُّهما أشد إكبارًا للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيّته، ذلك الذي يراه وحدَه النصَّ الصحيح الصادق الذي يُستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها، أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفّظ؟”.
المحطة
إضافة تعليق جديد