اختلاف أوجه الشر بحسب موقعك منها
أندريه كانت سبونفيل ـ ترجمة: يوسف اسحيردة:
يُحكى أن أحدهم اشتكى لابكتيتوس سرقة معطفه. فسأله ابكتيتوس : " هل تعتقد بأن امتلاك معطف يُعَدُّ خيرا؟". الآخر هز رأسه بالإيجاب دون تردد. فما كان على ابكتيتوس إلا أن أجابه : " طيب، أترى، سارقك كان يعتقد نفس الشيء !".
أحب هذه القصة. ليس فقط بسبب الابتسامة التي ترسمها (تبدو متأرجحة بين الفكاهة والرحمة)، ولكن لأنها تخبرنا بشيء مهم حول الشر: بأننا لا نرتكبه إلا في سبيل خير ما، أو من المُفترض أنه كذلك. لذلك "فلا أحد شرير بمحض إرادته"، كما يقول القدماء، أو بالأحرى، وكما سيقول كانط لاحقا، لذلك فلا أحد شرير، إذا كنا نعني بهذه الكلمة الأخيرة ذلك الشخص الذي قد يرتكب الشر من أجل الشر. لأنه سيكون بذلك شيطانيا، يشرح كانط، ولن يعود أبدا آدميا. وتبعا لذلك لا وجود للأشرار.
يُوجد فقط أوغاد، منحرفون ووُضعاء. إنها الأوجه البشرية الثلاث للشر، باعتبار أن الشيطانية هي وجهه اللاإنساني، وهي لا تملك سوى حقيقة استيهامية أو خارقة للعادة.
من هو الوغد؟ هو ذلك الشخص الذي يرتكب الشر للآخرين بدافع خَيْرِهِ الذاتي.
من هو المنحرف؟ هو ذلك الشخص الذي يرتكب الشر، ليس من أجل الشر (كما قد يفعل شيطاني)، ولا ببساطة بدافع من مصلحة أو أيديولوجيا (كما قد يفعل وغد)، ولكن من أجل متعة سوء التصرف ( في حين أن هذه المتعة هي، بالنسبة له، خيرٌ).
من هو الوضيع؟ هو ذلك الشخص الذي لا يقوم، باتجاه الغير، بكل الخير الذي يقدر أو يجب عليه، حتى أنه قد يسمح لنفسه بارتكاب القليل من الشر، إذا ما كان ينتظر من وراء ذلك خيرا كبيرا.
لنعد إلى لص ابكتيتوس. هو لم يقم بسرقة المعطف لأنه فعل سيء (هو ليس شريرا) ولا، مع بعض الاستثناءات، من أجل متعة سوء التصرف ( أغلبية اللصوص ليسوا منحرفين)، ولكن لاعتقاده بأنه من الجيد حيازة معطف. فقد غَلَّب مصلحته الخاصة على مصلحة الغير: تَصَرَّفَ بأنانية.
هل يتعلق الأمر بوغد، بوضيع، أو بكل بساطة بمحتاج؟ من أجل الحسم في ذلك وجب معرفة دوافعه الدقيقة، ومستوى بؤسه أو رفاهه، وثروة ضحيته من عدمها، بل وحتى الظرف الذي كان سائدا حينها...فرق في الدرجة عوض الطبيعة : نُخمن أن الحدود الفاصلة بين الوغد والوضيع ستكون ضبابية وغير واضحة...هي تفاهة الشر إذن، كما كانت تقول حنا آرندت. الأوغاد يظلون قلة بالمقارنة مع الجبناء والمتوجسين. وأي وضيع هو بمعزل، بشكل نهائي، عن الأسوأ؟
عندما كنت أشرح فِكر كانط، في جامعة السوربون، كان طُلابي يُواجهونني لا محالة بأمثلة السادي أو النازي. كانوا يقولون لي : " هؤلاء يرتكبون بالتأكيد الشر بدافع الشر".
ليس صحيحا. إذا كان السادي يرتكب الشر في حق ضحيته، فهذا لأن المعاناة التي يلحقها به تشعره بالمتعة. هو لا يرتكب الشر من أجل الشر، ولكن من أجل المتعة التي يحققها له هذا الفعل (في حين أن هذه المتعة بالنسبة له تُعتبر خيرا). هذا ما أدعوه بالمنحرف: أقصد بذلك الشخص الذي يفعل الشر من أجل متعة فعله، أي من أجل الخير (الاستمتاع) الذي ينتظره منه أو يجده فيه.
فيما يخص النازي، هو الآخر لا يرتكب الشر من أجل الشر ، ولكن من أجل تفوق الجنس الآري، من أجل عظمة الرايخ، من أجل انتصار النازية، بل وتقدمه الخاص، وهي أمور في نظره تُصنف ضمن الخير. هذا ما يدعونه بالنازي. هذا ما أدعوه بالوغد.
هذا النوع من التصنيفات يُزعج. نُفضل أن يمتلك السادي أو النازي "إرادة سيئة تماما" بتعبير كانط، أي أن يأتوا الشر من أجل الشر، بكلمة واحدة، أن يكونوا أشرار. هذا سيكون كفيلا بإبعادهم عنَّا، أو بإبعادنا عنهم، الأمر الذي من شأنه حماية راحتنا الفكرية، ونيتنا الطيبة، وبراءتنا المفترضة. لن يكون لدى هؤلاء أي شيء إنساني: سيكونون "كائنات شيطانية"، بعبارة أخرى شياطين؛ لا علاقة تجمعهم بنا، أو تجمعنا بهم !
للأسف! الشيطان غير موجود. لا وجود سوى لبشر أنانيين، وهم كذلك جميعا. ولهذا فإن المنحرفين والأوغاد لا حصر لهم. ولهذا فالبقية – أنا وأنت، في أفضل الأيام – يملكون نصيبهم من الوضاعة. أُصِرُّ على أنها مسألة درجة، أكثر ما هي مسألة جوهر. الشر لا يوجد خارجنا، كملاك ساقط وغاوٍ، ولكنه بداخلنا. هذا لأنه نحن أنفسنا ( سيمون وايل : "الشر بداخلي يقول 'أنا' ")، بمجرد ما نتوقف عن مقاومته.
كانط مرة أخرى : " حب الذات، المأخوذ كمبدأ لكل تصرفاتنا، هو أصل كل شر". فليس سيئا، بلا شك، أن يحب المرء نفسه (فعلى العكس من ذلك يعتبر كانط هذا الحب شرعيا للغاية)، ولكنه سيء أن يتم تمرير متطلبات هذا الحب (في المجمل : سعادتنا الخاصة) قبل متطلبات الأخلاق (واجباتنا)، بما أننا ميَّالون دائما نحو فعل ذلك. هذا ما يدعوه كانط ب " شر جذري فطري في الطبيعة البشرية"، والذي يظل من مسئوليتنا مع ذلك. هذا الأمر لا يجعل مِنّا شياطين بل بشر، مع كل ما يفترضه ذلك من "وضاعة"، بعبارة أخرى "مذنبين". إن أسطورة الخطيئة الأصلية تنطوي على خداع أقل من أسطورة لوسفير.
Le Monde
إضافة تعليق جديد