أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
نشر بيكون كتابه الأشهر «الأورجانون الجديد» عام ١٦٢٠م، وهو الجزء الثاني فحسب من كتابٍ أكبر هو «الإحياء العظيم» Instauratio magna،١ الذي وضع خطته في ستة أجزاء، ولم يتم منه إلا هذا الجزء، وكان قد كتب من قبل كتاب «النهوض بالعلم» فجعله الجزء الأوَّل من «الإحياء العظيم» بشكلٍ مؤقت، وكلمة «أورجانون» تعني الأداة أو الآلة (أي آلة الفكر)، وهو الاسم الذي وضعه المَدْرسيون في العصور الوسطى على مجموع مؤلَّفات أرسطو المنطقية٢ التي كانت أداة كل بحث في ذلك الحين، وقد اختار بيكون هذا الاسم لكتابه تعبيرًا عن معارضته لمنهج أرسطو ومنطقه، وبقصد أن يُنحِّيه ويحُل محله.
يتضمن «الأورجانون الجديد» جانبين أو قسمين: قسمًا سلبيًّا يتناول مواطن الخطأ والزلل في ذهن الإنسان حتى يبذل وسعه لتجنبها، وقسمًا إيجابيًّا يتناول قواعد التجريب ويستغرق الكتاب الثاني بِرُمَّته، وإذا كان الجانب الإيجابي من فلسفة بيكون قد تَكَشَّف قصوره وتجاوزه الزمن، فإن الجانب الإيجابي يظل حيًّا راهنًا يُلقي أضواءً كاشفةً على أخطاء رئيسة تحدق بالعقل البشري في كل زمن، ولا يزال البشر يقعون فيها إلى يومنا هذا، الأمر الذي يجعل الكتاب الأوَّل من «الأورجانون الجديد» كتابًا خالدًا لا يَنفَد عطاؤه على مَرِّ العصور.
ثمة أربعة أنواع من الأوهام تُحدِق بالعقل البشري، وتظل تلاحقه في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامه العوائق ما لم يأخذ البشرُ حِذرَهم ويُحصِّنوا أنفسَهم منها قدْر ما يستطيعون، «فدراسة الأوهام هي بالنسبة إلى تفسير الطبيعة مثل الدحوضات السوفسطائية بالنسبة للمنطق العادي.»٣ كان بيكون قد عرض لهذه الأوهام في كتاب سابق له هو Advancement of Learning (تقدم المعرفة/النهوض بالعلم/إنهاض العلم) نشره عام ١٦٠٥م، ولكنه لم يقيِّض لها أسماءً، أمَّا في الأورجانون الجديد فقد أطلق عليها أسماءً تدل على براعةٍ منقطعة النظير في استخدام الاستعارة الحية.
(١) أوهام القبيلة
تعلَّق أوهام القبيلة (أوهام الجنس أو النوع) بالطبيعة البشرية بما هي كذلك، وتشمل البشر جميعًا:
فنحن جميعًا ميَّالون إلى أن نحتكم إلى حواسنا وأن نجعلها مقياسًا للأشياء، وهذا ميلٌ خاطئ لأن الحواس شيءٌ منسوب إلى الإنسان وليس إلى العالم، نحن لا نرى الأشياءَ كما هي عليه، وإن الذهن البشري أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي طبائعها الخاصة على الأشياء فتشوهها وتفسدها. يقول بيكون في الشذرة ٢: ٤٠: «الغلط الكبير للحواس هو أنها ترسم خطوط الطبيعة بالإطار المرجعي للإنسان لا الإطار المرجعي للطبيعة.» كما أن الحواس البشرية قاصرة عن إدراك كل شيء في الطبيعة، إن العين البشرية لا تلتقط كل ضروب الأشعة والموجات، والأذن البشرية لا تلتقط من الترددات الكائنة في الطبيعة إلا قسطًا يسيرًا جِدًّا، وقُل الشيءَ نفسه في بقية الحواس، من هنا يأتي أكبر عائق للفهْم البشري؛ فالأشياء التي تمس الحواس تكون لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرةً مهما عَلا شأنُها، هذا ما يجعل التأمُّل يتوقَّف في عامة الأحوال حيثما يتوقف الحِس.
ونحن ميَّالون إلى أن نرى في العالَم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما نجده فيه.
ونحن نُؤخَذ بالشواهد الإيجابية لأي رأي أو اعتقاد، ونغض الطرفَ عن الشواهد السلبية حتى إن كانت أكثر عددًا وثقلًا!٤ ويبدو أن الدماغ البشري — بحكم تكوينه — يجد صعوبةً في «معالجة» الإشارات السلبية أكثر مما يجدها في معالجة الإشارات الإيجابية، يُسَمَّى هذا الخطأ المعرفي — بالمصطلح الحديث — «انحياز التأييد» confirmation bias؛ أي البحث عن التأييد دون التفنيد، ويذهب البعض إلى أن هذا الانحياز هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المُخلِّدة لذاتها» و«المُحقِّقة لذاتها».٥
ونحن نُؤخَذ بشواهد لافتة قليلة، ونظن أن كل شيء آخَر يسير على غِرارِها ويجري مجراها، نحن متسرعون في التعميم، نستبِق الطبيعة، ولا نَجِدُّ في البحث عن أمثلة سالبة مُفَنَّدة تختبر فروضَنا اختبارَ النار.
ونحن لا نفهم الأمور فهْمًا بريئًا أبدًا؛ ذلك أن فهْمنا مُشرَبٌ دائمًا بإرادتنا وعواطفنا وأمانينا، نحن نُصَدِّق ما نُفَضِّله، ونرى ما يَطيبُ لنا أن نراه، ونرفض كل ما هو غير تقليدي خوفًا من رأي العامة.
وإن بالعقل البشري مَيلًا إلى ممارسة نشاطه دون توقُّف: إنه كالحصان الهائج الذي لا يعرف كيف يقف، ولا يزال يَغُذُّ في السير وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصوَّر عنده أن يكون هناك حَدٌّ ما للعالَم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو له دائمًا — بما يشبه الضرورة — أن هناك شيئًا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، وشأن العقل البشري مع الزمان كشأنه مع المكان، فليس بوسعه أن يتصوَّر كيف تدفَّقت الأبدية نُزُلًا إلى يومنا هذا … وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلَّق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية والناجمة من انفلات فكرنا وعجزه عن التوقُّف، ويتجلَّى هذا الانفلات ويزداد إيذاءً في عملية اكتشاف العِلل؛ فرغم أن المبادئ القصوى (الأكثر عمومية) في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع محضة هي كما وُجِدَت عليه ولا يمكن أن تُحال إلى عِلَّة، إلا أن الفهْم البشري — في عجزه عن التوقُّف — ما يزال يتلمَّس شيئًا ما سابقًا في نظام الطبيعة، ثم في غمرة جهاده في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب! (أقرب مأخذًا)؛ أعني العلل الغائبة التي هي أكثر ارتباطًا بطبيعة الإنسان منها بطبيعة الكون، والتي هي من أكبر مصادر الفساد في الفلسفة.٦ «إن الغائية مصدرها إنساني، نلاحظها في خبراتنا السلوكية، ونرتكب الخطأ حين نسقطها على الطبيعة.»٧ «ولا شك أن تأكيد بيكون لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته يُذَكِّر المرءَ بما سيقوله كانت kant — فيما بعدُ — عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضابط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكون في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني نقدًا للعقل العلمي الذي كان سائدًا في عصره.»٨ وفي أواخر الكتاب الثاني (الإيجابي البنائي) من الأورجانون الجديد يقول بيكون: «… ولكن لما كان منطقي يوجِّه ويُرشِد الفهْم، حتى لا يقبض بكلَّابات العقل الصغيرة على تجريداتٍ محضةٍ ويتشبَّث بها، بل يخترق الطبيعة بالفعل ويكتشف خواص الأجسام وقواها وقوانينها المنقوشة في المادة؛ ومِن ثَمَّ فإن هذا العلم لا ينبُع من طبيعة العقل فقط بل من طبيعة الأشياء، فلا عجب أن يمتلئ بإيضاحات وملاحظات مبثوثة في تضاعيفه وتجارب في الطبيعة، كأمثلة على الفن الذي أُعلِّمه.»٩
يميل الفهْم البشري بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرًا (ثابتًا) وواقعًا فيما هو عابرٌ ومتغير؛ غير أنه أفضل لنا أن نُشرِّح الطبيعةَ إلى أجزاء من أن نجرِّدها (وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدُّمًا أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة).
(٢) أوهام الكهف
المقصود بالكهف هنا هو كهف الفردانية،١١ فكل فرد من الناس يعيش من نفسه في كهفٍ خاص به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهه. إن لكل فرد من البشر تكوينَه الجِبِلِّي الخاص وموروثَه الجِيني، وثقافتَه التي نشأ عليها، وتربيتَه وظروفَه وقراءاته وقُدوتَه وصِلاته الحياتية، من الناس مَن يميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء وتأمُّل التفاصيل، ومنهم مَن هو أميل إلى ملاحظة أوجه الشبه بين الأشياء، وهم أصحاب المِزاج التأمُّلي الاستدلالي، وكلا الصنفين من العقول عُرضة للشطط، سواء بالتشبُّث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه، كما أن بعض العقول مُغْرَم بالقديم وبعضها مُتيَّم بالجديد، بينما الحقيقة ينبغي ألا تُلتَمَس في حظوة زمنٍ بعينه فذاك شيء غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة وذاك شيء خالد، وعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتيابٍ إلى كل ما يفتن عقله ويأخذ بُلبِّه؛ حتى يحفظ ذهنَه صافيًا ومتوازنًا.
(٣) أوهام السوق
تنشأ أوهام السوق عن تواصل الناس واجتماعهم ومداولاتهم، وهي أخطر أنواع الأوهام، تلك هي الأوهام التي تنشأ عن اللغة وتتسلل إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء. يميل الناسُ إلى قبول أفكارٍ معيَّنة ويُسلِّمون بها تسليمًا، وما يَدرون أنها مُبيَّتَة في صميم اللغة نفسها.١٢ يظن الناسُ أن عقلهم يتحكَّم في الألفاظ، بينما الحقيقة أيضًا أن الألفاظ تعود وتشن هجومًا مُضادًّا على الفهْم؛ ذلك أن الألفاظ تكوَّنت في الأصل لكي تلائم قدرةَ عامة الناس، وهي تحدِّد الأشياء بخطوط تقسيم تسهل على الذهن العامي، وحالما أراد الذهن العلمي أن يغيِّر هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، «الألفاظُ لا تُحدَّد مدلولاتها بكل دقة ولسنا في حياتنا اليومية بحاجةٍ إلى تلك الدقة، ولكن إذا استخدمنا تلك الألفاظ في الحياة العلمية بانَ قصورُها.»١٣ ومن ثَمَّ تنتهي كثير من الحوارات العلمية والفكرية إلى خلافات حول ألفاظٍ وأسماء بَدَلًا من أن تدخل في صميم موضوعاتها؛ لذا فإن علينا أن نواجه الأشياء مباشرة، ولا نكتفي بمواجهة الأشياء من خلال الألفاظ اللغوية،١٤ يقول بيكون: «ما الكلمات إلا صور المادة، أن تقع في حب الكلمات هو أن تقع في حب صورة.» وفي كتابه: «موسيقى الحوت الأزرق» يقول د. علي أحمد سعيد (أدونيس): «إنها ثقافةٌ مؤسَّسةٌ على خللٍ أصلي في العلاقات بين الأسماء والأشياء، بل ليس في هذه الثقافة أشياء، كلها ألفاظٌ واستيهامات، والمعرفة فيها لا تنشأ من استقراء الطبيعة والأشياء وتغيُّراتها، وإنما تنشأ على العكس من استقراء المقروء: النصوص وتأويلها.»١٥
يذكر بيكون نوعين من الأخطاء تفرضهما اللغةُ على الفهْم، فإما أسماء لأشياء لا وجود لها١٦ (كالقَدَر والمحرِّك الأوَّل وعنصر النار)، وإمَّا أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة غير محددة؛ لأنها جُرِّدَت من الأشياء على عَجَل ودون تدقيق (مثل كلمة رَطب)، وتتدرج الأسماء في قصورها وافتقارها إلى الدِّقة، فأقل الألفاظ خطأً أسماء المواد، تليها أسماء الأفعال، أمَّا أكثرها خطأً فأسماء الكيفيات أو الصفات.
كان بيكون إذًا مستبقًا لتيارٍ كاملٍ في الفلسفة: هو التيار التحليلي الذي جعل الفلسفة بِرُمَّتها تحليلًا للغة يكشف غموضها والتباسها، ويضع يده على مكامن الخطأ في استخدامها، ولكن بيكون لا يُغرِق في ذلك (إغراقَ المدرسة التحليلية) بحيث يسوخ في مشكلات لفظية فتفوته المشكلات الحقيقية.
(٤) أوهام المسرح
هي الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من النظريات والمذاهب التي تفرض نفسَها على الأذهان نتيجة احترامنا الزائد لآراء القدماء، إن كل المذاهب التي تعلَّمَها الناسُ وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات تُؤدَّى على المسرح، خالقةً عوالِمَ من عندها زائفةً وهميةً. وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحِظُ نفسَ الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلَّفة للمسرح أكثر تماسكًا ووجاهةً وإمتاعًا من القصص الحقيقية من التاريخ وأقرب لرغبات الناس. يقول بيكون: «ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمها بنفس الطريقة المصطنعة، وإضفاء الاتفاق عليها ما دامت أسبابُ أغلاطها المتفاوتة هي أسباب مشتركة إلى حدٍّ كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفات الكلية، وإنما أشمل أيضًا كثيرًا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوَّتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي.»١٧
ثمة ثلاثة أنواع من أوهام المسرح أو ثلاثة فصائل من الفلاسفة يمثِّلون هذه الأوهام: الفصيل النظري أو السوفسطائي، والفصيل التجريبي العشوائي empiric، والفصيل الخرافي المشعوِذ؛ أمَّا الصنف النظري — ويمثله أرسطو — فيخلق عالَمًا من الأفكار المجرَّدة التي لا يقابلها في الواقع شيء: كالمقولات والقوة والفعل، ويعالج كل الموضوعات من خلال هذه الأفكار، وحتى التجارب القليلة التي أجراها كانت نتيجتها قد تحدَّدت مقدَّمًا عن طريق الاستدلال، وأمَّا الصنف التجريبي العشوائي فيعتمد على تجارب قليلة لا تخضع لمنهجٍ منظم، يحاول أن يبني منها فلسفةً كاملةً، ومن هؤلاء: الخيميائيون القدامى الذين يتعجَّلون الوصول إلى نتائج قبل أن يبنوا أبحاثهم على أساسٍ متين، وأمَّا الصِّنْف الثالث فهم أصحاب الخرافات الذين يمزجون الفلسفة باللاهوت، ولا يفرِّقون بين التفكير المنظم وبين الأسطورة الشعرية، ومن هؤلاء: فيثاغورس، وكذلك أفلاطون الذي ينتمي إلى هذه الفئة، ولكن في صورةٍ أدق وأخطر.١٨
معيار الإجماع
كان هناك شبه إجماعٍ في عصر بيكون على فلسفة أرسطو، ولكن بيكون يقول: «إن مسألة الإجماع هي أيضًا خادعة ولا تصمد للتمحيص؛ فالإجماع الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من أحكامٍ حرَّة تلتقي جميعًا — بعد فحص المسألة — في نقطة واحدة، ولكن الغالبية العظمى من الذين قَبِلوا فلسفة أرسطو قد ارتهنوا أنفسهم لها من خلال الحكم المسبق وسلطة الآخرين؛ الأمر إذًا أقرب إلى الاتِّباع والتحَزُّب منه إلى الاتفاق، وحتى لو كان اتفاقًا حقيقيًّا وعريضًا فمن الخطأ الذريع أن نَعُدَّه تأييدًا صادقًا وصلبًا، ذلك الاتفاق الذي يتضمَّن قرينةً قويةً إلى العكس، فبئس الدليلُ الإجماع في المسائل الفكرية، فلا شيء أثلج لصدور الطَّغام من ذلك الذي يَفتِن الخيالَ ويوثِق العقل في أغلال الآراء الشائعة، وما أجدرنا إذًا أن نستعير قول فوشِيُون من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غَمَرَكَ الدهماءُ بالتأييد والإعجاب فتَحَسَّسْ أخطاءَك».»١٩
معيار القِدَم
وتتمثَّل أوهام المسرح أيضًا فيما تكتسبه المذاهب القديمة من سلطة بحكم قِدَمِها لا بحكم صدقها. وهو «يُفَكِّك» لفظة «القِدَم» antiquity نفسها، ويكشف تهافُتَ فهْمِنا لها في هذا المقام فيقول: «إن الرأي الذي يرفع به الناسُ من قيمة القِدَم هو رأيٌ عقيمٌ تمامًا ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كِبَرَ العالَمِ وتقدُّمه في العمر هو ما ينبغي أن يُعتبَر «قِدَمًا» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكِّر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماءَ مُسِنِّين فإنهم بالنسبة للعالم مُحدَثون صغار، ولما كُنَّا نتوقَّع من الشخص الأكبر معرفةً أكبرَ بالشئون البشرية وحكمًا أنضجَ مما نتوقعه من الصغير؛ بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة وتنوعُّ ما رآه وسمعه وتأمَّلَ فيه، فإن لنا أن نتوقَّع من عصرنا أمورًا أعظم مما نتوقَّعه من العصور القديمة، ما دام العالَم قد تقدَّم في العمر وازدادت ذخيرتُه واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضًا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرًا من الأشياء الجديرة بأن تُلقي الضوء على الفلسفة قد اكتُشِفَت وأُمِيطَ عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زَخَرَت بها أيامُنا، إنه ليكونُ مخزيًا حقًّا للجنس البشري أن تُستكشَف أصقاعُ العالم المادي — الأرض والبحر والنجوم — وتُستظهَر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.»٢٠
كان ألونسو الأراغواني يقول في مدْح القِدَم: إنه يبدو خيرًا وأفضل في أربعة أشياء: الحَطَب القديم ليُحرَق، والخمر القديمة لتُشرَب، والأصدقاء القُدامى ليوثَق بهم، والمؤلِّفون الأقدمون ليُقرَءوا.٢١
معيار السلطة
«أمَّا عن السلطة فهي من الجبن بحيث تُولي ثقةً غير محدودة لمعلِّمين معينين بينما تغمِط الزمنَ حقَّه. الزمنُ هو مُعلِّمُ المعلِّمين؛ ومِن ثَمَّ فهو سلطة كل سلطة؛ فقد صدق مَنْ أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة، لا عجب — إذًا — إذا كانت قيود القِدَم والسلطة والإجماع قد كَبَّلَت قوى البشر فصاروا عَجَزةً (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربةِ الأشياء ذاتها.»٢٢
تلك هي الأوهام وخصائصها، «وكلها أوهام ينبغي التخلِّي عنها وشجبُها، وتطهير العقل وتحريره منها؛ حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى ملكوت الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه لا مدخل إلى ملكوت السماء إلا عبْر طهارة الطفولة.»٢٣هامش:
١ قَدَّرَ بيكون أن تكون الأجزاء الستة ﻟ «الإحياء العظيم» كالتالي: (١) أقسام العلوم (تصنيف للعلوم). (٢) الأورجانون الجديد. (٣) ظواهر الكون (تاريخ طبيعي وتجريبي تُبنَى على أساسه الفلسفة). (٤) سُلَّم العقل Ladder of Intellect (التدرُّج في تطبيق المنطق على تفسير الوقائع التي جُمِعَت في المرحلة السابقة). (٥)
التمهيدات أو استباقات الفلسفة الجديدة (يقدِّم صورة تمهيدية للمعرفة الجديدة وللقوة التي يكتسبها الإنسان عندما يتم «الإحياء»). (٦) الفلسفة الجديدة أو العلم الإيجابي (صرَّح بيكون أن قدراته لا تسمح بكتابته، بل سيكتبه العلماء أنفسهم بأبحاثهم والمفكرون بآرائهم القائمة على دراسة سليمة للواقع، وكان يكفيه أنه بدأ المسير وعلى البشرية أن تكمل ما بدأ) (انظر: آفاق الفلسفة، ص٨٠-٨١).
٢ هي: «المقولات» وهي الصفات الأعم التي تُطْلَق على الموجودات؛ «العبارة» ويبحث في القضية؛ «التحليلات الأولى» أو القياس؛ «التحليلات الثانية» أو البرهان؛ «المواضع الجدلية» ويبحث في الحجج المحتملة؛ «الأغاليط السوفسطائية» ويبحث في المغالطات.
٣ الأورجانون الجديد: ١: ٤٠.
٤ الأورجانون الجديد: ١: ٤٦.
٥ سنعرض لذلك وشيكًا بتفصيلٍ أكبر عند الحديث عن «الاستبعاد البيكوني» كاستباق ﻟ «التكذيب البوبري»، ولمزيد من التفصيل حول «انحياز التأييد»، انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٧.
٦ الأورجانون الجديد: ١: ٤٨.
٧ د. محمود فهمي زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، دار النهضة العربية، بيروت، بدون تاريخ، ص٦٣.
٨ د. فؤاد زكريا: آفاق الفلسفة، مكتبة مصر، الفجالة، القاهرة، ١٩٨٥، ص١٠٦.٩ الأورجانون الجديد: ٢: ٥٢.
١٠ Contingent.
١١ رغم أن استعارة الكهف مأخوذة عن أفلاطون، فإن أسطورة الكهف وسجناء الكهف عند أفلاطون تتعلَّق بالجنس البشري كله، وتشير إلى قصورٍ في الطبيعة البشرية بوجه عام (أي هي أقرب إلى أوهام القبيلة عند بيكون)، بينما الكهف عند بيكون يشير — على العكس — إلى الأوهام الخاصة بكل فرد على حِدة نتيجة تكوينه الخاص وثقافته الخاصة.
١٢ يقول رولان بارت: «… إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان؛ لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر … اللغة — بطبيعة بنيتها — تنطوي على علاقة استلاب قاهرة: ليس النطق (أو الخطاب بالأحرى) تبليغًا كما يُقال عادةً: إنه إخضاع، فاللغة توجيهٌ وإخضاعٌ معمَّمان.»١٣ د. محمود فهمي زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، ص٦٤.
١٤ يقول أدونيس في «موسيقى الحوت الأزرق»: «وما تلك المسيرة التي كلما تأمل فيها تبيَّن له أن ما كُنَّا نحسبه أشياء لم يكن إلا ألفاظًا، وأن ما كُنَّا نسير وراءه هو نفسُه الذي كان يُضلِّلنا.»
١٥ أدونيس: موسيقى الحوت الأزرق (الهُوية، الكتابة، العنف)، دار الآداب، بيروت، ط١، ٢٠٠٢، ص٢١٣.
١٦ أي ألفاظ بغير «ماصَدَقات» extension.
١٧ الأورجانون الجديد: ١: ٤٤.
١٨ آفاق الفلسفة، ص١٠٤-١٠٥.
١٩ الأورجانون الجديد: ١: ٧٧.
٢٠ الأورجانون الجديد: ١: ٨٤.
٢١ من أقوال بيكون، نقلًا عن الأستاذ عباس محمود العقاد: «فرانسيس بيكون: مجرب العلم والحياة»، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، بدون تاريخ، ص١٧٩.
٢٢ الأورجانون الجديد: ١: ٨٤.
٢٣ الأورجانون الجديد: ١: ٦٨.*
المصدر:
الفصل الثالث من كتاب:
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون (2012)
تأليف: عادل مصطفى
إضافة تعليق جديد