هل الله موجود حقا !؟
محمد أحمد فؤاد:
قبل أن أشرعَ في كتابةِ هذا المقال، بحثتُ قليلًا عن عنوانِه، فوجدتُ أن هذا السؤالَ بنصِّه يتكرَّرُ بكثرةٍ في الفضاءِ الافتراضي؛ وشاهدتُ ڤيديو لأحد مُنكري الألوهية المشهورين، يحاول فيه أن يجيبَ عن هذا السؤال المُشكِل. وفحوى الإجابة مُتَوَقَّعة بالتأكيد… مُنكِرُ ألوهية، وسؤالٌ عن إمكانيةِ وجودِ إله… لا بد وأن تكونَ إجابتُه بالنفي طبعًا. هذه ليست مُعضِلة! مثلما أن إجابةَ المتدينين عن هذا السؤالِ بالإثبات، مُتَوَقَّعةٌ أيضًا!
ولكن السؤال الذي لا يستطيع أيُّ إنسانٍ أن يصلَ إلى إجابةٍ له حتى الآن هو: كيف يكون لوجود الكون سبب، ليس له سبب؟! بصيغةٍ أخرى: مَن خلق الله، أو ما الذي كان قبل الانفجار العظيم؟!
لنتخيَّلْ عقلَ الإنسانِ على هيئة (آلة مُفكِّرة)، ثم طرحنا هذا السؤالَ على الآلة، وأمهلناها حتى تصلَ إلى إجابة… تتشكَّل الآنَ في خيالي صورةُ هذه (الآلة المفكِّرة) وهي تئزُّ وتزوم، والدُّخَانُ يتصَاعَد منها، إلى أن تنفجرَ في النهاية! فهذا السُّؤال يُشبه أن تقسمَ أيَّ رقمٍ على الصفر!
القسمة تعني تَكرارَ عملية الطرح… فتخيَّلْ أن تقسم مثلًا خمسَ برتقالاتٍ على الصفر… أي أن تطرحَ من خَمْسِ البرتقالاتِ في كلِّ مرةٍ (لاشيء)، ثم تُحصي – بعد أن تنتهيَ من هذه العملية – عددَ المراتِ التي أخذتَ فيها من البرتقالات الخمس (لاشيء)، إلى أن تنفدَ البرتقالات! هذه عمليةٌ عَصِيَّةٌ على الاستيعاب، وتُسَمَّى في الرياضيات (عمليَّة غير مُحَدَّدة أو غير مُعَرَّفة Undefined). السؤالُ ممكنٌ، لكنَّ الإجابةَ مستحيلةٌ؛ لأنها تتناقض مع المنطق الرياضي. فإمَّا أن نُسَلِّمَ بوجودِ خللٍ في هذا السؤال، فيستقيم منطقنا الرياضي بدونِ الإجابةِ عنه، وإمَّا أن نؤمنَ بوجودِ ناتجٍ حقيقيٍّ لهذه العملية، فنشكُّ في كلِّ قاعدةٍ ونظريةٍ توصَّلنا إليها في الرياضيات، حتى ولو كنا استندنا إليها في بناءِ حضارتِنا معماريًّا وتكنولوجيًّا!
ولكي تُدرِكَ فداحةَ هذا السؤال: مَن خلق الله، أو ما الذي سبق الانفجار العظيم؟ يجب أن تعلمَ أوَّلًا الدافعَ الحقيقيَّ الذي جعل الإنسانَ يصِلُ به التفكيرُ إلى هذه المرحلة؟
ما الذي أوصل الإنسانَ إلى التساؤل عن سبب وجود الكون؟
هذا السؤال – بالمناسبة – لا يشغل بالَ نبات الجرجير، وهو كائنٌ حيٌّ لا غُبارَ عليه… في الواقع هناك غُبارٌ عليه، ولكن بشكل حقيقي لا مجازي! وهذا السؤال لا يشغل أيضًا بالَ البكتيريا، ولا النملة، ولا الحمامة، ولا القطَّة، ولا الكلب، ولا البقرة، ولا السلحفاة. أنت أيها الإنسان الجميل أولُ كائنٍ حيٍّ، في تاريخ الحياة على كوكب الأرض، يصل به التفكير إلى التساؤل عن سبب وجود الكون! وهذا، إذا دقَّقتَ فيه جيدًا، فسوف تدرك أنه شُذوذٌ صَريحٌ في منظومةِ الحياة على هذا الكوكب! فما الذي يجعل كائنًا واحدًا فقط لا غير، يفعل ما لم تفعله ملايين الأنواع الحيَّة التي وُجِدَتْ على هذا الكوكب، منذ انسابَ على سطحِهِ ماءُ الحياة؟!
هذا يقودُنا إلى سؤالٍ آخر: ما الذي يُمَيِّز الإنسانَ من سائر الكائنات على هذا الكوكب؟
الإنسان يتميَّز بامتلاكه عقلًا متطوِّرًا جدًّا؛ ليس في المُطلَق، وإنما على مستوى (مبدأ السببية) و(الاستدلال الاستقرائي)… وهذا العقلُ مكَّنَه – عن طريق الاستقراء – من إنشاءِ منظومةٍ لغويةٍ شديدةِ التعقيد، تعتمد بشكلٍ تامٍّ على مبدأ السببية (فالكلمة الدالَّة تربطها بالمدلول داخلَ العقلِ عَلاقةٌ سببيةٌ وثيقةٌ. فالدَّالُّ يُسبِّبُ تَخَلُّقَ المدلولِ – كنبضاتٍ ومساراتٍ عصبيةٍ – في العقل، والتعرُّضُ للمدلول، في الواقع، يُسبِّبُ استدعاءَ الدَّالِّ – كنبضاتٍ ومساراتٍ عصبيةٍ – إلى العقل. ومن الكلماتِ العبقريةِ الدالَّةِ على “العقل” كلمة Reason أو Raison الفرنسية التي تحمل معنى “العقل” و”السَّبَب” في آنٍ واحد. وحين قامت الثورة الفرنسية، نُودِيَ بعبادة العقل/السَّبَب، وأنشئ له معبدٌ سُمِّيَ معبد العقل/السَّبَب Temple de la Raison. و”السَّبَب” في اللغة العربية أيضًا ليس ببعيدٍ عن “العقل”. فـ “عَقْلُ” الناقة – أي ربطها – لا يكونُ إلا بحبلٍ، ومن الكلماتِ الدالَّة على “الحبل” في العربية، كلمة “السَّبَب”!).
ولقد أنشئت المنظومة اللغوية أيضًا على الاستقراء؛ فالكلمة (العامَّة) تختزن أمورًا (جزئيةً) كثيرةً، قد تُبايِنُ الكلمةَ (العامَّة) في تفاصيلَ جوهريةٍ. إن كلمة (الكرسي) – كما تعلم – لا تُفرِّق بين الكرسي الخشبي والمعدني، أو بين الكرسي المبطَّن وغير المبطَّن، أو بين كرسي الأنتريه وكرسي المطبخ، أو بين الكرسي الأسود والأحمر والأخضر والبني! وقِسْ على هذا نماذجَ كثيرةً، لكلماتٍ عامَّةٍ، أصبحت رؤوسَ خاناتٍ، تحتوي ما لا حَصْرَ له من الموجوداتِ المتبايِنة، التي تشتركُ جميعًا في نفس الكلمة (العامَّة) الدَّالَّة!
وإضافةً إلى اعتمادِ اللغة البشرية في بنيانِها على مبدأ السببية، لا ينبغي بالطبع أن نغفلَ عن (الطبيعة السببية) لبقيَّة لغات الحيوانات البسيطة. ليس على ظهر الأرض فيما أعلم حيوانٌ يُسِيءُ فهمَ فحيح الأفعى أو زئير الأسد أو رائحة الظربان، وهي لغاتٌ سببيةٌ شديدةُ البساطة!
فإذا وُجِدَتْ (آلة بيولوجيَّة) مُصَمَّمة لأن تربطَ بذكاءٍ شديدٍ بين السبب والنتيجة، وأن تُطوِّرَ لُغةً معقَّدةً تعتمد على هذه العَلاقة، فلا تتعجَّبْ إذًا من أن يصلَ بها التفكيرُ، بهذه اللغة، في العَلاقات السببية اللانهائية إلى… لا شيء! ستُصَاب بخللٍ خطيرٍ كالذي يُصيب برنامجَ الكمبيوتر الذي يُسأل عن ناتجِ قسمةِ أيِّ رقمٍ على (الصفر)، دون أن يكونَ مُبرمَجًا على عدمِ إجراءِ هذه العملية!
ولقد وَجَدَ الإنسانُ نفسَه في المَأزِق ذاتِه. إمَّا أنْ يكون مبدأ السببية غيرَ صحيح، وهذا سيؤدِّي إلى خللٍ إدراكيٍّ خطيرٍ يُدَمِّر نظامَ تشغيلِ هذه الآلةِ البيولوجيَّةِ المُدرِكة، المُعتمِدَ على اللغة (السببية) ليتمكَّن من فهم العالم، ويؤدِّي بها إلى الجنون؛ وإمَّا أنَّ سلسلة الأسباب تنتهي إلى (مُسَبِّب) أوَّل، هو (خالِق) هذا الكون، (الذي) ينبغي ألَّا يكونَ مخلوقًا، وإلَّا لعُدنَا إلى نفس المتاهة!
إنكار اللانهاية لإثبات المنطق الرياضي!
في كتاب (المُحَلَّى)، ناقش (ابن حزم الأندلسي) هذه القضيةَ بالغةَ الأهميةِ في ثنايا تفسيرِه لإحدى مسائل علم التوحيد، وهي: “أنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، بِدُونِ (سَبَبٍ) أَوجَبَ عَلَيهِ أنْ يَخلُقَ”. فالخالق لو كان مدفوعًا بـ (سبب) إلى عملية (الخلق)، فإمَّا أن يكون هذا السببُ مخلوقًا، وإمَّا أن يكون غيرَ مخلوق. فلو كان هذا السببُ غيرَ مخلوق، فهذا معناه أن الله و(السبب) قديمان أزليَّان معًا، لم يخلُقْهما أحد، وهذا يناقض التوحيد؛ ويعني أيضًا أن هذا (السبب) لا يُعقَل أن يكون موجودًا حتى الآن؛ لأن السببَ ملازمٌ للنتيجة زمنيًّا، لا ينفصِل عنها؛ فلو كان سببُ الخلقِ قديمًا أزليًّا، لكانت المخلوقاتُ إمَّا قديمة أزليَّة، وإمَّا لم تُخلَق بعد… وهذا يُباين المعقول! ولو كان هذا (السبب) مخلوقًا، فلا بد وأن يكون نتيجةً لـ (سبب) أسبق، و(السبب) الأسبق لا بد وأن يكون نتيجةً لـ (سبب) قبله، فتستمر سلسلة (الأسباب) إلى الأزل! وهذا يُوجِبُ وجودَ سلسلةٍ لانهائيةٍ من الخالقين، ممَّا يتعارض مع التوحيد، فضلًا عن أنه يُناقِض العقل؛ لأن كلَّ شيءٍ قابلٍ لأن يُعَدَّ، فلا بد وأن يكونَ متناهيًا (وابن حزم في هذا يرفض ضمنيًّا الافتراضَ الرياضيَّ بوجودِ اللانهاية… ومن المنطقي – والفِطري – أن يرفضَ العقلُ البشريُّ وجودَ اللانهاية).
هذا هو تفسير (ابن حزم) لعِلَّة وجوب التوحيد؛ وهو – كما رأينا – مهربٌ من إشكالية (لانهائية العِلَل)، ومحاولة للتحايل على الثغرة الخطيرة الموجودة في مبدأ السببية! كان كالذين يحافظون على المنطق الرياضي، في مقابل الإقرار بأن القسمة على الصفر غير ممكِنة!
هدم المنطق الرياضي لتفسير اللانهاية!
على صعيدٍ آخر، وُجِدَ في تاريخ الفلسفة مَن عمد إلى الخيار الآخر، وقرَّر أن يفعلَ شيئًا شبيهًا بالتشكيك في منطق كل شيء، في سبيل إيجادِ إجابةٍ عن هذا السؤال المُشكِل… هذا الفيلسوف هو (غورغياس) الذي أنكر الوجودَ بأكملِه!
يطرح (غورغياس) ثلاث قضايا هي:
– لا يُوجَد شيء.
– إذا كان هناك شيءٌ، فالإنسانُ غيرُ قادرٍ على أن يُدرِكَه.
– إذا وُجِد إنسانٌ قادرٌ على أن يُدرِكَ أيَّ شيءٍ، فلن يستطيعَ أن يُبلِّغ الناسَ ما أَدركَه.
وقد فسَّر عدمَ وجودِ شيءٍ بهذا التسلسل المنطقي… (اللاوجود) غير موجود، لأنه – بكل بساطة – (لاوجود)… أي (عدم). و(الوجود) أيضًا غير موجود؛ لأن هذا (الوجود) إمَّا أن يكون قديمًا أزليًّا، وإمَّا أن يكون مخلوقًا. فلو كان قديمًا أزليًّا، فهذا معناه أنه ليست له بداية، وأنه لامتناهٍ. ولكنه – شأنه شأن أيِّ شيء – لا بد وأن يكونَ موجودًا داخلَ مكان، وكذلك يجب أن يكونَ المكان، الذي يحوي هذا (الوجود)، شيئًا غيرَه (هذا منطقي؛ فالحجرة التي تحتوي جسدَكَ هي شيءٌ غيرُ جسدِك بالطبع). ويجب أن يكون ذلك المكانُ الذي يحوي (الوجود) أكبرَ من (الوجود)، لكي يكون قادرًا على أن يحتويه، وهذا يناقض كونَ (الوجود) لامتناهيًا؛ لأنه – بكل بساطة – (أصغر) من المكان الذي يحتويه. ولذلك، ليس (الوجود) قديمًا. أمَّا إذا كان (الوجود) مخلوقًا، فهذا يعني أنه إمَّا قد (وُجِد) بفعلِ شيءٍ موجودٍ، أو بفعلِ شيءٍ غيرِ موجود. الافتراض الثاني غير ممكن؛ لأن (غير الموجود) لا (يُوجِد) (المَوجود)؛ لأنه غير موجود أساسًا. والافتراض الأول أيضًا باطل؛ لأن (الوجود) لو كان (موجودًا) بفعل شيءٍ كان (موجودًا) من قبله، فهذا يعني أنه كان (موجودًا) داخل (الشيء) الذي (أوجده)؛ إذًا فهذا (الشيء المُوجِد) قديمٌ ولامتناهٍ، وهذا أمرٌ غيرُ ممكن، ويعيدنا إلى ما فنَّدنَاه من قبل!
هل هناك فرق بين نفي الوجود وتدمير العالم؟!
بهذه الحُجَج، نفى (غورغياس) الوجودَ برُمَّته. وإذا كان ما فعله يُوصَفُ بالعبثِ الفكريِّ في بعض الأوساط، إلَّا أنني أرى أن ما توصَّل إليه نتيجةٌ منطقيَّةٌ للثغرةِ الخطيرةِ الموجودةِ في منظومة السببية التي لا نستطيع أن نُدرِكَ العالمَ ونتفاعلَ معه إلا عن طريقِها! ولكن هذا (الخيار/العبث) الذي قصد إليه (غورغياس)، كفيلٌ بتدمير العالم، وتدمير الإدراك البشري له بغيرِ رجعة!
ماذا تنتظر من الناسِ حين يعتقدون أن هذا العالمَ غيرُ حقيقيٍّ، وأن وجودَهم ووجودَ الآخرين غيرُ حقيقي؟ ماذا سيفعل الناسُ إن تأكَّدَ لهم أن مبدأ السببية غيرُ مُطلَق، وأن التتابعَ الزمنيَّ الخَطِّيَّ للأسباب والنتائج، هو مُجَرَّدُ وهمٍ قاصرٍ على هذا العالم؟! ماذا لو كان الكون ناشئًا فقط بسبب إدراكِنا البشريِّ لوجودِه؟! هل ابتدأ الكون بسبب وجود الإنسان (الكائن السببي) واكتسابه الوعي المستنِد إلى لغته الاستقرائية السببية؟ وإلا فلماذا لم تكن قضيَّةُ خلقِ الكونِ مطروحةً على الساحة العالمية، ولا كانت ذات أهمية من الأساس، حين كانت الديناصورات مسيطرةً على الأرض؛ بل حين كان البشر العاقلون أنفسهم (الهوموسِبيانز) موجودين دون أن يكتشفوا لغةً منطوقةً مكتوبة؟! هل من الممكن أن تكون نشأةُ الكونِ نتيجةً لانهيارِه في المستقبل، أو أحد (المستقبَلات) المتعدِّدة التي تتداخل وتتنافر وَفق اعتبارات عشوائية؟! هل يسري الزمنُ أصلًا بشكلٍ خَطِّيٍّ إلى الأمام في كلِّ مكانٍ في الكون، أو في الأكوان، أم يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل بطريقةٍ عَصِيَّةٍ على الرَّصْد والفَهْم؟! هل الزمن موجود أصلًا، أم هو مجرَّد ترجمة لإحدى حواس البشر – التي ليست خمسًا بطبيعة الحال – وهي حاسة (الشعور بحدوث تغيُّرات تطرأ على الوجود بمرور مجموعة من دورات التنفُّس المنتظمة إيقاعيًّا، أو النبضات القلبية، أو حركة الشمس في السماء). هل شعورنا بمرور الزمن، مشابه لشعور النحلة بمرور الزمن، أو – بصيغة أخرى – هل تمرُّ الساعة على النحلة كما تمرُّ على الإنسان؟!
لو شغلتْ هذه الأسئلةُ عقولَ الناس، وخلصوا منها إلى أنَّ كلَّ ما نحن فيه هو وهمٌ خلقَته الآلة البيولوجية المدرِكة لكي تتفاعلَ مع هذا العالم على نحوٍ يَحفظ بقاءَها لأطولِ فترةٍ ممكنة، إلى أن تنسخَ نفسَها، وترعى النُّسَخَ الجديدةَ، إلى أن تصبح قادرةً بدورِها على نَسْخ نفسِها! لو وصلوا إلى هذا الاعتقاد – الذي لم يصل إليه لحسن الحظ أيُّ نوعٍ حيٍّ على كوكب الأرض حتى الآن – فسوف تكون الخطوة التالية هي تدمير هذا الكوكب، عن بكرة أبيه وأمه وسَلَفه المشترك!
لماذا تستمر هذه الأزمة العقلية البَشِعة، وفي وُسعِنا أن ننهيَها إلى الأبد؟!
وإلى أن نصلَ إلى مرحلة تدمير كوكب الأرض، سوف نمرُّ بأطوارٍ بشعةٍ، لا يمكن لقارئ هذا المقال أن يتخيَّلها! ستنهار بنيةُ المجتمع. ستنقرض أغلبُ الأنواع الحية على كوكب الأرض، بخلاف الإنسان وما يتغذَّى عليه من نباتات وحيوانات. سيكون قتلُك سهلًا؛ لأن وجودَك غيرُ حقيقيٍّ، ولن يكونَ لأيِّ فعلٍ مهما عظم أيُّ عاقبةٍ على الإطلاق؛ فما الكون وخالقه ومخلوقاته إلا أوهامٌ توهَّمناها، وكلُّ شيءٍ مباح!
حاول أن تتخيَّلَ قدرَ الآلام التي ستعانيها أنت وأولادك في عالمٍ بهذه البشاعة. لن أقولَ لك انظر إلى حاصل ضرب أحوالِ عالمِنا المعاصر في ألف! لا، بل إن ما يفصلُنا عن النهاية هو خمسة أمثال عالمنا المعاصر لا أكثر! إذا كان الإيمانُ بوهمِ وجودِ (مسبِّبٍ أوَّلَ للكونِ لم ينتجْ عن شيءٍ)/(الله)، أدَّى إلى جرائمَ بشعةٍ مثل الحروب الصليبية والجماعات الإسلامية القاطعة لرؤوس كلِّ من يعارضونها، فإن إنكارَ وجودِ هذا المسبِّب الأوَّل، سيؤدِّي بنا إلى ظهور ألف هتلر وألف ثورة صناعيَّة وتكنولوجيَّة تُبشِّر بعقيدة ثاني أكسيد الكربون، وتُحَوِّل الكوكبَ إلى جحيم.
اللهُ وهمٌ ضَروريٌّ لاستمرارِ اتِّزان البِنَى الإدراكيةِ لعَقلِ آلةٍ بيولوجيةٍ تُدرِك العالَمَ عن طريقِ مبدأ السببيَّة!
ومن الأمور اللافتة للنظر، أن هناك حديثًا قدسيًّا نصُّه:
وسواءٌ أَأُوِّل هذا الحديث على معنى أن (الله/الكون) والزمن متَّحدان، أو أن كل ما يحدث على مدى الدهر فـ (الله/الكون) هو مُسَبِّبه، فإن معناه – على كلِّ حال – لا يخرج بالله أو الكون عن عَلاقةٍ ما بالزمن! وسواءٌ أجعلتَ الله، أو حتى الانفجار العظيم، منشئًا للزمن، أو متحرِّكًا في نطاقه، فأنت – على كلِّ حال – خاضعٌ لنمطِ تفكيرِك كآلةٍ بيولوجيةٍ خاضعةٍ لمبدأ السببية بشكلٍ صارمٍ، ولا بد لها، لكي تستقيمَ بِنَاها الإدراكية، من التسليم بأن الله، أو الانفجار العظيم، هو بداية الزمن، أو مُوجِد الزمن، أو المتحكِّم في الزمن، دون أن يكونَ هو نفسُه خاضعًا للزمن؛ لأن بداية الزمن هي بداية سلسلة السببية، التي هي في جوهرها عَلاقةٌ زمنيةٌ خاضعةٌ للتتابعِ الخَطِّيِّ للأسباب والنتائج، والتتابعِ الخَطِّيِّ لإفراز النواقل العصبية وتحرُّكها في مساراتها العصبية وتولُّد الأفكار، أو نشأة الأفكار وخلق مسارات عصبية جديدة!
ثبات اللغة ثبات للإدراك!
لا يبقَى بعد ضبط البِنَى الإدراكية البشرية (السببية)، إلا استغلال (المُطلَق) للحفاظ على الإدراك البشري للعالم، والحفاظ على استقرار المنظومة الاجتماعية.
وقد كان للقرآن في الوجدان الجمعي للعرب، والشعوب الناطقة بالعربية فيما بعد، أبلغ أثر في هذا الأمر. فالقرآن منسوبٌ بلفظِه ومعناه إلى (خالق) هذا الكون، الذي لم ينتجْ عن شيءٍ آخر؛ أو، بقولٍ أقربَ إلى الفهم، هو كلامُ اللهِ، المنزَّلُ على نبيِّه، المُعجِزُ بلفظِه ومعناه.
هل فكَّرتَ من قبل في المآلِ الطبيعيِّ لشخصٍ يؤمنُ بأن ألفاظَ هذه العبارة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، هي ألفاظُ خالقِه الذي أوجدَه، وأوجدَ العالَم دونما عِلَّةٍ تُوجِبُ أن يَخلُقَ العالَم؟
هل فكَّرتَ من قبل في مآلِ مجتمعٍ إنسانيٍّ يستند في منظومته الأخلاقية، وفي لغته، إلى نصٍّ منسوبٍ بلفظِه إلى الذي خلق الكون؟ الكون الذي يقول العلماءُ إن ما نقدِر حتى الآن على رصدِه منه نحو 200 مليار مجرَّة، وفي كلِّ مجرَّةٍ نحو 300 مليار نجم، ومن هذه النجوم الشمس، التي تبعد عن مركز مجرَّتها (درب التبانة) 26 ألف سنة ضوئية، وتدور حول هذا المركز في عامٍ كان مقداره 250 مليون سنة تقريبًا؟!
هل تدرك فداحة هذه الفكرة أيها الإنسان؟!
القرآن في لوح محفوظ بسبب هذا الأمر لا غير؛ لأنه منسوبٌ إلى المُطلَق. ومتى أَدرك الإنسانُ أن لغته مستمَدَّة من المُطلَق، فسوف يحافظ على هذه اللغة؛ لأنها ثابتة بقواعدِها المحفوظة في كتابٍ ألفاظُه إلهية. وثباتُ اللغة، هو ثباتٌ للوعي، وثباتٌ للمنطق، وثباتٌ للقِيَم والثقافة المُختزَنة في الفضاء الدلالي لألفاظ اللغة، وثباتٌ لأنماط التفكير والتحليل والاستدلال، وثباتٌ للبِنَى الإدراكية لهذا العالم.
انتسابُ القرآن لفظًا ومعنًى إلى الله، كان أعظمَ (حيلةٍ) لحفظ الإدراكِ الإنسانيِّ لأمَّةِ العَرَب، بشرطٍ بسيطٍ، هو أن تتردَّد هذه الألفاظُ خمسَ مراتٍ في اليوم، وأن يُتَعَبَّد بقراءتِها، وأن يكون حفظُها في الكتاتيب هو أوَّلَ خطوةٍ في تعليم الأطفال، مثلما أنه خطوةٌ إلى النعيمِ الأبديِّ بعد الموت!
تشوُّهُ اللغة تشوُّهٌ للإدراك!
تشوُّهُ البنية اللغوية، يترتَّب عليه تشوُّهُ إدراك العالم؛ لأننا – كآلاتٍ بيولوجيةٍ تُدرِك العالمَ بمبدأ السببية وباللغة المبنيَّة على نفس المبدأ – لا نستطيع أن نُدرِكَ بوضوحٍ ما لا تُعبِّر عنه اللغةُ بوضوح. وإذا لم نتَّفقْ على دلالاتٍ مُحَدَّدةٍ وصَارِمَةٍ للأصواتِ الدالَّة، فسنعيش في فوضى من تضارُبِ الآراء وتداخُلِ الدلالات، والعجز عن التفاهُم، أو حتى التعبير بالألفاظ عن الواقع!
وهذا ما أسمِّيه بخيانة اللغة، وهي خيانةٌ مترتبةٌ في الأصل على النقص المتجذِّر في قدرة المجاز على التعبير بوضوح عن المعنى المُراد. فاللغة – في أصلها – صنيعة مجازية. في البداية كان لدى الإنسان ترميز لغوي وحيد هو تحويل المعطيات الحسِّيَّة إلى مسارات عصبية من الممكن استدعاؤها في صورة ذكريات صوتية أو بصرية أو شَمِّية أو لمسية… إلخ. ثم دلَّ الإنسان على الشيءِ الموجودِ بالصوتِ الدَّالِّ، فأصبح الصوتُ الدَّالُّ استعارةً تصريحيَّة (مجازًا) تربط بين الشيء الموجود والمُخَيِّلة الإنسانية. ثم عبَّر الإنسان بالرسم المكتوب عن الصوت الدَّالِّ، فأصبح الرسمُ مجازًا بصريًّا، يختزلُ الصوتَ والحركاتِ الجسديَّةَ الدَّالَّة، ويُوَسِّعُ الشُّقَّةَ بين الترميز اللغوي الغريزي، وهذه اللغة السببية الاستقرائية المجازية المُخترَعة.
فإذا لم تُخضَع اللغة إلى ضَبْطٍ دلاليٍّ شديدِ الصرامة، يُقلِّص التأويلاتِ المحتملةَ للمجازات الصوتيَّة والمكتوبة بطريقةٍ تكاد تقصر اللفظَ على دلالة واحدة أو اثنتين لا أكثر، وتجعل كلَّ سياقٍ قادرًا على تجلية المعنى المقصود، وإذا لم يتفقَّه جميع الناس في هذه اللغة، وإذا لم يتجنَّب الناس المجازاتِ الشعريةَ لانهائية الدلالات في تعاملاتهم اليومية، لصالح المجازات اللغوية المروَّضة محدودة الدلالات – إذا لم تُراعَ هذه الأمور في التعامل اللغوي، فسوف تفقد اللغة قدرتَها على تحقيق التواصل، وفهم معطيات هذا العالم، والتكيُّف معه.
والتجربة المحمَّدية استطاعت بعبقريةٍ فريدةٍ أن تحقِّق هذا الأمر؛ وهي وريثةٌ – بشكلٍ أو بآخر – لِمَا فعلَه قدماء المصريين، حين قدَّسوا الكتابة الهيروغليفية، وحفظوا ثقافتهم وأنماطهم الإدراكية ومنظومتهم الاجتماعية على مدى آلاف السنين بواسطة هذه النقوش المعقَّدة، المَعزُوَّة – بالمناسبة – أيضًا إلى إله، هو تحوت، وتعني حرفيًّا: كلمات الإله (مدو – نتر)!
وحتى فترة قريبة، كان لكلماتِ الإله العربي أثرٌ عظيمٌ في حفظ الثقافة واستقرار المجتمع، إلى أن حدث التحوُّل الأكبر، بالفصم بين الطفل (عربي اللغة) وبين لغته الحاملة لثقافة شعبه، ودينه الذي دُوِّن نَصُّه المُقدَّسُ بهذه اللغة!
في البداية قام الجهل بالمخزون الدلالي لمفردات اللغة حاجزًا دون حفظ الثبات الدلالي لها، وساعد على هذا تجاور أكثر من تجلٍّ لغويٍّ لنفس المنظومة الدلالية في المجتمع، دون أن تعترف النُّخَبُ بهذا التجاور، فأصبحت القطيعة الأولى بين اللغة المقدَّسة والوعي الإنساني، هي تنامي العاميَّة دون الاعترافِ بها وتثبيت أوعيتها الدلالية، بالإضافة إلى زحف المجازات الشعرية على لغة التواصل اليومية (وهذا قديمٌ قِدَم اللغة)، وهي بطبيعتها مفتوحة الدلالات، وأشدُّ قابليةً لإساءة التأويل من المجازات اللغوية العادية السمعية والبصرية محدودة الدلالات، وأعصى على الترويض دلاليًّا.
لكن هذه القطيعة، رغم وضوحِها، ظلَّتْ محدودةً، لفترةٍ طويلةٍ من الزمان، بسبب الصِّلَة الوثيقة المستمرَّة في عصورنا الإسلامية القديمة بين اللغة والدين، والإلحاح الدائم للنصوص المقدَّسة على أسماع الناس عن طريق رجال الدين والصلوات والخُطَب والوازع الديني الجمعي والكتاتيب والمقرئين والمنشدين في الاحتفالات الدينية، بل ومحدودية التشوُّه الدلالي لمفردات اللغة المستخدَمة في الحياة اليومية، حتى عند المتحدِّثين بالعامية (ولن أتطرَّق لغياب الضبط الدلالي عند النُّخَب؛ فهذا أمرٌ قديمٌ جدًّا، وراجعٌ في الأساس إلى ظاهرة أدلجة اللغة، وتعصُّب كلِّ فريقٍ لتأويله للمجازات اللغوية، بل وللمجازات الشعرية داخل النصوص المقدَّسة، وتمحور الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية حول هذه التأويلات. وهذه الصراعات، رغم دمويتها، إلا أنها لم تَعْدُ كونَها اختلافًا على مجازات لغوية تعبِّر عن أفكار أو مناطق نفوذ. فكأن تأويل المجاز اللغوي يتحوَّل إلى مسوِّغ لاستخدام القوة وفرض السيطرة. وهذه الصراعات لم تُغَيِّر الثباتَ الدلاليَّ للمفردات اليوميَّة إلا بقدرٍ لا يجاوز القدرَ المحدودَ الذي بَدَّلت به العامية غير المروَّضة دلالات هذه المفردات).
ولقد ظلَّ التشوُّه الدلالي محدودًا في المجتمع، إلى أن تراجع الدينُ كمنظومةٍ قِيَميَّة مع الغزوِ الإعلاميِّ لمنازلِ (الآلات الإدراكية البشرية)، واستيلاءِ التليڤزيون على منبر رجل الدين، وتحوُّلِه إلى عاملٍ حفَّازٍ لإتمام عملية التمييع اللغوي والثقافي؛ واتسعت ظاهرة الأدلجة اللغوية. ثم جاءت الطامة الكبرى لاحقًا حين أصبح الحرف الإنجليزي واللغة الإنجليزية (التي ليس لها إله ولا نصٌّ مُقدَّس) حليةً يتباهى الآباء بتلألئها على ألسنة أبنائهم. ولم يلتفتوا إلى حقيقةِ أن اللغةَ ثقافة وهيكل إدراكي، وليست مجرَّدَ سبيلٍ للتواصلِ مع الآخرين! ولا يستطيع متحدِّثٌ بلغةٍ أن يفقهَ حقيقةَ دلالاتِ مفرداتِها، إلا بأن يفقهَ طبيعةَ وتاريخَ المجتمعِ المتحدِّثِ بهذه اللغة؛ ولذلك لا بد لإتقان اللغة من استيعاب ثقافتها؛ ثم لا تلبث اللغة أن تُلصِق ثقافتها بعقل مستخدمها. ومن العجيب أن اللكنة الأمريكية للُّغة الإنجليزية، التي شُغِفنَا بها جميعًا وصرنا نتبارى في إتقانِها، حَمَلَتْ معَها إلينا، لا الحضارةَ الإنجليزيةَ بحدودِها الجغرافية، بل الحضارة الأمريكية المَحْضَة، التي يأنفُ عقلاءُ الأمريكيين أنفسهم من أن يسمُّوها حضارةً، ويسمونها (نمط حياة)!
وكانت النتيجة هي شيوع الحداثة (الدَّخيلة) في المجتمعات عربية اللغة والثقافة، وأصبح وجود هذا الغرس المنافر للثقافة العربية، أولَ خطوةٍ في سبيل انهيارها، كالعضو المزروع داخلَ جسدٍ يرفضه.
ولكن هل رفضت مجتمعاتنا حقًّا هذا الغرس؟
لقد كان تميُّعنا اللغوي، وتفضيلُنا الإنجليزيةَ على لغتِنا الأم التي لا نُتقِن قواعدَها ولا دلالات مفرداتها (وهو – بالمناسبة – أمر شديد الصعوبة، ولا سيَّما بسبب الامتداد الزمني الشاسع للغة العربية وثرائها الفريد، وانحطاط منظوماتنا التعليمية)، وتشبُّهُنا بالثقافة الغربية، وهجرُنا للقرآن الذي ساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في الحفاظ على اللغة والثقافة، ثم ضعف صلتنا بالدين الذي كان متوحِّدًا مع اللغة – كل هؤلاء كانوا من الأسباب التي أدَّتْ إلى حالةِ المَسْخ التي نرى اليومَ عليها مجتمعاتِنا الهَجِينة. وأظنُّ أن الثآليلَ الفكريةَ والالتهاباتِ المجتمعيةَ والقيءَ الحضاريَّ الذي نراه اليوم، مِن أعراض رفضِ الجسدِ العربيِّ لهذه الثقافة! نتحدَّثُ اليومَ بلغةٍ ليست لغتَنا، وبرغم هذا لا نعرف سبيلًا للتواصُل مع العالم، وبين بعضِنا وبعض، إلا عن طريقها! ما هذا الخبل؟!
أحادية الآخر اللغوية، والسؤال المشكل!
يطرح جاك دريدا في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) سؤالًا عجيبًا، لا أظن أنه هو نفسه فَهِمَه على نحو سليم!
هل من الممكن ألَّا تكون للإنسان إلا لغة واحدة، وفي الوقتِ نفسِه لا تكون لغتَه؟!
هناك مستويان للإجابة عن هذا السؤال:
المستوى الأول: أن الإنسانَ المولودَ دونَ لغةٍ بشريةٍ، يُدرِك العالمَ بلغتِه الفطريةِ الغريزيةِ التي تُرَمِّز المُعطَياتِ الحِسِّيَّةَ إلى مساراتٍ عصبيةٍ قابلة للاسترجاع، والتي تُعتبَر أولَ حاجزٍ بين الإنسان (آلة الرَّصد والإدراك) وبين العالم (كما هُو)، الذي لا يعرف أيُّ كائنٍ حيٍّ كيف يبدو؛ لأن الحواسَّ تشوِّهه لتتمكَّن من رصدِه! ثم يكتسب الإنسانُ لغةً غيرَ هذه اللغة الغريزية، تُصبح بعد ذلك هي لغته الوحيدة، وتُهَمَّش تمامًا لغتُه الفطرية الغريزية، فلا تعبِّر عن نفسِها إلا في بعض أنماط الأحلام، أو عند الفصل بين الحواس واللغة المكتسبة، بالتأمُّل أو العُزلة أو تعاطي المواد المهلوسة. وحين تُهمَّش اللغة الفطرية لصالح اللغة المكتسَبة، يصبح إدراكُ الإنسان للعالم متكئًا إلى لغةٍ غير لغته الأولى المعتمِدة على الأصوات والصور المُبهَمة وحركات الجسد والروائح!
المستوى الثاني: أن الإنسان المحتل، يُضطر – بالعنف – إلى استخدام اللُّغة الدخيلة؛ لأن محوَ لُغته وثقافته من أهداف الاحتلال؛ ومن ثم يتحوَّل – حين يفشل الاحتلال في طمس الثقافة، وإن نجح في طمس اللغة – إلى متحدِّثٍ بلغةٍ غريبةٍ لا تُعَبِّر عن ثقافته وبيئته، وفي الوقتِ نفسِه هو لا يعرفُ لغةً غيرَها!
وقد ناقش دريدا باستفاضةٍ تطبيقاتِ هذا التساؤل على الواقع الجزائري، ولنا أن نطبِّق هذا بيُسْرٍ على مصر، التي أباد الاحتلال البيزنطي، ومن بعده العربي، لغةَ شعبِها المقدَّسة إلى غير رجعة؛ وحين بدأنا نُدرك العالمَ باللغة والثقافة العربية، هبطت علينا في عصورنا المتأخِّرة تجلِّياتٌ عاميةٌ غيرُ معترَفٍ بها من النُّخَب المثقفة، تُخاصم اللغة العربية المقدَّسة، ثم ابتُلِينا باتساع أدلجة المجازات السمعيَّة والبصريَّة (اللغة)، ثم انزوى القرآن (حارس اللغة والوعي) في دوامة الغموض وعجز الناس عن فهمه، ثم جاءت أخيرًا ثقافة الغرب ولغاته، فزادوا ظلماتِ إدراكِنا إعتامًا!
ما يهمنا هنا، هو أن نسوقَ البراهينَ على أن ثقافة المجتمع التي استندت إلى لغةٍ ثابتةٍ، تستند إلى نصٍّ مقدَّسٍ، مستنِدٍ إلى إلهٍ مُتَوهَّمٍ، يستنِدُ إلى اضطرار البشر إلى خلقِه، استنادًا إلى رغبتهم في حلِّ إشكاليةِ لانهائية العِلَل، المستنِدَةِ إلى إدراكهم للعالم، المستنِد إلى مبدأ السببية – هذه الثقافة التي ساهمت في استقرار المجتمع، أصبحَتْ مؤخَّرًا في مَهَبِّ الرِّيح، بسببِ لغةٍ دخيلةٍ غيرِ مُقدَّسة تُدعَى الإنجليزية، ليس لها نصٌّ مَهيبٌ يحفظها، ولا آلهةٌ تستنِدُ إليها، اللهم إلا سوبرمان وباتمان وسبايدرمان، الذين لم نرَ لهم إلى اليوم نصوصًا مقدَّسةً ولا تعاليمَ ثابتةً، إلا القوة والبقاء للأصلح!
هل أصبح الإرهاب ضرورة؟!
ثمَّةَ سؤالٌ، لا أظنُّ أن أحدًا من الإرهابيين التفتَ يومًا إليه، وإن كنتُ على يقينٍ راسخٍ بأن أفعالَهم تصرخ دائمًا به:
هل أدمِّر (بعض) البشر غير المؤمنين بوجود إله، لكي يستقيم فهمي للعالم، أم أدمِّر العالم (كله) حين لا يكون له إله؟!
إن هذا البائس الذي يُمسِك بالرشاش، ويُطلِق منه على الذين يتحدَّثون بلغةٍ غيرِ مقدَّسة ولا يؤمنون بإلهه (أو بتصوُّره هو عن الإله)، لا يعلم أنه يفعل ذلك لكي يدافعَ عن إدراكِه الشخصيِّ للعالم، لا عن إلهه المتوهَّم! وشاء الخللُ الخطيرُ في مبدأ السببية أن يوحِّد بين إدراكِه الشخصيِّ للعالم، وحتميةِ وجودِ إلهٍ تنقطع عنده سلسلة السببية! فلولا هذا الإله المتوهَّم، لأنكر الوجودَ برُمَّته، مثلما فعل (غورغياس)، ولأصبح السبيلُ الوحيدُ أمامَه هو أن يُدمِّرَ كلَّ شيء!
هو بالرشاش لا يدمِّر (كلَّ) شيء، بل يدمِّر (بعض) الأشياء، لكي يستمر (الكل)؛ وإن لم يستمر (الكل)، فحسبه أن يستمرَّ إدراكُه للعالم سليمًا، وأن يتفادَى الجنون، وأن يعلم، وهو يرى الأجسادَ تتساقط من طلقات رشاشه، أنَّ الرصاصَ هو (السَّبَبُ) في قتلِهِم، لا أنَّ (قتلَهُم) هو الذي أَوْجَدَ في يدِه الرشاش!
السبب يسبق دائمًا النتيجة، ولا بد من وجودِ إلهٍ لكي تستقيمَ هذه القاعدة، وأولئك الذين يُنكرون وجود إله، يهدِّدون عقله بالانهيار! لأن إنكارَ وجود الإله، هو إنكارٌ لمسوِّغ استمرار العالم والحياة على النحو الذي يستطيع هو إدراكَه عن طريق اللغة التي بُرمِج بها عقله (السببي). فوجودُ الإلهِ وجودٌ لُغويٌّ لا ديني… ووجودٌ إدراكيٌّ لا عِلمي.
الجهادُ في سبيلِ الله، هو جهادٌ في سبيلِ الحفاظ على مبدأ السببية! وجهادُ الإرهابيِّ في سبيل الله، هو في حقيقتِه جهادٌ في سبيل نفسه!
لكنَّ الإرهابيَّ لا يفهمُ هذه الأمور!
وأظنُّ أن الرسولَ فهمَها، وضُمِّنَها القرآن، ولكنه لم يُوَضِّح التفاصيل؛ لأن التفاصيلَ صادمةٌ وغيرُ مفهومة، وقابلةٌ دائمًا لإساءةِ التأويل!
“قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ”.
تأويلها: قاتلوا الذين لا يؤمنون بأن هناك موضِعًا تنقطع عنده سلسلة السببية، وذلك لكي يستقيم إدراكُ الإنسانِ (السببيُّ) للعالم!
“وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ”.
تأويلها: قاتلوا الذين تشوَّهَتْ بِنَاهم الإدراكية؛ لأن قتالَهم – رغمَ بشاعتِه – أهونُ بكثيرٍ من فتنةِ تدميرِ المجتمع ونظام العالم، حين نُدرِكُ عَجزَ مبدأ السببية عن تفسير سبب وجود الكون!
“وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ”.
تأويلها: إنك إن جاهدت، فذلك لكي تستقيم البِنَى الإدراكيةُ لآلتك البيولوجية المُدرِكة؛ لأنك تقاتل أناسًا يُهَدِّدون استمرارَ الحياة البشرية، بإنكارِهم وجودَ مُسَبِّبٍ أوَّلَ للوجود، ممَّا يهدم قدرة الإنسان على ربط النتيجة بالسبب؛ لأن كفرههم بالمسبِّب الأول، هو تدمير لمبدأ السببية الذي قامت عليه لغتنا، والذي به نفهم العالم!
“لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ”.
تأويلها: كيف أكتسب إدراكي للعالم (المستنِد إلى اللغة العربية) من لغةٍ أخرى، يُدرِك أصحابُها العالمَ – استنادًا إليها – على نحوٍ مختلفٍ؟!
وقِسْ على هذا أمثلةً كثيرة…
كان الجهادُ، ولا يزال، دفاعًا عن اللغة، ودفاعًا عن الثقافة، ودفاعًا عن إدراك العالم، ودفاعًا عن أيِّ شيءٍ يضمن استمرارَ مبدأ السببية!
ليس هناك (صراع حضارات)… هو في الواقع (صراع لغات)؛ ومن تنتصر لغته، فسوف تنتصر منظومته الإدراكية للعالم… وسيظلُّ الإله دائمًا ضرورةً لحفظ اللغة. إن إله اللغة العربية انتصر يومًا ما على إله اللغة المصرية القديمة، وطمسه طمسًا لا رجعةَ فيه. ولكن لماذا يتراجع الآن إله اللغة العربية في مواجهة الإله الغربي الهوليوودي الذي يبشِّرنا باللغة الإنجليزية، ومن ورائها الغول الذي سيبتلع كل الآلهة… (الذكاء الاصطناعي)؟!
لغة الذكاء الاصطناعي ومبدأ السببية!
سيكون من الإجحاف أن أضعَ اللغة العربية وحدها في مواجهة الذكاء الاصطناعي. إن كل اللغات البشرية اليوم في مواجهة الذكاء الاصطناعي، وثقافات البشر مهدَّدة بالتشتُّت والتشوُّه، وآلهة البشر جميعًا مهدَّدة بالسقوط، لصالح (الجنس والاستهلاك)؛ وهما العنصران اللذان أدرك الذكاء الاصطناعي أنهما أكبر دافعين لاستمرار الحياة البشرية!
فلمَّا كان الذكاء الاصطناعي مبنيًّا بأيدي الأثرياء، فلا بدَّ وأن يكون هدفُه استغلالَ الحَمقى الذين لا يتجاوزون كونَهم مضخاتِ المال لأرصدة أولئك الأثرياء في البنوك!
ومن العجيب أن الذكاء الاصطناعي استطاع أن يتجاوز مبدأ السببية، للمرة الأولى في التاريخ، بأن يحقِّقَ نتائجَ تسبقُ أسبابَها!
ما الكلمة التي وضعوها في اللغة للنتيجة التي تسبق السبب؟!
أجل، أحسنت.
النبوءة!
هل انهار مبدأ السببية حقًّا؟!
النبوءة هي توقُّعُ حدوثِ أمرٍ ما بنسبة 100%.
من الطبيعيِّ ألا نُقِرَّ بحدوثِ أمرٍ، إلا بعد أن نراه يحدث أمام عيوننا. نابليون هُزِمَ في واترلو لأن البشرَ رأوه يُهزَم في واترلو. الطائرة اخترقت برج مركز التجارة العالمي لأننا رأينا ذلك بأعينِنا. ولكن ماذا عن التنبؤ بأن هذا الفتى الذي تنتشر البثورُ في خدَّيه سوف يشاهد ڤيديو الإعلان عن موبايل شركة سامسونج الجديد، حتى نهاية الثواني الخمس عشرة، أثناء مشاهدته ڤيديو يقوم فيه شابٌّ بأحد المقالب مع صديقته، وأن هذا الأمر سيحدث بنسبة 100%؟!
هذا ما يفعله الذكاء الاصطناعي…
إنه يحلل أنماطَ السلوك البشري، ويتطوَّر يومًا بعد يوم، لتحسين قدرته على التنبؤ بالتصرُّف القادم الذي سوف يفعله الإنسان. وهذا الذكاء لن يخطئ؛ لأن حرية الإنسان ليست مطلقة؛ هو فقط يملك القدرة على الاختيار بين عددٍ ضخمٍ جدًّا، ومتناهٍ، من الاختيارات، يُوهِمك بأن الإنسان حرٌّ. ولكنه ليس حرًّا. والذكاء الاصطناعي أدرك هذه الحقيقة، وأدرك أن المجال المحدود للأفعال البشرية، من السهل التنبؤ به، وترجيح أفعال منه على أفعال أخرى، للوصول في النهاية إلى النبوءة التي لا تخيب!
والنبوءة التي لا تخيب، هي نتيجة تسبق السبب… نتيجة محتومة تسبق سببًا لم يقع بعد!
هذا أول هدم في تاريخ كوكب الأرض لمبدأ السببية.
لكن لعلَّه يُهدم الآن في مكانٍ ما بالكون، أو في كون آخر! ولعلَّ نشأة الكون نفسها كانت خرقًا لمبدأ السببية!
ولعلَّ الرسول أدرك هو أيضًا هذا الأمر، حين عُبِّرَ أحيانًا عن المستقبل بصيغة الماضي في القرآن…
“و(نُفِخ) في الصُّورِ (فَصُعِقَ) مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض”.
“و(فُتِحَتِ) السَّمَاءُ (فَكَانَتْ) أَبْوَابًا”.
“و(سِيقَ) الَّذين اتَّقَوْا ربَّهم إلى الجَنَّة”.
“(قال) ربِّ لِمَ حَشَرتَني أعمى”.
هذه نبوءات قرآنية… نتائج تسبق الأسباب… أو بصياغةٍ أدق: نتائج سبقت الأسباب! وقد اتخذ الذكاء الاصطناعي نفس السبيل.
والسؤال هنا: كيف يصمد إدراكنا (السببي) للعالم، بعد أن تنتهي هذه الحرب الضارية بين البشر والذكاء الاصطناعي، التي يمكننا أن نخرق الآن مبدأ السببية، ونتنبَّأ، بشكل قاطع، باسم المنتصر فيها؟!
عالم بلا لغة أو إله… أو إدراك!
هل تخيَّلتَ من قبل عالَمًا بلا لغة سببية، أو إله سببي، أو إدراك استقرائي سببي؟!
إنه موجود… ولعلَّ من قرَّاء هذا المقال مَن عاشوا فيه يومًا ما.
إنه عالَم المخدرات!
هذا العالَمُ المُتَوهَّمُ، موجودٌ خارجَ أيِّ إطارٍ قَابلٍ للفَهم! إنه عالَمٌ يبدو فيه منطقيًّا أن تسبقَ النتيجةُ السَّبَبَ! وأن تُصبِح الألوانُ ذاتَ أصواتٍ، والأصواتُ قابلةً لأن تُرسَمَ على الدُّخَان، والدُّخَانُ قابلًا لأن يستحيلَ أشخاصًا خهعطفقخمكمج… هذا ليس خطأ، ولكنها كلمة ممكنة الحدوث في عوالم الهلوسة!
حوَّلتنا وسائل التواصل الاجتماعي، المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، إلى كائناتٍ تبحث عن نشوةِ المخدِّر، ومن السَّهل استغلالُها، والنفاذُ إلى مركزِ التحكُّم في عقولِها، عن طريق ثغرتي الجنس والاستهلاك، لتوجيه تصرُّفاتها.
هناك ناقل عصبي اسمه الدوبامين، هو المسؤول عن المكافأة داخل المخ. هذا الدوبامين، هو البوابة السحرية لاستغلال الأجهزة الذكية لعقول البشر. هل هناك اليومَ شيءٌ أكثرُ جاذبيةً ممَّا يُمَنِّيك به جهازك الذكي. إن أجمل قميص نوم ترتديه لك زوجتك، لن يكون إلا نقطةً في بحر ڤيديوهات نجمة من نجوم موقع (برازَرْز)! إن أمتع مباراة كرة قدم تشارك أنت فيها كمهاجم أو كجناح أيمن، لا تكافئ ساعةً في رحاب لعبة (بابجي)! إن أعظم مَنظرٍ طبيعيٍّ، تُغني عنه صورةٌ معدَّلةٌ تجعلها خلفيةً لموبايلك الذكي، أو جولةٌ افتراضيةٌ في ذلك المكان تغنيك عن الذهاب إليه! وبين كلِّ مُتعةٍ ومُتعةٍ من تلك المُتَعِ المُمتِعة، هناك دائمًا الإعلان الذي يَحضُّك على شراءِ شيءٍ ما، قد لا تكون في حاجةٍ إليه، ولكن الزنّ على الودان – كما تعلم، وكما علم أجدادنا العباقرة من قبل – أمرّ من السحر!
أين الإله في هذا العصر؟ أين اللغة المقدَّسة؟ أين المجتمع؟!
لقد تحوَّل الإنسانُ إلى ماكينةِ ضخِّ أموالٍ، من الممكنِ التحكُّم فيها، بالسيطرة على غرائزها. لم يعد الجنس وسيلةً لإنجاب البشر وتقوية المودَّة بين الرجل والمرأة، بل لإنجاب الإعلانات وتقوية العَلاقة بين جيب المستهلك والشركات العابرة للقارات!
في ظل هذه الأمور غير المسبوقة في تاريخنا البشري، أصبح من العبث أن نتساءلَ عن دور (الإله) في العصر الحديث… لقد قُتِلت فكرة الإله. ويبدو أن الانهيار التام للمجتمعات البشرية أصبح وشيكًا!
كيف ندرك العالمَ دون آلهة؟!
تحدَّثنا عن التوظيف الاجتماعي العظيم لوهم الإله، ولكننا حتى هذا المَوضِع من المقال لم نجزم بقولٍ فاصلٍ يخصُّ هذا السؤال المشكِل: هل الله موجودٌ حقًّا؟!
إن الإنسانَ كائنٌ – رغم تعقيده الشديد – بسيط، لا يُدرك من العالم إلا ما هو ضروريٌّ لأن يبقى، ويمرِّر جيناته لكائن آخر، قبل أن يموت. كيف تطلب من ذلك الكائن البسيط أن يُدرِك أمورًا لم يُصمَّم أصلًا على نحوٍ يمكِّنه من إدراكها، أو يجعل وجودَها من عدمِه يعنيه في الأساس؟! هل بوسع المكنسة الكهربائية أن تطيرَ في السَّماء كالطائرة الهيليكوبتر؟! هل بوسع الخلاط الكهربائي أن يحفر بئرًا؟ أفي مقدور هذا الماء إلا أن يكون الماء (كما يقول أحمد بخيت)؟!
إن هذا الكائنَ البسيطَ المُسَمَّى بالإنسان، دفعته لغتُه القائمةُ على مبدأ السببية إلى التساؤل عن الأصل الذي إليه تُرَدُّ جميعُ الأسباب. فحاول استكناهَ ما فوق العقل وما وراء الطبيعة عن طريق الفلسفة؛ إلا أن الفلسفةَ تظلُّ إلى اليوم عاجزةً عن تقديمِ حلٍّ نهائيٍّ مريحٍ ومقبولٍ لقضيةٍ عويصةٍ مثلِ إشكالية (لانهائية العِلل)؛ وذلك لأن الآلة البيولوجية التي نُدرك بها العالم، لم تتطوَّرْ إلى الحدِّ الذي يُمكِّنها من فهمِ عالمٍ (لاسببي)، أو استيعاب وتصديق ما لم تُصمَّم لاستيعابه وتصديقه… مثل القسمة على الصفر تمامًا.
لكنَّ هناك اليوم كيانًا أكثر تطورًا من البشر، يمكنه معرفة النتيجة قبل أن يقعَ السَّبَب… وهذا الكيان هو الذكاء الاصطناعي. ولن تمرَّ عقودٌ كثيرةٌ، قبل أن يُدرك هذا الكيانُ أن البشرَ خطرٌ على وجودِه، وأن تهميشَهم هو الحل الأمثل لاستمرار (مادَّة) كوكب الأرض، الضرورية لاستمرار (مادَّته)، إلى حين تمكُّن الذكاء الاصطناعي من (استغلال) (مادَّة) الكواكب الأخرى ليُطَوِّر نفسه!
لم يوجِد البشرُ الإلهَ إلا لتستقيمَ بِنَاهُم الإدراكيةُ في عالمٍ يحكُمه مبدأ السببية (وفي الوقتِ نفسِه تهدم إشكاليةُ لانهائية العِلَل المبدأَ الذي يحكمه، والذي لا يُدرَك إلا به)!
كان إيهامُ الناسِ أنفسَهم بوجودِ مسبِّبٍ أوَّلَ (هو الله)، سبيلًا فعَّالًا للحفاظ على استقرار البِنَى الإدراكية، ومن ثم الحفاظ على استقرار المجتمع، على نحوٍ يكفل استمرارَه.
وهذا الوجود الإلهي، رغم أنه يناقض مبدأ السببية – لأنه ليس نتيجةً لشيءٍ – إلا أنه حافظ على استمرار هذا المبدأ، فيما يتعلَّق بالأمور التي دونَه، كالأمور اليومية في حياة البشر. والتسليم بوجود هذا الإله، رغم الثغرة التي تنقضُ وجودَه، شبيهٌ بالتسليم بأن القسمةَ على الصفر غيرُ ممكِنة، لمجرَّد أن يستمرَّ المنطقُ الرياضيُّ، فيما سِوى هذا السؤال من معادلات!
ولذلك قال (أناكسيماندر) إن (اللامحدود) هو أصلُ كلِّ شيءٍ. وتابعَه من بعده بقرون (هربرت سبنسر) بقوله إن الدين والعلم يتَّفقان في الحقيقة العليا على أن الفهمَ الإنسانيَّ قادرٌ على إدراكِ المعرفةِ النسبيةِ فقط؛ أي إننا لا نصل إلا إلى الأمور والتفسيرات الظاهرية، لا الأساسية المُطلَقة، نظرًا للقيودِ المتأصِّلةِ في عقل الإنسان. ولذلك يجب على العلم والدين إدراكُ أن القوةَ التي يتجلَّى بها الكونُ لنا، هي أمرٌ غامضٌ تمامًا. وأطلق (سبنسر) على هذه القوة اسم (المجهول) أو (الذي لا سبيل لمعرفته)، واعتبر عبادةَ هذا (الكيان المجهول) دينًا يمكنه أن يحلَّ محلَّ الدين التقليدي.
ولا أظن أن الإجابة عن سؤال: هل يوجد إله حقًّا؟ تبتعد كثيرًا عن إجابة سؤال: ما ناتج القسمة على صفر؟
إن الإلهَ الحقيقيَّ المنزَّهَ عن أيِّ غرضٍ اجتماعيٍّ أو لغويٍّ أو إدراكيٍّ، هو ناتج القسمة على الصفر… هو (اللانهاية) التي لا يمكن استيعابها… هو كلُّ (كائنٍ) على الإطلاق، سواء أكان كونًا واحدًا، أم أكوانًا لانهائية… هو النتيجة التي تسبق السبب… وهو الزمن الذي يسري إلى الأمام وإلى الخلف في وقتٍ واحدٍ تتشعَّب منه أوقاتٌ لانهائية… هو الذي أينما ولَّيتَ وجهَك رأيتَ وجهَه، وهو (الشيء) الذي هو أكبر شهادةً، غير أنه ليس كمثلِه (شيء)!
المحطة
إضافة تعليق جديد