23-11-2020
عن تراثهم وتراثنا مرة أخرى
... .وها هي اليابان قد تحدثت وتجاوزت الحداثة الغربية ولم تتخل عن تراثها، فلم لا نتحدث نحن العرب والمسلمين دون التخلي عن تراثنا؟
من المؤكد أنك تعرف هذه الاسطوانة التي يرددها الإسلاميون بجميع أطيافهم، معتدلين ومتطرفين، لاسيما إذا كان بعضهم يعرف اليابان قليلا أو كثيرا. وراح يرددها وراءهم الكثير من الشباب المحبطين من الفكر القومي أو الفكر الإسلامي.
يطرحون الموضوع، هكذا ببساطة وجدية وتعصب كعادتهم، وكأننا نحن واليابان من تاريخ نفسي ومعرفي واحد ولا فرق بين تراثهم وتراثنا. وعندما تواجههم بتفاصيل التراث الياباني، المدون منها والمعاش يوميا على شكل عادات وتقاليد منذ ألاف السنين، واختلاف هذه التفاصيل عن كل ما لدينا، بل وتناقضها مع كل ما لدينا، لا يسعهم سوى الموافقة على ما كل ما تقول. لا بل سرعان ما يذهبون في كثير من الأحيان إلى توصيف اليابان كبلد بدائي، وثني، لا يرتقي إلى مستوى الدين، لاسيما الدين الإسلامي. هنا، وعندما تريد إلقاء القبض على هذا المنطق وقراءته بوصفه شتيمة وإدانة أكثر مما هو تشخيص، يسارعون إلى النفي والقول إنهم لا يقصدون ذلك.
عندما توضح لهم شيئا واحدا في غاية الأهمية، وتفصيلا رئيسيا في لعبة الحياة البشرية، وهو أن الياباني لا يتعلم ولا ينظر إلى حياته في هذه الدنيا على أنها جسر عبور، أو هي في الطريق إلى حياة أفضل منها، أي الحياة الآخرة، كما يتعلم وينظر المسلم الذي يؤمن بتعاليم الدين الإسلامي، من الطفل إلى الكهل، لا يسعهم سوى الموافقة أيضا وتكرار الشتيمة السابقة على شكل توصيف.
قد يبدو هذا التفصيل بسيطا، وهو في نظرنا أنت وأنا كذلك، لكنه في العمق لاعب أساسي في تحديد أشكال ومستويات السلوك اليومي للأفراد. هناك فرق كبير بين من يتعلم ويعتبر أن حياته اليوم، في هذا العالم، هي الهدف الأسمى والغاية المنشودة من دون أن يفكر بشيء أبعد، وهذا هو منطق الحداثة وقانونها الأول، وبين من يتعلم ويعتبر أن حياته اليوم، في هذا العالم، ليست هدفا ولا غاية، بل هي لحظة عبور بائسة، وطريق مملوء بالشوك إلى الهدف والغاية المنشودين، أي الآخرة. وهذا يتناقض كليا مع منطق الحداثة وقوانينها. سيسعى الأول بكل ما يستطيع إلى امتلاك أفضل وسائل الحياة السعيدة، وإلى تحسين شروط حياته بشكل مستمر، فيما سيكتفي الثاني بما تيسر له من دون أي جهد، وبما يعتبره قدرا لا يمكن تغييره.
الأول يخضع لقوانين بشرية وضعها أجداده وأسلافه ويمكنه تغييرها أو التخلي عنها عندما يريد وهذا هو بالضبط تاريخ اليابان، حيث لا يوجد قانون غير قابل للاستبدال بما هو أفضل، وهذا هو منطق الحداثة وقانونها الأول. فيما الثاني يخضع لقوانين إلهية أبدية أزلية غير قابلة لأدنى تغيير، وهذا يتناقض كليا مع منطق الحداثة وقانونها الأول.
عندما احتك الياباني بالغرب، لم يحتك بغرب القرون الوسطى، قرون الكنيسة والدين، ولم ينقل عنه شيئا، لأنه يتناقض كليا مع اليابان والتراث الياباني. لكنه احتك بالغرب الحديث، غرب الثورة الصناعية والمادية، ووجد أن جميع قوانين هذا الغرب الحديث، من تقديس للإنسان ولحياته في هذه الدنيا، تتطابق تماما مع تراثه القديم والجديد، فأخذ بها دون تردد وكأنه صاحبها الأصلي. فلم سيتخلى عن هذا التراث!. لم تكن لديه قوانين إلهية، كما كان في أوروبا وكما لدينا نحن اليوم، كي يتحرر منها وينتقل إلى الحداثة.
قوانين الياباني وضعية منذ نشوء اليابان وحتى اليوم، فلم سيتخلى عنها!... بالعكس تماما، طورها وزاد في تعميق وضعيتها بالاستفادة من الحداثة الغربية وقوانينها... .الياباني وضعي في حياته وتفكيره وسلوكه ولا يصدق شيئا غير وضعي، أي ليس من صنعه هو أو من صنع بشر غيره، يعني لا يعرف أن يطبق قانونا غير بشري، قانونا لم يضعه إنسان من لحم ودم... .
هذه عينات بسيطة للتناقض بين ما لدينا من تراث، أو تراثات، وما لدى الياباني. ويمكن إعطاء مئات الأمثلة على هذا الصعيد... .قد تتقاطع بعض مفاهيمه للعدالة، أو الحرية، أو الحقوق، أو ما شابه، مع ما تقره بعض الشرائع السماوية لدى التوحيديين، لكن هذا لا يعني أنه أخذ أو يأخذ بها لأنها سماوية وموحى بها من الأعلى...
جوهر الحداثة، أو الحرية، بصيغة من الصيغ، هو التخلي عن القوانين والتشريعات المستمدة من الأديان السماوية، واعتماد القوانين الوضعية... وهذا بالضبط ما حدث في أوروبا، وما ينبغي أن يحدث عندنا إذا أردنا أن نكون...
(محمد عُضيمة، حكايات المعبد الياباني،ط1،دار التكوين،دمشق،2016)
إضافة تعليق جديد