حجة الحلم عند الغزالي
مقدمة
ربما تعتقد الآن أنك مستيقظٌ، أي أنك لست نائمًا تحلم، لكن هل تعلم يقينًا أنّك لست في حلم؟طرح الفيلسوف الفرنسي المشهور رينيه ديكارت (1596- 1650) سؤالًا مشابهًا لهذا في بداية كتابه “تأملات في الفلسفة الأولى”، وقد أجاب بأنه ليس متيقنًا من كونه يحلم أم لا، وبما أنه لا يعلم ذلك يقينًا، فلا يمكن لمعتقداته التي تلقاها عن طريق الحواس أن تبلغ مستوى المعرفة.
إن استخدام الأحلام للسؤال عما إذا كانت لدينا معـرفة حقيقية أم لا، أو لتحفيز الشكوكية Skepticism -وجهة النظر القائلة بأننا نفتقر للمعرفة- له تاريخ أُثرى مما يعترف به الفلاسفة المعاصرون غالبًا، فقد استخـدم الفيلسوف والباحـث الشرعي الفارسي المسلم أبو حامد الغزالي (1058-1111) الأحلام لإثارة مخاوف شكيّة حول المعرفة قبل أكثر من 500 عام من قيام ديكارت بذلك. يكشف هـذا المقال دور حجة الحلم عند الغزالي الواردة في سيرته الذاتية ضمن كتابه المنقذ من الضلال The Deliverance of Error) بالإنجليزية)، وكيف استعملها ليثير الشكوك حول قضية امتلاكنا للمعرفة.
رحلة الغزالي الفكرية عبر الشك
يؤطر الغزالي كتاب المنقذ من الضلال على أنه رسالة لمراسل لم يذكر اسمه، كان قـد سأل عن رحلة الغزالي الفكرية من الشك إلى اليقين. بدأ الغزالي تلك المسيرة بالحديث عن أنه كان متيقنًا في شبابه من عدة معتقدات دينية وثقافية تلقّاها من نشأته الإسلامية، وقد بدأ الشك في هذه المعتقدات عندما أدرك أنها تختلف عن معتقداتِ من نشأ على اليهودية والمسيحية. كانت رغبة الغزالي هي أن يحدد ما إذا كانت توجد أي حقائقٍ في المعتقدات السائدة الروتينية في مجتمعه، وإذا وجدت فكيف له أن يعرفها على وجه اليقين؟ وهنا يظهر لنا خطاه نحو استعادة اليقين.
يقترح الغزالي في أول خطوة معيارًا يساعده في معرفة إمكانيته على بلوغ اليقين في المعارف التي يتلقّاها من العقل ومن الحواس:
“تبين لي أن المعرفة اليقينية والمؤكدة هي تلك التي يكون فيها الشيء المعروف واضحًا لا يرافقه أي شك ولا يقترن باحتمال الخطأ أو الخداع، ولا يمكن للعقل حتى أن يفترض هذا الاحتمال”.
رأى الغزالي أن الكثير من معتقداته لا تصمد أمام هذا الاختبار، علاوة على ذلك، بدأ بالشك في معتقداته المأخوذة من التجارب الحسية لأنها عرضة للتخطئة أو للتصحيح من قبل المعتقدات العقلية:
“أقوى الحواس هي حاسة البصر، ترى هذه الحاسة الظل ثابتًا بلا حراك فتحكم على أن حركته غير ممكنة، لكنها بالملاحظة والتجربة تعلم بعد مرور ساعة أن الظل يتحرك. تنظر أيضًا حاسة البصر إلى النجم وترى أنه شيء صغير بحجم الدينار، ثم تظهر لنا البراهين الهندسية أنه يفوق في حجمه حجم الأرض. في هاتين الحالتين وفي حالات مشابهة أخرى للبيانات الحسية يصدر حاكم الحواس حكمه، لكن حاكم العقل يدحضه ويكذبه مرارًا وتكرارًا بطريقةٍ لا تقبل الجدل.”
لذلك يشكّ الغزالي في اليقين الذي كان يحمله سابقًا من تجاربه الحسية. لدينا أسباب للشك في أن التجارب الحسية تمثل الواقع فعلًا لأنه في كثير من الأوقات تتعارض تجربة حسية ما مع تجربة حسية سابقة لها -كما حدث في مثال الظل بعد مرور ساعة- أو أن استخدامنا للبراهين الرياضية أو أي منهج علمي آخر-كما هو الحال في مثال الغزالي للنجم- يوفـر سببًا للشك في أن تجاربنا الحسية تتوافق مع الواقع.
حجة الحلم عند الغزالي
يناقش الغزالي بعد ذلك المعتقدات المبنية على العقل والتي يسميها “الحقائق الأولى”، مثل أن العدد 10 أكبر من العدد 3 أو حقيقة أنه لا يمكن لادّعاء ما أن يكون صحيحًا وخاطئًا بنفس الوقت. هذه المعتقدات ليست أكثر صوابًا من معتقدات التجارب الحسية، ولكي يساعد قراءه على فهم السبب وراء ذلك، يجسد الغزالي حواسه ليساعدوه في الجدال ضد العقل. تقول الحواس هنا بأنه طالما تم استخدام العقل -الذي يعتبره الغزالي قدرة “أعلى” من التجارب الحسية- للشك في التجارب الحسية، فيمكن لقدرة “أكثر علوًّا” من العقل أن تزيد من الشكوك حول المعتقدات العقلية.
في هذا النقاش المتخيل بين العقل والحواس، تعزز التجارب الحسية للغزالي حجتها باللجوء إلى التشبيه بالأحلام. فعندما نحلم، نكون مؤمنين على وجه اليقين بأن ما نحلم به حقيقي، لكننا نستيقظ وندرك أن معتقدات الحلم غير صحيحة. وقياسًا على ذلك، فإذا وجد لدينا نوع ثالث من الخبرات -خبرات ليست مثل الأحلام وليست مثل اليقظة- فيمكننا الشك بالمعتقدات التي نمتلكها فطريًا أثناء يقظتنا. يشبه امتلاك هذا النوع الثالث من الخبرات حالة الاستيقاظ من الحلم، حيث قد نستيقظ على واقع “أعلى” من واقعنا الحالي.
لاحقًا في كتاب المنقذ من الضلال، يعود الغزالي إلى مناقشة إمكانية وجود هذا النوع الثالث من الخبرات، فيقترح أن لدينا جميعًا قدرة تتجاوز العقل وهي قدرة النبوة. على الرغم من أن معظمنا لا يدرك هذه التجارب على النحو الذي طرحه الغزالي، فإن الصوفيين -المتصوفين الإسلاميين- وكذلك الأنبياء، هم سادة هذه الحالات من خلال ممارساتهم التعبديّة. يطلق الغزالي على هذه الخبرات مسمى “الخبرات المثمرة” ومن خلالها تربطنا علاقة حميمة بالله. نظرًا لكمال الله، وخاصةً أنه كلي القدرة وخيّر، فإن الخبرات المثمرة للمرء مع الله توفر اليقين للعديد من معتقداته الحسية والعقلية. بعبارة أخرى، لا يعرف المرء إلا عندما تكون لديه خبرات مثمرة مع الله.
حتى لو لم نقبل وجود الله أو وجود الخبرات المثمرة، فلا يزال بإمكاننا أن نثير الشك حول اليقين الذي نربطه بالعقل والحقائق البدهية لأنه يمكننا أن نفكر في إمكانية وجود قدرة أعلى من خلال القياس الذي تقدمه حواس الغزالي المجسدة للقارئ.
الخاتمة
في بداية كتاب المنقذ من الضلال، أثار الغزالي عدة مخاوف شكوكية حول طبيعة المعرفة، حيث ألقى شكّه على معتقدات تبدو للوهلة الأولى مؤكدة، وفي باقي الكتاب، روى الغزالي دراسته لمختلف التخصصات، كعلم اللاهوت العقلاني (وهو ما كان يسمى بعلم الكلام) (18-24)، والفلسفة الأرسطية (25-60)، والإسماعيلية (61-79)، والتصوف (80-101). لكن باستثناء الصوفية، لم تسمح أي من هذه التخصصات للغزالي بالتغلب على الشكوك التي أثارها باستعماله حجة الحلم.
المحطة- حمزة الفيل
إضافة تعليق جديد