كيف أنشأ الإنسان الفوضوي حضارات خالدة
إنك إذا نظرت إلى الإنسان القديم في المراحل المتقدمة جدًا من الحضارة، لا ترى سوى حيوانًا أهوج يميل كل الميل إلى إشباع رغباته بغير حد، ولم يجد النظام مكانه في حياته. وإذا نظرنا للحياة في عصرنا الحالي باعتبار أنها فصل من فصول المدنيَّة، لا نرى رابطًا حقيقيًا بين ما وصلنا إليه الآن من قيام دول واتحادات لدول وغيرها، وبين ما كان عليه الإنسان في البداية. إن حياتنا المنظمة بشكلها الحالي، بقوانينها وعاداتها وتعقيداتها، لم ترُق أبدًا للإنسان القديم. فما الدافع الذي قد يجعل ذلك الحيوان الشهواني يكون جزءًا من كيان له قوانينه وعاداته وتقاليده؟ لكان خيرًا له أن استمر في فوضويته بدون أغلال القوانين. فكيف كانت البداية إذن؟
البداية
اكتشف العلماء مؤخرًا في كينيا أنه منذ ما يقارب المليوني عام أن مجموعات من البشر الأوائل كانوا يجتمعون في أماكن محددة للأكل، وكون أن الخطر يحيط بهم من كل جانب، فكانت الأماكن التي يمكنها إيواءهم تعج بالجماعة بدلًا من الفرد. هنا تكمن نقطة فاصلة في تاريخ الحضارة، فيبدأ الإنسان التواصل مع المجتمع، فهو على كونه حيوانًا أهوجًا، إلا أنه احتاج الأمان الذي وفرته له الجماعة. ولكن من ناحية أخرى يجد أن هناك أفعالًا لا يحب الآخرين في المجتمع أن يفعلها، وسيكون مضطرًا لئلا يفعلها وهذا أثقل ما قد يُلقى على كاهله.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأنه لم يمكن اجتماعيًا بقدر ما كان يخشى العٌزلة. والشاهد على هذا أن التاريخ لم يقفز قفزاته في خطوات المدنية، فعلى الرغم من إتمام مرحلة التواصل الصعبة إلا أن التطور في سبيل التوسع كان بطيئًا جدًا. فبعد أن كانوا يجتمعون عند الصيد فقط، نشأت القبائل من مجموعة أسر تربطهم قرابة. أما حين نتحدث عن نشأة العشائر، فقد أخذ ذلك وقته من التاريخ. كما لم تعتد جميع القبائل على وجود رئيس لها، والبعض الآخر لم يقبل فكرة الرئيس أبدًا. وكانت الأمور شورى بين رؤساء الأسر في حالة السلم. ومن هذا نرى أن الديمقراطية ليست سمة مميزة لعصرنا، بل أخذت نصيبها في الأولين.
الرئيس
على أن مرحلة تكوين العشائر أخذت وقتها في التاريخ، إلا أنها تمت في النهاية. لكن على أي صورة؟
ظلت تقريبًا في الصورة المعهودة في القبائل حيث يلتزم الفرد بالقواعد المعروفة مسبقًا لدى الجماعة. وعلى الرغم من وجود رئيس للعشيرة إلا أنه لم تكن له سلطة حقيقية في سن القوانين. فعند الهنود لم يتمتع رئيس قبائل (إراكو) و (ديلاوير) إلا بسلطة متواضعة يمكن لشيوخ العشيرة نسخها وتعديلها وقتما شاؤوا. وهنود (أوماها) كان لديهم (مجلس السبعة) السبعة للتشاور والبت في الأمور. ومن هنا أيضًا نرى النزعة الفوضوية مازالت موجودة في بني الإنسان حتى مع قيام العشائر. فالقوانين والقيود كانت وما زالت تؤرق البشر إلى وقتنا هذا. ومع ذلك كان الأمر يختلف كليًا في حالة الحرب. فكما قلنا أن الإنسان لا يحب الخطر كغيره من المخلوقات. فعندما يدق ناقوسه تهزم غريزة البقاء أي غرائز أُخرى شهوانية، فترى في (دياك) إذا دقت أجراس الحرب هرعوا إلى أشجعهم وأقواهم فيُنصّبونه رئيسًا لهم ويطيعونه طاعة عمياء. وما أن تنتهي الحرب إلا ويرجع الكل كما كان، فيعود الرئيس لمنصبه المعهود ومقامه بين الناس. وإنك لترى في بعض القبائل البدائية السلطة في حالة السلم للكهنة. فقوتَي الأسطورة والقوانين الموضوعة قد سارا على مدار التاريخ في اتجاه واحد، ربما حتى إلى وقتنا هذا. إن الإنسان ميَّال بطبيعته إلى التفكك والفوضى أكثر منه إلى النظام والحضارة. وما كان تكوُّن القبائل والعشائر سوى خُطىً بطئية لم ينصع لها إلا اضطرارًا. واستنادًا على ذلك، فقد احتاج تطور الدولة بشكلها الحالي إلى حافز أكبر.
الحرب
على خلاف ما قد يبينه لنا التاريخ من مذابح دموية وحروب لا حصر لها، إلا أن الإنسان لم يحب الحرب أبدًا. فلم تنتشر الحرب بصورتها المعهودة إلا مع تعقد الحياة وظهور أسباب حقيقة تدفع القبيلة “س” إلى أن تحارب القبيلة “ص”. فالرعاة مثلًا لم يحاربوا إلا في سبيل المراعي التي توفر الطعام لقطعانهم، ولم يكن المزارعون المسالمون ليحاربوا إلا للتربة الخصبة. ومع ازدياد الحياة تعقيدًا صارت الحرب من أجل الدين مثلًا – وقلَّما كان -. وإذا كانت الحرب حقًا في طبيعة البشر لما حددوا أيامًا يُحرَّم فيها القتال منذ قديم الأزل. ولكن الحقيقة هنا أن الحرب لم تكن سوى وسيلة للانتقاء الطبيعي بين البشر. فقد كانت عاملًا حاسمًا في اقتلاع الشعوب الضعيفة، ورفع مستوى الذكاء والقسوة والمهارة لدى الإنسان. كما لعبت الحرب دورها في استقرار القوانين، فلم يكن الغازي ليفرض سطوته على المُحتل إلا بسن القوانين، ومن هنا تبدأ خيوط الشيوعية والفوضى بالضعف، ومن ثم ظهور الحكومات والفروقات الطبقية إلى آخره. ومن هنا يمكننا القول بأن الحرب كانت مرحلة لابد منها في قيام الدولة بشكلها الحالي أو الحضارة بشكل عام. والشاهد أنك إذا نظرت إلى الحضارات قديمًا لا تجد أحدًا فرض سيادته على منطقته إلا بالحرب. ففي بلاد الرافدين مثلًا لم يكفِ توحيد سرجون الأكبر لأكاد كافيًا لفرض سيطرته على المنطقة إلا بقمع الثوار وبصد الغزاة. ولم يستطع الملك مينا في مصر توحيد البلاد إلا بالحرب ضد مملكة الشمال.
النظام
يقول (أوبينهيمر):
“إنك لترى أينما وجهت البصر قبيلة مقاتلة تعتدي على حدود قبيلة أخرى أقل منها استعدادًا للقتال، ثم تستقر في أرضها مكونة جماعة الأشراف، ومؤسسة فيها الدولة.”
على الرغم من أن الحروب لعبت دورًا مفصليًا في نشأة الدولة، إلا أن ظهور الدولة المنظمة المحكومة بالقوانين لم يتم بين ليلة وضحاها. فنزعة الفوضى ما زالت في النفوس، ولا يمكنك إلا مجرد كبحها وألا تترك زمام الأمور تنفلت. وكنا قد عرفنا أن الحكم كان بالشورى لقبيلة تربطهم أواصر القربى، أما بعد الحرب يكون الحكم لمن يسيطر، فقد احتاجت هذه الفترة تغييرًا في مبدأ التنظيم الاجتماعي أكثر منه تغييرًا جغرافيًا. لذا فقد كان لزامًا على الحكومات السيطرة على الشعوب بأي طريقة كانت. يقول (ويل ديورانت):“إن كل دولة تبدأ بالقهر، لكن سرعان ما تصبح عادات الطاعة هي مضمون الضمير، ثم سرعان ما يهتز كل مواطن بشعور الولاء للعَلَم“.
والحق أن الأمر بدا مخيفًا للإنسان وقتها. إلا أنه اضطر لتكوين قرية مع تعدد الجماعات، وكُوِّنت دولة صغيرة من حكومة تميل للديمقراطية. ولكن مع كثرة الأعداد وتعدد المصالح والعلاقات الاجتماعية، كان يلزم قوة خارجية أكبر وأكثر تنظيمًا تحكم هذه القرى المختلفة في عاداتها تحت قانون واحد، وتنظم العلاقات الاقتصادية بينها. على أن القوة وحدها لا تكفي لكبح الغرائز البشرية الفوضوية، كان لزامًا على القوى الحاكمة أن تبث غرائزها الخاصة في الناس. فتستخدم دور العبادة والمدارس في بث روح الوطن الواحد تحت علم واحد، فبدلًا من أن يدفعوا الضرائب تفضيلًا على دفعها على صورة جزية، يدفعها وهو راغب من ذلك مصلحة الوطن. فيحب الإنسان النظام بدلًا من الفوضى. حتى إنك ترى جماعة (الباجندا) يسلحون أنفسهم ضد أنياب الفوضى والخروج على القانون بعد موت الملك. وأظننا عشنا مواقفًا مشابهة في عصرنا هذا.
إعداد : محمد جمال
إضافة تعليق جديد