سلفنة الرواية العربية المعاصرة تجميل للأصولية وتلاعب بالإبداع
متشددون جدد بأساليب عنف جديدة
الإبداع حرية، وكسر لأصفاد العقل، وسياحة لخاطرات روحية، وتمدد لفضيلة الأسئلة، وانطلاق لأحاسيس الإنسان. هو طرح للخيال ومجاهرة بمكنون النفس، وأن تسأل دون حرج، وتكتب بلا إشارات مرور، وتُحلق كيفما شئت في سماوات المعرفة والجمال. من هُنا كان ملفتا للنظر ومثيرا للدهشة، زحف التيارات السلفية المنغلقة على فن الرواية الحديثة كقناة مفترضة من قنوات الدعوة.
من الملاحظ في المدة الأخيرة وجود موجة “سلفنة” ثقافية مُخيفة للرواية، بدأت ملامحها في التشكل مع الصعود السياسي للتيارات الدينية، عقب ما يعرف بثورات الربيع العربي، ولم تتوقف ملامحها.
كانت الخطوات محسوبة ومركزة ومدعومة بشكل غريب ومستتر، غير أن ناقدة أدبية نابهة، هي الدكتورة أماني فؤاد أستاذة النقد الأدبي بأكاديمية الفنون بالقاهرة، التفتت للأمر وأعدت دراسة تفصيلية حول ذلك ضمنتها كتابها “المرأة ميراث من القهر”، حيث تناولت نصوصا لروائيات منتقبات في مصر دخلت ضمن قوائم الكتب الأكثر مبيعا.
أحدث نشر جانب من تلك الدراسة في القاهرة قبل أيام ردود أفعال صاخبة في الوسط الثقافي، وكشف بجلاء اتساع تيار السلفية في الكتابة الروائية الحديثة، حيث تجاوز عدد الروائيات المنتقبات في مصر وحدها عشر روائيات، وكشف عن وجود توجه لتمرير قيم السلفية، من انغلاق وذكورية ورفض للآخر وتحريض على هدم القانون والعنف ضد الآخر، عبر بعض النصوص الحديثة.
زحف ممنهج
تقول أماني فؤاد في تصريحات خاصة لـ“العرب”، إن أحدا من المجتمع الثقافي لم يكن ليلتفت لزحف السلفية الدينية إلى الإبداع تحت تصور سابق ظل سائدا لعقود طويلة، مفاده أن التيارات الدينية غير قادرة على صناعة الفن أو الإبداع، ومن ثم فهي غير قادرة على التأثير في الوسط الأدبي.
وتوضح أن ذلك التصور تأكد خطؤه، لأن الأجيال الجديدة من التيارات الدينية تعلمت تعليما جيدا، بعضها تعلم لغات أجنبية وصارت لديه قدرة على الكتابة واستخدام الفن الروائي والقصصي كإحدى وسائل الدعوة.
أدى وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى حكم مصر لعام واحد (2012 – 2013) إلى اقتناعهم بأنهم في حاجة ماسة إلى القوى الناعمة التي كانوا يفتقدونها من كتابة وفن وإبداع للتأثير في الناس، ما دفعهم إلى تشجيع ملكات الكتابة لدى البعض للنفاد إلى المجتمع والتأثير فيه عبر الأدب، وكان من الغريب أن هناك دور نشر بعينها روجت لظاهرة الروائيات المنتقبات لتكتسب جمهورا كبيرا، حتى أن بعض رواياتهن دخلت في قوائم الأكثر مبيعا.
تؤكد أماني فؤاد أن ذلك طرح تساؤلا مفاده، إن كان السلفيون قادرين على الإبداع أم لا؟ ما دفعها إلى قراءة ودراسة روايات المنتقبات لتجد أن هناك بالفعل ثلاثا منهن قادرات على الكتابة بشكل أدبي جذاب يؤثر في القراء المبتدئين.
وتضيف لـ“العرب”، أن بعضهن لديهن تركيبات لغوية جيدة، وبناء مقبول للشخصيات، وشكل فني معقول، لكن كان من الواضح أن هناك رسائل ظاهرة وأخرى خفية يتم تمريرها عبر النصوص الروائية، مثل استحلال القتل والعنف ضد الآخر(غير المسلم)، وكراهية الاحتكام إلى دولة القانون، والنظرة الضدية تجاه مؤسسات الدولة، وتمرر الروايات قدرا كبيرا من الذكورية وازدراء المرأة، وتنطوي على مغالطات علمية متنوعة تنسب كل فعل حضاري عظيم إلى المسلمين وحدهم.
تبرر أماني فؤاد دخول بعض هذه النصوص ضمن الكتب الأكثر مبيعا بعدة أسباب، أولها غرابة الظاهرة، لأن معرفة القارئ بأن كاتبة الرواية منتقبة تدفعه إلى البحث عما تقدمه تلك الكاتبة من تصورات ورؤى، وثانيها اعتماد دور النشر على كتائب إلكترونية منظمة ومدعمة ماليا للترويج للكتب، فضلا عن أن هناك بالفعل جمهورا من
الأتباع والمتعاطفين مع التيارات الدينية داخل المجتمع، ومن يقرأ منهم يفضل القراءة لكتاب ينطلقون من أرضية إسلاموية.
رسائل رجعية
طبقا للدراسة التي أعدتها الناقدة، واختصت “العرب” بنسخة منها، فإن الجانب الوعظي والخطاب العاطفي الشبيه بروايات فترة المراهقة هما المسيطران على نصوص المنتقبات.
وفي نص “من وراء حجاب” لِمُنَى سلامة نجد أن هناك إصرارا لا ينقطع على الإشادة بالسلف المسلم وإثبات الفضل له، في اكتشاف شفرة حجر رشيد على سبيل المثال، الذي فك شفرة الكتابة الهيروغريفية، وإسناد فضل اكتشاف قانون الجاذبية إلى البيروني وليس إلى نيوتن بحسبه من العلماء الغربيين.
تكمن الخطورة في أن المغالطات والمبالغات في نسبة الفضل إلى السلف تأتي في سياق تحفز فيه الروائية المسلمين على اتباع طريق العلم، وهو ما لا يختلف عليه أحد، فتقدم الرسائل التي تريد ترسيخها بطريقة تستخدم دهاء العرض فتتداخل مبالغات ما تنسبه إلى السلف مع قيمة محبذة فيمررها القارئ، رغم ما تشتمل عليه من مغالطات تاريخية وعلمية وابتسار للحقائق.
فرض النقاب لدى الكاتبة تأثيم النساء غير المحجبات والنظر إليهن بنوع من التوجس من أخلاقهن، كأنهن مارقات يحتجن إلى الإصلاح ودعوتهن إلى طريق الهداية، أي رفض الآخر المختلف، حتى لو كان مسلما، فهم يحتكرون صحيح الإسلام، وإن لم يستجب فينبغي تقويمه وإصلاحه ولو بالقوة والعنف وإراقة الدم.
تقول الكاتبة في روايتها “لا يوجد حبر على ظهر الأرض بإمكاننا أن نكتب به داخل بلادنا إلا الدم”، ويرد هذا في بناء سردي رمزي مقصود اختلقته الروائية حول بلد يترأس السلطة فيها مجلس وصاية ظالم، وأن هناك رابطة دم تتشكل من جماعة تكتب وجودها وتسجله بالدماء.
وتركز النصوص على وجوب النقاب ورفض الفنون والآداب، بما تتضمنه من اختلاف الحالات البشرية وفردانيتها، ومعالجتها لكل التوجهات والرؤى، والانغماس في الثقافة الدينية في المقام الأول، من تعاليم وسنن وتفسيرات وسيرة، والتوجس من مجالات الثقافة الأخرى، والتشكيك في الخدمات اليومية التي يقدمها المجتمع بمؤسساته، والتوجس من النساء غير المحجبات وتصويرهن بشكل أدنى في الأخلاق.
في نص “وقالت لي” لدعاء عبدالرحمن، يؤكد السرد على طبيعة اللباس الذي ترتديه المرأة وفضل غطاء الوجه وأفضلية المحجبة عمن سواها، بل تصل هالة التي ترتب لحياة بناتها قبل وفاتها نتيجة مرضها بالسرطان إلى توريث الغطاء الأسود أو الرمادي لبناتها أو من سيتزوجها زوجها بعد وفاتها، وهي من تنتقيه لها ولبناتها قبل موتها.
كأن هذا الرداء فيصل في تحديد ماهية الشخصية وأخلاقها دون أن نراها تنشغل بقيم نماذجها من النساء والرجال، وبدا السطح الخارجي الفيصل في تحديد ماهية البشر.
وخلصت دراسة أماني فؤاد إلى أنه لا يتسق فعل كتابة الرواية مع يد مخبأة خلف قفاز أسود خوفا من أن تلامس العالم أو يلامسها هو، فالوجود لا ينقض وضوءنا ولا طهارة أرواحنا لو شئنا.
يفرض النقاب نوعا من العزلة على الروائية، وهي الأكثر احتياجا إلى خوض الغمار ومعايشته، للقدرة على التعبير عن نفسها، كما التعبير عن النماذج البشرية المحيطة بها، بكل ما ظهر منها وما بطن، في حالات النجاح أو الإخفاقات، في قوتها وهشاشتها، بحاجة إلى أن تحب شخوصها وتتلبسها حالاتهم لا أن تتناولهم كأنها تلقي خطبة على منبر جامع، لتقرر الواجب والجائز والذي يمتنع، أو أن تحاكم العمل وشخوصه وما يطرح به من مواقف من الجانب الأخلاقي.
رغم حداثة الظاهرة، هناك جذور أدبية لها اتسمت بالمحاولات الفردية مثلما فعل كاتب الروايات نجيب الكيلاني الذي انتمى فكريا وتنظيميا إلى جماعة الإخوان المسلمين.
يؤكد الروائي المصري أحمد عبدالمجيد، لـ“العرب”، أن ظاهرة الروائيات المنتقبات امتداد لكتابات الكيلاني التي كانت تركز على سرد مزاعم اضطهاد الإسلاميين في مختلف البلدان، ومحاولات وتجارب الإسلاميين في مجال الرواية اعتمدت على تصور طرحه الكاتب الإخواني محمد قطب في كتاب “منهج الفن الإسلامي”، حيث تعامل مع فن الرواية باعتبارها نموذجا للدعوة، والسمة الغالبة عليها التعامل بسذاجة مع الأدب من خلال بث قيم السلفية عبر صفحات النص بأسلوب وعظي منفّر.
الظاهرة الجديرة بالمتابعة في هذا الشأن، هي أن جميع الروائيات المنتقبات في مصر ينتمين إلى دار نشر بعينها، ما يشير إلى وجود تمويل ودعم مالي مخصص لهذا الشأن، إذ أنه ليس من المقبول مصادفة أن تختار عشر روائيات منتقبات دار النشر نفسها لنشر كتاباتهن المتشابهة في التناول والطرح.
نجاح مؤقت
يهون البعض من الظاهرة مستندا إلى أنه مهما ذاع أدب الروايات السلفية أو انتشرت موجات الروائيات المنتقبات، فإن ذلك مُحدد التطور، نظرا لاصطدام الفن بالقيود السلفية وصعوبة طرح الجمال من بيئات فكرية منغلقة.
يشير الروائي السوداني أمير تاج السر، لـ“العرب”، إلى أنه ممن يرون أن الكاتبة المنتقبة أو الكاتب السلفي يمكن أن يبدعا، لكن مهما كان إبداعهما لن يستطيعا الخوض في الكثير من الأمور التي يتصورها الإسلاميون تابوهات محرمة، من هنا فإنه يرى أن الكتابة الروائية لدى التيار السلفي خاضعة لقيود تحد من انتشارها وتحولها إلى ظاهرة.
ويقول الروائي المصري ناصر عراق لـ“العرب”، إذا اتفقنا مبدئيا على أن الإبداع الجيد عبارة عن فعل جميل لمقاومة كل ما هو قبيح وظالم ومنفر في الحياة، فإن الشرط الأول للوصول بهذا الإبداع إلى هدفه النبيل يكمن في تعزيز حرية المبدع من كل القيود التي تعرقل تحقيق ذاك الهدف النبيل.
وبذلك يصبح ارتداء النقاب، أو تبني الأفكار السلفية، مأزقا إنسانيًا بامتياز لأنه يتعامل مع جسد المرأة بوصفه مصيبة يتحتم إخفاؤها عن أعين المجتمع، الأمر الذي ينعكس بالسلب على نفسية المرأة ذاتها وعقلها ووجدانها حتى لو لم تشعر بذلك، بالتالي سيغدو ما تبدعه مشوها منقوصا ومحرومًا من الهدف الأسمى لكل إبداع جميل ومتفرد.
ويضيف، ينبغي التفريق بين أمرين في مسألة النقاب: الأول أن ثمة امرأة ترتديه رغمًا عنها من باب تنفيذ أوامر رجال الأسرة (أب/ شقيق/ زوج)، والأمر الثاني يتمثل في أن هناك امرأة منتقبة بسبب قناعات دينية وفكرية تؤمن هي بها.
ويلفت عراق إلى أن المرأة المنتقبة رغمًا عنها قادرة على كتابة رواية أو قصيدة مثيرة، إذا امتلكت المهارات الواجبة، لكن من الصعب على المرأة المقتنعة بضرورة النقاب أن تقدم لنا نصوصًا إبداعية تتصف بالإشراق والجمال والعمق، لأنها تنطلق من قناعة فكرية مقدسة تحتقر حرية الإبداع، كما تحتقر المرأة نفسها وتختزلها في جسد مرصود لمتعة الرجل، وتختزل الدين نفسه في قطعة قماش.
قبول مشروط
يشدد الروائي المصري حمدي الجزار، لـ“العرب”، على أن الأدب حرية تامة وكاملة وممارسة إبداعية بلا قيود، لذا يصطدم بالأيديولوجيا، أيا كان توجهها، فالفن نسق منفتح لا يمكن أن يحيا بعيدا عن ذلك الانفتاح.
ويتابع، إن ذلك لا يقتصر على السلفيين أو المنتمين إلى التيارات الدينية وحدهم، إنما يشمل كل مَن يعتبر نفسه “شيوعيا ستالينيا أو لينينيا أو ماويا أو مَن يقدم نفسه باعتباره كاتبا مسيحيا، فالرواية الحقيقية أوسع من الأيديولوجيا”.
إذا كان هناك مَن يقبلون بالأمر باعتبار السلفيين، رجالا ونساء، فصيلا من المجتمع من حقه التعبير عن نفسه وقيمه وطرح تصوراته، فإنه من الضروري أن يخضع ذلك لمعايير فنية تتجاوز فكرة الطرح الوعظي المباشر أو تمرير أفكار التطرف.
حاول البعض بالفعل اختبار ذلك، ما دفعه إلى الاصطدام الفعلي بمعسكر السلفية الذي ينتمي إليه، وهو ما عبر عنه الروائي المصري ماجد شيحة في رواية جريئة فضحت توجهات السلفيين ضد الفن وحملت عنوان “سلفي يكتب الروايات سرا”.
تقول القاصة المصرية سمر نور، لـ”العرب”، إن النقاب أو اللحية اختيار إنساني لسنا في مجال نقده، لكن ذلك يعكس بالضرورة فكرة الابتعاد عن الدنيا، والأدب بلا شك احتكاك مباشر بالدنيا وما فيها من تجارب، ما يعني أنه أمر مستغرب أن يكتب أحد أصحاب هذا الاختيار أدبا جميلا.
وتوضح، إذا كان ثمة اعتقاد قوي باصطدام الإبداع بالفكر الديني، فإن لكل قاعدة شواذ ومن المحتمل أن تكون هناك منتقبة لديها موهبة، وأن يكون ارتداء النقاب مبنيا على أسباب خاصة، فالقاعدة هي التعامل مع النص بعيدا عن شكل أو هيئة صاحبه إلى أن يثبت كونه نصا جيدا أو ركيكا.
مصطفى عبيد: العرب
إضافة تعليق جديد