تجدّد مأساة النزوح: الشريط الحدودي يُفَرَّغ من سكانه
على عتبة «مدرسة سعد بن أبي وقاص» في مدينة الحسكة، يجلس العم محمود ووجهه مثقلٌ بالهموم والأوجاع، بعدما باتت المدرسة منزله الجديد، إثر تحوّل مدينته الدرباسية إلى ساحة للقصف والقتال. يرفض الرجل الخوض في تفاصيل مراحل نزوحه، وحتى الحديث بأي شيء، ويكتفي بالدموع التي تسيل على خدّيه. صوتٌ قريبٌ يأتينا من الجالسين إلى جانبه: «دعه وشأنه، دموع الرجال تحكي هموماً كالجبال»، بينما تصرخ سيدة مُسنّة تُدعى فهيمة، مُوجِّهةً الحديث إلينا: «اكتبوا باعتنا أميركا، وتركتنا لوحدنا»، وتتابع المسنّة بالقول: «هُجّرنا، وقُصفنا، وسيحتلّ المسلحون منازلنا من جديد».
على مقعد دراسي نُقل إلى باحة المدرسة، تجلس مجموعة من شباب مدينة رأس العين. يقول خالد (اسم مستعار)، متحدثاً بصوت منخفض، إن «ما يحصل سببه قسد! لقد أخطأت حساباتها، وجعلت مناطقنا تواجه مصير التدمير». ويضيف: «أملنا الوحيد هو بالجيش السوري، أن يحسم الموقف، لأنه لا استقرار لمنطقتنا من دون عودتها إلى الدولة السورية». أما الشابة ريم، ابنة رأس العين أيضاً، والتي كانت تلاعِب أرنباً أبيض اللون في باحة مركز إيواء للنازحين افتُتح أخيراً، فتشير إلى أنها «حرصت على إخراج الأرنب معها، لأن من يقتل الإنسان لن تهمّه حياة الحيوان»، وتتابع بانفعال: «لا نستطيع التعايش مع هؤلاء. هم وحوش (...) وحوش سيقتلوننا لو بقينا». تتذكّر الفتاة ما فعله «الجيش الحر» في مدينة رأس العين التي دخلها في عام 2013، وتعلّق: «أنا متأكدة، سيكررون إجرامهم ومجازرهم».
يكتظّ الطريق الذي يربط مدينة رأس العين بالحسكة بمئات السيارات المتنوعة التي تنقل آلاف الأسر من مدينة رأس العين وقراها، باتجاه مدينة الحسكة. تقف بعض السيارات لتختار بلدة تل تمر مقرّاً لنزوحها، بينما يكمل آخرون طريقهم نحو أقارب لهم في قرى أخرى في الأرياف الجنوبية لمدينة رأس العين وصولاً إلى مدينة الحسكة. محمود، النازح من قرية تل تشرين، يبيت في الطريق العام القريب من تل تمر على أمل أن يستطيع العودة إلى منزله، ولو لإخراج حاجاته الأساسية فقط. يقول محمود لـ«الأخبار»: «شدة القصف الذي طاول مدينة الدرباسية، وسقوط قذائف في قريتنا، دفعانا للمغادرة بلباسنا فقط»، مضيفاً أن «المدنيين يخشون من نهب وسرقة ممتلكاتهم، لكون لهم تجارب سابقة مع ذات الفصائل في عام 2013».
دفع اليومان الأولان من الهجوم التركي آلاف المدنيين إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم في الشريط الحدودي، الذي يمتدّ على أكثر من 480 كم، وتنتشر فيه 10 تجمعات سكنية كبرى. ويتركّز النزوح في مدينتَي تل أبيض ورأس العين اللتين يقطنهما أكثر من 200 ألف مدني، بالإضافة إلى القرى الحدودية في ريف الرقة، وريفَي الدرباسية ورأس العين في الحسكة. وتنبّه منظمات دولية معنية بالشأن الإنساني إلى أن الهجوم قد يتسبب بموجة نزوح هي الأكبر منذ بداية الحرب في سوريا. وفي هذا السياق، تفيد مصادر كردية تعمل في الجانب الإغاثي، «الأخبار»، بأن «أكثر من 200 ألف نزحوا في الـ48 ساعة الأولى لبدء الغزو التركي»، لافتة إلى أن«أعداد النازحين تتزايد مع استمرار القصف وارتفاع وتيرته، وامتداده إلى مناطق جغرافية واسعة». وتحذر المصادر من كارثة إنسانية ستؤدي إلى «نزوح أكثر من مليون مدني من سكان الشريط الحدودي من المالكية وحتى عين العرب في ريف حلب الشمالي». من جهته، يؤكد محافظ الحسكة جايز الموسى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «المؤسسات الحكومية المعنية بالشأن الصحي والإنساني، مع الهلال الأحمر، استنفرت كل الفرق لتلبية احتياجات السكان الفارّين من منازلهم»، متابعاً أن «ورشات المياه والكهرباء والاتصالات جاهزة على مدار الساعة للتدخل، وضمان استمرار تقديم الخدمات الحكومية».
أزمة عطش في الأفق
شهد اليوم الثاني من الهجوم التركي قصفاً مركّزاً على محطة الكهرباء المغذّية لآبار مياه علوك، والتي تعتبر المصدر المائي الوحيد لأكثر من نصف مليون مدني في مدينة الحسكة والقرى والأرياف التابعة لها. وأدى الاستهداف إلى خروج آبار المياه عن العمل، وانقطاع مياه الشرب، ما يهدّد بأزمة مياه حقيقية، في ظلّ عدم وجود مصدر بديل لمياه الشفة. وفي هذا السياق، يقول مصدر في مديرية مياه الحسكة لـ«الأخبار» إن «الهلال الأحمر السوري، بالتعاون مع منظمات دولية، يعمل على إيجاد آلية لإيصال ورشات الصيانة إلى المحطة وتشغيلها، وإعادة ضخّ مياه الشرب من جديد».
الأخبار
إضافة تعليق جديد