خصْما الدعاوى المصرفية: متضررو الحرب وحكومة «الجباية»
لم يتوقع العاملون والعاملات حال البلاد بما هي عليه اليوم، حين تقدموا بطلبات قروض تمكّنهم من تأمين متطلبات أسرهم، قبل الحرب.
فالبلاد التي كانت «مرتاحة على وضعها»، وتقدر على تمويل مشاريع مواطنيها ــ على الرغم من فوائد مصارفها المرتفعة ــ ما عادت كذلك، وغدت تطالب باسترداد دينها من أبنائها، لتغص المحاكم السورية بدعاوى ضد مواطنين لم يسددوا ما عليهم من أقساط لمصارف حكومية وخاصة. ولا يعدّ الغوص في هذا الملف محبّباً لدى معظم المسؤولين، فالحكم القضائي وفق ما يسمى «روح القانون»، أي العمل بما تمليه الرحمة قبل العدالة من قبل القضاء، ليس وارداً في حسابات الحكومة، التي تحتاج الى المال لدفع رواتب الموظفين وتأمين الخدمات البلدية اللازمة، بما لا يسمح لها بالتهاون مع مصادر جلبها للأموال، وخاصة الضرائب والمصارف. الوضع السابق، قاد إلى وقوف المواطنين ودولتهم، كخصمين في المحاكم، كل منهم يتّهم الآخر بالسرقة، فلا السوريون الذين تهدمت معاملهم ومنازلهم، يرون جدوى من دفع أقساط عقارات تحولت إلى ركام، ولا الدولة ستعفّ عن أموالها التي يتهربون من دفعها.
المطلوب: «عفو مالي»
لا يكاد يخلو منزل سوري من «مأساة» القروض الشخصية أو الصناعية أو العقارية، وصولاً إلى الزراعية. غير أن استمرار سدادها في ظل تعطل غالبية الأعمال والانخفاض الحاد لقيمة الليرة السورية أمام الدولار وما سببه ذلك من غلاء المعيشة، يعد ضرباً من الأحلام.
يروي أبو أمجد (تاجر سابق) قصّته التي بدأت باقتراضه 5 ملايين ليرة قبل عام على بدء الأحداث السورية، إذ استمر في سداد المبلغ طوال عام، بعدما استفاد من القرض في تحديث عمله وتحسينه، إلى أن بدأت الأحوال الأمنية بالتدهور وتراجعت المبيعات، ما اضطره أخيراً إلى تصفية أعماله، وعرض العقار للاستثمار. ولم يكن مبلغ الإيجار المحصّل كافياً لتسديد قيمة القسط الشهري والأقساط المتراكمة (خلال فترة تدهور أشغاله)، ما أدى إلى إخلاله بالدفع لحين صدور أمر من المحكمة بالحجز على العقار، لتبدأ رحلة البحث عن تسوية مع البنك. وتجري عادة التسوية عبر دفع قسم من المبلغ الإجمالي للقرض، مع المصالحة على دفع القسط الشهري وفق صيغة جديدة. أي إن القسط الشهري الذي كان يزيد على 60 ألفاً، سيرتفع إلى 125 ألفاً، والفائدة التي كانت 11%، ستصبح 15%. يضحك الرجل ساخراً ويقول: «هذه الفائدة لا تقل بشاعة عن بيع العقار بالمزاد العلني، كما هددني المصرف». ويضيف: «جرى العفو عن المسلحين الذين قتلوا أبناءنا وشردوا أهلنا ودمروا بلادنا، فيما تعجز الدولة عن العفو المالي عنا، أو على الأقل عن استصدار قوانين تعفينا من قيمة الفوائد، أو تقدم مصالحات مالية جديدة لتسوية أوضاع أرزاقنا. هل يكون حل الأزمة السورية من جيبي وجيوب أمثالي!».
ويتناسب حجم المأساة طرداً مع مبلغ القرض، فبينما يتشارك أبو أمجد قصته مع آلاف السوريين المقترضين من الدولة، فإن معاناتهم فرادى لا تقاس «حجماً» مع كبار التجار والصناعيين في حلب الذين وصلت قروض بعضهم إلى 3 مليارات ليرة، وتكررت الدعاوى التي تدور حول مبالغ تتجاوز مليار ليرة.
الخسائر المتوالية التي أنهكت القطاع الصناعي أفضت إلى الحجز على الأملاك الباقية للصناعيين العاجزين عن سداد قروضهم. وفي ضوء عدم وصول قيمة الأملاك الباقية إلى قيمة المبلغ المسحوب من المصرف، فإن اللامبالاة سادت أوساط التجار المتضررين، في وقت تواجه فيه الحكومة مشكلة كبرى في آلية تحصيل مستحقاتها المالية.
لا استثناءات في الحرب
بعيداً عن أصحاب المليارات، أو المتهرّبين من دفعها، تطفو قصة الصيدلانية ابتسام الياس، ابنة حمص، لتكشف مدى الدمار الذي أصاب أحلام شريحة واسعة من السوريين. اشترت ابتسام منزلها الكائن في حمص القديمة، قبل أيام من اندلاع الحرب، وتمكنت من الحصول على قرض بعد أشهر قليلة، لتتمكن من تجهيز المنزل. وبعد انتقالها للإقامة في البيت الجديد، أواخر عام 2012، لم يمض أكثر من أسبوع قبل أن تغادره مع أسرتها، بعد «اشتعال» حي الحميدية. خسرت منزلها الذي أحيل دماراً، بعد عام على خسارة صيدليتها الواقعة على دوار الفاخورة. وعلى الرغم من وجود تأمين من الدرجة الأولى للمنزل ــ ومن المصرف الخاص ذاته ــ فهي لم تنل تعويضاً، بل وصلها الرد بأن «التأمين لا يشمل العمليات الإرهابية».
توقفت ابتسام عن السداد حتى اتّصل بها محامي المصرف ليبلغها أن اسمها منشور ضمن إنذار على صفحات إحدى الجرائد الحكومية، ما اضطرها إلى دفع كامل المستحقات وغرامات التأخير وأجور المحامي الذي حصل على أمر الحجز ضدها، بعدما يئست من أن يسمعها أحد. تتجاوز قيمة المبلغ المدفوع مليون ليرة، إضافة إلى سداد 20 ألف ليرة شهرية من أصل راتبها الشهري، الذي لا يتجاوز 30 ألفا، مقابل عملها الحالي في مستودع أدوية. تقول بحرقة: «لا يزال المصرف يحصل مني على مبلغ التأمين، وفق القسط الشهري، فيما يرفض القيّمون عليه منحي نسخة عن عقد التأمين، كي أعرف حقوقي». وتضيف: «لا أريد أن أسلب حق أحد، لكن هل من المعقول أن تتجاهل الحكومة حل ملف كهذا الملف؟ حتى لو كان حلاً مؤقتاً! أمَا من استثناءات في الحرب؟».
مجلس الشعب vs الحكومة
التساؤلات العديدة التي تحمل طعم الفجيعة والظلم نقلناها إلى عضو مجلس الشعب ورئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابي، الذي أكد باقتضاب أن العمل جارٍ في المجلس على استصدار قوانين تكفل الحقوق لهؤلاء المتضررين من الحرب. القوانين التي يقصدها الشهابي تشمل تعويضات وإعفاءات للمتضررة أملاكهم من أعمال العنف والتخريب، لكنّها لا تزال مقترحات تنتظر موافقة مجلس الشعب، لتشريعها لاحقاً. من جانبه، يرى زميله نبيل صالح أن حق الدولة الضريبي عادل، أسوة بسائر الدول التي ترغب بالنهوض بعد الحروب، غير أنّه يصف الحكومة الحالية بأنها حكومة «جباية»، بحجة أن «خزينتها تصفر». وبحسب صالح، فإن المجلس سيحارب من أجل استصدار قانون يعفي المتضررين من الحرب، بل وتقديم قروض ميسّرة لبدء حياة كريمة. ويقترح النائب السوري فكرة «طابق بالهوا» التي تعتمد على مضاعفة المقاولين عدد طوابق كل مبنى سكني يعيدون بناءه، بحيث ينالون طابقاً لهم مقابل كل طابق يقدمونه مجاناً لسكان المبنى المدمر.
مرح ماشي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد