الكتاب الأحمر.. اعترافات كارل يونغ الخطيرة
في سمينار العام 1939 ناقش يونغ التحول التاريخي لشخصية الشيطان قائلا: «عندما يظهر الشيطان أحمر اللون، يكون نارياً، ما يعني طبيعة شغوفة تسبب الفسق والكراهية أو الحب الجامح».
أخيراً رأى النور: «الكتاب الأحمر». بعد ست عشرة سنة من عمل كارل غوستاف يونغ على هذا الكتاب، وبعد ما يقارب خمسين عاماً على وفاته، وفي العام 2009، ظهرت النسخة الكاملة «طبق الأصل»، من هذا الكتاب على شكل مجلد مكتوب بخط فني ومجلد بغلاف أحمر أنيق، مزودا باللوحات والمخطوطات التي كان يونغ قد رسمها بما يتلاءم مع أخيولاته. وفي العالم 2012 ظهرت «نسخة القارئ»، باللغتين الالمانية والانكليزية، وهي تحتوي على النص الكامل للكتاب الاصلي بعد إزالة الرسومات والمخطوطات. ومؤخرا صدر بنسخته العربية عن دار الحوار، دمشق. قام بترجمته متيّم الضايع، ورنا بشور.
ليس الكتاب الأحمر كتاباً عادياً يشبه بقية الكتب الأدبية أو النفسية، كما أنه لا يشبه أياً من كتب يونغ نفسها، إنه عمل في علم النفس ضمن إطار أدبي.
منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وفي ذروة تطوّر البشرية نحو التقدم العلمي والصناعي وما تلاها من حروب واستبداد وتملك وسيطرة، وفي ذروة توجه الإنسانية نحو الحياة الاستهلاكية والصراعات الطبقية، وتوجه الإنسان نحو الخارج ومحاولته إلقاء اللوم على الآخر، أدرك يونغ أن المشكلة تبدأ في داخل الإنسان وتنتهي فيه، وأن اللاوعي ليس مادة خاملة، بل هناك من يعيش في تلك الأعماق، وهكذا، تحول إلى أعماقه باحثاً عن تشخيص مقنع لما أصبح الانسان عليه.
إن ما يجعل هذا الكتاب مختلفاً عن غيره، هو أنه لم يطرح مشكلة أو حلا لمشكلة، ولم يقدم محاضرة ولا عِظة يمكن للقارئ أن يتبناها أو يعمل عليها لحل مشكلته، بل قام بدراسة معمقة على نفسه واعتبرها طريقاً خاصاً به، لم يتبع عبرها شخصاً آخر، ولا ينصح أحدا بأن يتبعه عبرها، بل يمكن للمرء من خلالها أن يراقب ويرى ويخلق طريقه الخاص بنفسه ولنفسه. لكن ما انتهى إليه في نهاية المطاف، هو أن الحياة تقوم على المتناقضات، وأن فيها الأبيض والأسود، والعيش والموت، والخير والشر، وأن الإنسان مخلوق على هذا الاساس وليس عليه أن يقبل أن السواد والشر والموت أمور موجودة فيه فقط، بل أن يحبها ويتعامل معها كما يتعامل مع نقيضها.
في أحد أيام عام 1957 كتب يونغ في أحد يومياته: «كانت تلك السنوات التي حدثتكم عنها، حيث كنت أتعقب الصور الداخلية، أهم وقت في حياتي. يمكن اشتقاق كل شيء منها. بدأ الأمر في ذلك الوقت، ولم تعد التفاصيل اللاحقة تهمّ كثيراً. تتألف حياتي كلها من إسهاب ما، انفجر من اللاوعي، وغمرني كجدول غامض، وهدد بتحطيمي. كانت تلك المواد تكفي لأكثر من عمر واحد. كل ما حدث لاحقاً، كان مجرد تصنيف خارجي وإسهاب علمي، ودمج بها في الحياة. لكن البداية الخارقة للطبيعة التي احتوت كل شي، كانت حينها».
العام الذي قصده يونغ هو عام 1913 الذي كان محورياً في حياته. بدأ اختباراته على نفسه، بما أصبح معروفا بـ «مواجهاته مع اللاوعي» ودام ذلك حتى عام 1930. خلال هذه التجربة طور تقنية «لفهم عملياته الداخلية»، «لترجمة العواطف إلى صور». وقد أطلق لاحقاً على هذا المنهج مصطلح «التخيل الفعّال».
في هذا الكتاب الفريد، والاستثنائي، نقف على الجهة الاخرى من الانقسام بين علم النفس والأدب، فيونغ شرع بكتابة «الكتاب الأحمر». نسخ بأمانة معظم الأخيولات من الكتب السوداء، وأضاف إلى كل منها مقطعاً يشرح فيه معنى كل حادثة، إضافة إلى إسهاب شعري.
مع الصفحات الاولى للكتاب الأحمر نلاحظ تأثر يونغ بكتاب نيتشه الشهير: «هكذا تكلم زرادشت». وقد اعترف حول ذلك بقوله: «فجأة أمسك الروح بي وحملني إلى بلاد صحراوية، قرأت فيها زرادشت». ايضا يبدو واضحاً تأثره بمؤلف «الكوميديا الالهية» لدانتي، إلى حدّ انه ساعد في تشكيل بنية العمل. يصف «الكتاب الأحمر» هبوط يونغ إلى الجحيم. لكن بينما استطاع دانتي استخدام علم أكوان راسخ، كان «الكتاب الاحمر» محاولة لتشكيل علم أكوان فردي. إن دور فيلمون في عمل يونغ، يشبه دور زرادشت في عمل نيتشه، وفرجيل في عمل دانتي.
شخصية «فيلمون» ظهرت لأول مرة في الكتب السوداء في 27 كانون الثاني من عام 1914، بالنسبة ليونغ، فيلمون مثّل بصيرة سامية، وكان أشبه بمعلم له. كان يُجري محادثات معه في الحديقة. لقد ذكر ذات مرة أن فيلمون تطور من شخصية إيليا، الذي ظهر سابقاً في أخيولاته: « كان فيلمون وثنياً وأحضر معه جوّاً مصرياً - هلينياً مع ألوان غنوصية.. هو من علمني الموضوعية الروحية، واقع الوساطة الروحية. من خلال محادثات مع فيلمون، أصبح الفرق بيني وبين موضوع أفكاري واضحاً.. نفسياً، كان فيلمون يمثل بصيرة سامية».
حول العمق الروحاني يمكن اعتبار كل ما كتبه أو باح به يونغ في هذا الكتاب ـ الذي لم يكن لينشره خلال حياته، فالكتاب نشره الورثة ـ بقرار لربما يخالف رغبة كاتبه، لكن الكتاب نُشر، ويمكن اعتماده كوثيقة أصيلة لباحث ومفكر وأديب جريء الخيالات، لكل ما يمكن أن يتخيله الانسان المفكر والمثقف فلسفيا وميثولوجيا ولاهوتيا ونفسيا كما كارل يونغ.
«لقد اقتربت اشياء عجيبة أكثر. استدعيت روحي وطلبتُ منها الغوص في الفيضانات التي كنتُ أستطيع سماع زمجرتها البعيدة. اندفعتُ إلى الظلمة كالسهم، ومن الأعماق صرخت: هل ستقبل ما أحضره؟».
أنا: «سأقبل ما تمنحينه. ليس لدي الحق بالحكم أو بالرفض».
الروح: «اسمع إذاً. يوجد درع قديم ومعدات صدئة لآبائنا هنا، وزخارف جلدية وحشية، وقصبات رماح أكلتها الديدان، ورؤوس رماح ملوية، وأسهم مكسورة، ودروع عفنة، وجماجم وعظام إنسان وجواد، ومدافع قديمة ومقاليع، ومعدات هجوم محطمة، ورؤوس رماح حجرية..».
كأن كارل يونغ هذا جمع كل كنوز الحضارات القديمة الميثولوجية: صوراً مذهلة للآلهة، ومعابد فسيحة، ولفافات البردي، وأوراق برشمان عليها أحرف لغات منسية، وكتباً مليئة بالحكمة الضائعة، وترانيم الكهــنة القدماء وأناشيدهم، وقصصاً تم تناقلها عبر العصــور لآلاف الأجيال، بحيث يحار القارئ باستيعاب ثروة معرفية بهذا الحجم.
لينا هويان الحسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد