لماذا تجسست أميركا على ماركيز؟
ربما لأن الروايات دليل ما جرى على الأرض، وشهادة على كل ما جرى في قلوب الناس، لهذا تتخطى الروائع تاريخ صدورها. ولا فرق هنا بين رائعة عظيمة قبل ألفي عام أو قبل عامين. فكل ما هو صحيح عظيم. ربما لهذا أميركا تجسست على غابريل غارسيا ماركيز.
وبرغم أن مثل هذا السؤال يفترض محاولة المحلل السياسي الإجابة عنه، إلا أنني أطرحه من باب الفضول، بعد أن نشرت «واشنطن بوست» مؤخرا وثائق تعود إلى مكتب التحقيقات الفدرالي حول نشاطات تجسسية استهدفت الكاتب الراحل غابريل غارسيا ماركيز، وأشارت الصحيفة إلى أنها حصلت على 137 صفحة، رُفعت السرية عنها، وهي جزء من ملف جُمع عن ماركيز، بينما لم تزل هنالك أوراق تُصنف «سرّي للغاية»؟!
عدَّت واشنطن ماركيز لسنوات «شخصاً مخرباً»، ورفضت منحه تأشيرة دخول إلى أراضيها، إلا أن الرئيس الاميركي بيل كلينتون رفع عنه حظر السفر، وكشف أن «مئة عام من العزلة» هي روايته المفضلة.
لا شك ان الأدباء هم الذين يتعرضون لوطأة التهم، والتساؤلات، والملاحقات، والانسان اخترع الأدب ليهرب ويواجه في الوقت نفسه، فيصير الأدب هذا الجسر المعلق فوق المسافة الفاصلة للفرد عن المجموع، والفاصلة الفرد عن نفسه. الأديب يكتب والقارئ والناقد والزمن يتلقفون ما يكتب وتُطلق الأحكام على النص، بينما السلطة تطلق الرصاص، والدين يحرّم ويجرّم.
قد يخطر للمرء أن صداقة ماركيز مع الرئيس الكوبي فيديل كاسترو كانت ضمن الأسباب التي دفعت المخابرات الاميركية لمراقبة ماركيز. أو أنه كتب دائما نصوصا تفضح ما يفعله العسكر الذين تتواطأ معهم اميركا وتبرم صفقات كارثية في الخفاء يكون ضحيتها الشعوب.
إنها الأفكار التي تنور، وتكشف، وتعرّي، وتسخر.. هي التي تخافها اميركا. ليس في مصلحتها أدباء من طراز ماركيز، الذي يكتب نصاً ينتمي إليه كلياً ولاينتمي الى اميركا.
ارنستو ساباتو قال ذات مرة: «ان لا احد ينام في العربة حين نقله من الزنزانة الى المقصلة، لكننا ننام جميعاً من الولادة حتى القبر او اننا لم نستيقظ حقاً، احدى مهام الأدب العظيم، إيقاظ الانسان السائر صوب المقصلة».
باختصار: ماركيز كتب الرواية التي تغير المؤلف والقارئ. ماركيز لم يكن من الأكثرية الذين يكتبون: «للشهرة والمال او للمتعة». إنه من القلائل الذين يحسون بتلك الحاجة المكدرة واللحوحة الى إعطاء شهادة على دراماهم وشقائهم ووحدتهم، إنهم (الشهود/ الشهداء) معذبو العصر الذين يكتبون تحدياً للذات ويسبحون ضد التيار.
لينا هويان الحسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد