«الأمية» لأغوتا كريستوف.. أحلام الأجنبية
«كلما رأيت شيئا جميلاً، تمنيت أن انقسم اثنين». مقولة كهذه تضعك أمام الحقائق الأولى، لتسأل هل مشاركة الجمال، المعرفة، المتعة والشغف ما حدا بزوربا أن يطالب المعلم، بترك مستنقع الحرب العالمية الثانية بجثثه وعبثيته، والمجيء لرؤية حجارة خضراء صغيرة!؟ هل هذا ما يجول بخاطر المترجم «مشاركة الجمال» عندما يقرر بمسؤولية، أو رومانسية ربما، نقل ما يفتنه بكتابة ما، حكاية، قصيدة، أو حتى أغنية؟ إذ لا يمكنك المرور على عمل أدبي فاتن، دون أن تتطرق لدور المترجم في تلك الفتنة، فمن الظلم الشديد أن لا تحيل بعضاً، أو كثيرا مما مررت به من متع القراءة، عند التهام كتاب رائع، إلى دور المترجم في تحقيق ذلك. وتحملّه العبء في الاتجاه الآخر، إن وقف بينك وبين نص كامل، فأعاقه بلغة دخيلة.
تلك الهواجس/ الأسئلة تمر بها وأنت تقرأ المساهمة اللافتة للمترجم محمد أيت حنا، في نقل كتاب «الأمــية» للروائية أغوتا كريستوف، فلا يهــم أن كان الكتاب ذا حجم صغير متوســط، أو عمــلاق، ما يهمك التواطؤ الأولي الذي تعقده مع المترجم، لتعي أنك مقبل معه على قراءة سلسة كالماء، لن يكسرها التخبط اللغوي بين تراجم وتفاسير متعثرة، تلك التي تذكرك بالحصى المتقلقلة في كأس حديدي.
عند قراءة الأمية، يبدو من باب السخرية، التحدث عن مآثر المترجمين، عندما ندرك أن الروائية نفسها قد عانت لغوياً، وتخبطت في مآزق تصاريف الأفعال والأزمنة، ففي احالات وجودية لمهاجرين تركوا كل شيء وراءهم وسكنوا الغربة، فإن أغوتا كريستوف سكنت حكايتها فقط، ولم تبقِ لها حتى اللغة وطناً، فالروائية التي هربت من هنغاريا بسبب بطش الستالينية، تحكي عن مستويات صقيعية للغربة، فترك البيت «الوطن» يبدو رفاهية، أمام الذي اضطرت أغوتا كريستوف لتركه وراءها، فقد تركت اللغة وحكايات الأب ورنين النغمات في أغنيات الأم، وضجيج بيت الجد، والنهارات الناعسة في فعل اللاشيء، سوى القراءة والقراءة، فاللغة للبشر، لم تكن يوماً معلومات فقط، أو تواصلا، واجراءات عيش: أكلت، نمت، سهرت.
لغة أخرى
اللغة نبض النبرة، حرارتها، ايقاع الشقاء، خزان وجدان جمعي فيه كل الحكايات. فيه التاريخ بمعناه الأعلى والأرشق، والأكثر صدقاً، الامتدادات الصوتية للسهول، والدوخة المتلاشية لرقرقة البحار، لكن عندما تُحرم من كل ما تحمله اللغة من ذاكرة، وتُلقى في ذهنية لغوية أخرى، مجبراً بفعل التهجير، على تلّبس روح أخرى، عندها تدرك معنى الأوطان المنسلخة، عندها نتذكر حكايات المهاجرين، ونعرف معنى التعاطف. ونتماهى مع الحكاية القديمة/ الحديثة التي ترمى في ذاكرتك يوما بعد يوم. تعلم ما الذي مر بأغوتا كريستوف، التي اختارت أن تغادر البطش والاضطهاد، الدوغمائية الشيوعية الستالينية، لكنها مع كل هذا لم تنجُ، هاجرت إلى بلد آخر، بجغرافيا أخرى، تعلمت الفرنسية حكياً أولا، وكتابة ثانياً وظلت غريبة، تعلمتها مع أطفالها، وفي مصنع الساعات الذي عملت به كمهاجرة أرادت إعالة نفسها وعائلتها، أمضت وقتها في صفنات لا تنتهي، والصمت يهدهدها، كأنها تقيم بين تكتكات الوقت ومواته، تعلمت أغوتا كريستوف الفرنسية حقاً، لكنها كتبت بها بطريقة تخصها وحدها، مما منح حكاياتها ورويها خصوصية مضاعفة. فترجمت أعمالها لأكثر من أربعين لغة، لكنها مع هذا ماتت بهدوء، وبصدق يشبه أعمالها الموجعة، رحلت في شقتها، التي لم تغادرها إلا لماما، لأنها أحبت أن تقرأ وتنام، وتعيش داخل النوم حياة موازية، مليئة بالأحلام . أغوتا كريستوف الوريثة الأكثر جدارة لتتبع خطى كافكا، كتبت بتلك الغرائبية واللاقصدية للكتاب العظام، صموئيل بيكت، ميلان كونديرا، جوزيف كونراد، الذين هاجروا وأقاموا في لغات أخرى مثلها.
الأمية، أسمت نفسها، عندما قررت التخلي عن الماضي، وترك الهوية هناك في البلد البعيد، البلد الذي لم يمنحها سوى الخوف، فهربت إلى الصقيع، فكتبت كي تنجو من النسيان، ومع هذا كتبت بلغة أبقتها غريبة إلى الأبد.
من الأمية نقرأ:
«في البدء لم تكن ثمة سوى لغة واحدة، الموضوعات والأشياء والأحاسيس والألوان والأحلام والرسائل والكتب والجرائد كانت هي تلك اللغة. ما كنت أستطيع تخيل وجود لغة أخرى، أو إمكان أن ينطق إنسان بكلمة لا أفهمها، كان الجميع في مطبخ أمي، وفي مدرسة أبي، وكنيسة العم غيزا، وفي الشوارع ومنازل القرية كما في منازل المدينة التي يقطنها جدي، قلت كان الجميع يتحدثون اللغة نفسها، وما كان ثمة من مجال للتفكير في لغة أخرى.»
(]) صدرت الرواية عن دار الجمل، ترجمة: محمد أيت حنا
عبير اسبر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد