الحوار وحقيقة المسيحية المشرقية
يطيب للعاملين في حقل التقارب، المخلصين منهم وادعياء الحوار ظاهرا، التنويه بالحوار المسيحي ـ الاسلامي وإظهار اهميته الراهنة ومحموله المستقبلي. ولا يغيب عنهم ان المعالجة والمحاججة لا تستويان وتتقاطعان في الشأن اللاهوتي الايماني، بل تستتقران على المنحى التوحيدي المشترك، وتتناولان، انطلاقا من منظومته القيمية، الابعاد السياسية وتداعيات التعايش المحتوم بين ابناء ديانتين سماويتين بعثت رسالتهما من مهد جغرافي مشترك، واحتضنتهما بادئا شعوب سامية بنت حضارات وأمجادا لقرون، وكانت طليعية سباقة في زمانها ولأمد طويل.
ان صوابية المسعى الحواري بغير جدال، تعزز وجوه الأزمات التي تعصف بالمنطقة وتنذر باخطار التشرذم والخصام. بيد ان بند المقاصد لم يمنع الوقوع في مغالطات، والاستدارة حول المعطيات التاريخية، بغية تذليل العقبات والخروج بتفاهمات ومسلّمات لها من اللفظية والشكلية ما يشبه الطقوسية، تطمئن ولا تشفي، تتمنى دون القبض على المسألة او تبيان المقدمات. من هذا الباب المشرع، تسلل اكثر من مراوغ، وصدح غير منافق بمزايا اللقاء والتعايش الكاذبين.
ينهض الحوار بين طرفين على قاعدة المعرفة المتبادلة، وإلا تاه البحث لعيب في التوصيف وجهل بالمضمون. وحيث عم الاسلام المنطقة العربية، اضحت المسيحية شقيقا كتابيا اصغر، ينبغي الالتفات الى شخصيته التاريخية والحالية بتجرد وشفافية وصدق اقرار بضمور حجمه وصفوفه. يقودنا هذا السياق الى تسجيل الملاحظات الآتية، عساها تفلح في انجاب المزيد من الايضاح، وتسهم في تصويب جملة اخطاء شائعة.
اولا: خلافا للمتداول من تصنيف بين شرق وغرب وكثلكة وارثوذكسية، تبعا لثنائية بالخطوط العريضة، ثمة فارق اساسي ضمن المجموعة الشرقية ذات الغالبية الارثوذكسية الساحقة. فتحت العنوان الموضعي الواحد، اي العائلة الشرقية بعامة، خط التاريخ فاصلا منذ الفتح الاسلامي على خلفية اقدمية الكنائس ونشوئها، حاصلة ـ خاصة بعد تنصر الشعوب السلافية ـ مسيحية شرقية تمتد من اليونان الى روسيا، ومسيحية مشرقية من انطاكيا الى وادي النيل، هي الاقدم بناء واصالة، والاضعف كيانا وموارد، اضافة الى استمرارها شاهدا حيا في كنف الدولة الاسلامية الراعية. لذا حافظت المشرقية على خصائص، ونعمت بالعهد المقطوع والتدبير الذاتي، لكنها ايقنت ضرورة التخلي عن رسالة التبشير، وارتضت بمساحة الحرية المتوفرة، منكفئة دون انطواء، ومتصالحة مع محيطها بغير عداء، حدودها سماحة الاسلام كقاعدة (مقارنة بظلامية المؤسسة الكنسية وقيودها في الغرب لغاية عصر التنوير وتجذر النهضة) وفورات التعصب المتقطعة في فترات الردة والاضطهاد.
ثانيا: تصادمت مصالح الامبراطورية الاسلامية مباشرة مع جاراتها الشرقية القريبة، بيزنطية اولا، وروسيا القيصرية لاحقا، مرورا بالممالك والامارات السلافية. بهذا المعنى، تندرج الحملات الصليبية التي قادتها ونظمتها الكثلكة الغربية ضمن معطى الطارئ الموقت، وما تعظيم وزنها العسكري وهول تمددها الا نتيجة لطابعها ونزوعها الى منازلة المسلمين في عقر اراضيهم واقتطاعها امارات زرعت في دار السلم، فضلا عن ايذانها بيقظة اوروبا من سبات القرون الوسطى، ودخولها معترك الصراع على المتوسط تمهيدا لاستعادة الاندلس. ويلاحظ ان المبادلات عبر البحر المتوسط لم تتوقف يوما بعد اندثار وسقوط مواقع الصليبيين في الشرق، رغم اعمال القرصنة المتبادلة والفتوحات العثمانية في البلقان، بعامل المصالح والتنافس الاوروبي والنزاعات بين النبلاء والجمهوريات المدينية من جهة والبابوية وحلفائها من جهة اخرى. كما جرى تباعا تبادل السفارات وتوقيع معاهدات تجارية عدة.
تأرجحت العلاقات مع اوروبا الغربية بين مد وجزر: مواجهات بحرية وعسكرية تلتها فترات هدنة موقعة بشروط او تفاهمات بواقع الأمر. لكن الخلاف مع روسيا استعر مع مضي السنوات، وأسفر عن صراع مرير هدد وجود السلطنة العثمانية ودفعها لطلب العون والضمان من القوى الاوروبية العظمى. هكذا انصب العداء للجار الروسي الزاحف نحو البحر الاسود والجنوب، ووجد العثمانيون ان موسكو تعمل لوراثة الامبراطورية البيزنطية البائدة واعادة نفوذ الروم الى سابق عهدهم، اي ان الخطر الاساسي تمثل في طموحات روسيا واطماعها في الأرض ومشروعها الامبراطوري الواسع.
ثالثا: يتعامل دعاة الحوار في الطرف الاسلامي مع الغرب باعتباره مجموعة من الدول على غرار مفهوم الدول الاسلامية. الحال ان الدولة الدينية زالت عمليا من الوجود في المقلب الغربي، ولا ينفي هذا التعريف استمرار مواطنيها في فضاء ثقافي مستمد من معتقدهم التاريخي وذي سمات حضارية قدمت من قيم المسيحية المطعمة بالهلينية. ويذهب بعض الحواريين الى الخلط بين العلمانية (وضعف ممارسة الشعائر الدينية) والتخلي عن القيم السامية، لنزع الصفة الاخلاقية عن المذهب المدني والاستنتاج ان الغرب مادي بامتياز، فاقد لاعتبارات الفرد والجماعة. وعليه، تلتقي المقاربتان على الريبة والحذر من السياسات الغربية (او بالاحرى تلك العائدة لكتلة عريضة من المجتمعات ذات الاصول المسيحية في الشرق والغرب على السواء). وتعمل على تنزيه المسيحيين المشارقة من مآربها، وفصلهم عن مؤثرات التواصل معها. ولئن كان هذا التقدير صحيحا من زاوية المواطنة والانتماء التاريخي/ الجغرافي، فانه يعجز عن الاحاطة بالجامع المسكوني والرابط المعنوي المتعلق بالنموذج الاجتماعي والتواصل الفكري والمنظومة القيمية المرجعية وتحرر غالب المسيحيين من الفكر الغيبي وسلطة الكنيسة واعتمادهم فصل الدين عن الدولة.
رابعا: قلما نجد مجموعة مسيحية، على اختلاف المذاهب، بلا امتداد مهجري في العالمين الانكلو ـ ساكسوني واللاتيني، وكلاهما يقع ضمن الخانة الغربية. ولقد ادى الاغتراب الى تمتين أواصر عاطفية وصلات ثقافية ولغوية، وفوائد مصلحية بمثابة شبكة اعانة وامان. بديهي ان يكون هذا البعد حاضرا في وجدان الجماعة، يستفزه الطرق العشوائي على الدول الحاضنة للجاليات، والمطالبة بقطع العلاقات معها، وطلب الموت لها بالجملة، والابتهاج بمصائبها وأذيتها. ولا يجدي في هذا المجال الاجتهاد والتذرع بالخصومة السياسية لنقل الصراع الى المستوى الاخلاقي والانساني، وسلخ مطلق ايجابية عن مجتمعات، حققت اختراقات عظيمة في ميادين العلوم، واقرت قولا وعملا بالحقوق الاساسية للفرد، واعطت فرص العيش للنازحين عن اوطان ضاقت فيها سبل الحياة الكريمة، وهي اليوم قاطرة الاقتصاد العالمي ومصدر ارفع تقنياته ومبتكراته.
خامسا: خلّف التوسع الاستعماري ندوبا مؤلمة في العالم الاسلامي، وما زالت ذاكرة الاخضاع القسري ساكنة في الوجدان بعد زوال السيطرة المباشرة. تعاملت حركة التحرر الوطني معه بنمط صراعي ثوري قوامه الانعتاق من الالحاق السياسي والاقتصادي دونما شحنات عنصرية الا في ما ندر عطفا على حاجة المظلوم ومشروعية كفاحه وتوسله العنف لكسر الاداة الاستعمارية ودحر ماكينتها. غير ان اضمحلال حركة التحرر استولد صحوة دينية فرّطت بالشعارات السابقة، ونقلت الصراع الى الحقل الوجودي الحضاري المشبع بجرعات التزمت والعصبوية العنصرية. ولقد مكنها الجرح النازف في فلسطين وصلافة الاحتلال الاسرائيلي من التموضع والكسب الجماهيري في زمن المرئي والمسموع، بحيث انساقت طبيعيا الى التعويل على العنف وتسجيل النقاط في مرمى التحالف الغربي المتعاطف والمؤيد لوجود الكيان الصهيوني ـ الامر القائم منذ عقود وليس بالمستجد ـ غير آبهة بضبابية (وكارثية) معظم افعالها، وادخالها النزاع في نفق المجهول.
تفيد لوحة الاشتباكات راهنا الى ربط نزاع متواصل بين الحركات الجهادية والمكون الشرقي من الاسرة المسيحية الكونية. فباستثناء المعطى العراقي الناشئ حديثا، حيث يتداخل الاحتلال العسكري الاميركي مع المجاميع العراقية المتصارعة على كعكة السلطة والحصص المحفوظة، ويحتمل زواله في المدى المنظور، تستوطن بؤر المواجهة البلقان والقفقاز والقرن الافريقي، وهي جميعها مناطق تماس تلقي بظلالها على ماهية الحوار الاسلامي/ المسيحي، وتدخل في طياته وثناياه ما يتناساه المحاورون غالبا من شــائك شــرقي صــرف، اقــرب ما يكون نسبـا وقرابة روحية مع المسيحيــة المشرقــية. فمــن السهــل القفـز فوق الجغرافيا بحسابات المنطق الشكلي، وتحميل مسؤولية الخصام للثــنائي البروتستانتي/ الكاثوليكي البعيد (القليل الحضــور بشــريا في الدائرة العربية)، وبالتالي اعتبار المسيحية المشرقية كائنا فريدا من طينة عجائبية لا يلوثها «الانحلال الاخلاقي»، ولا تصيبها نزعة العداء، السائر او المكبوت، المتأجج صراع حضارات بهمّة المسيحيين الجدد المتصهينين بحسب الوصف الدارج، واعوانهم من ورثة القياصرة الحاقدين على شعوب القفقاز منذ ايام التتار وخاناتهم.
فلا عجب ان يترافق هذا العزل الانيس ذو المفاعيل الوردية في رحاب الحوار، مع حشر المسيحية المشرقية ضمن وقف الحضارة العربية/ الاسلامية المتألقة يوما، وبتر اوصالها الثقافية ومرجعيتها التاريخية، واسكانها في مدار يفصلها عما ينتاب سائر اقرانها من هواجس وتساؤلات وحساسيات. ولأن كنائس المشرق قد آثرت الرسالة والشهادة (من شاهد) على مساكنة السلطة او تشكيل درع لها، ورفعت التسامح والتواضع عنوانا لوجودها وبقائها، فهي الاقرب الى بناء الحوار وتفعيله وتجسيد حقيقة واقعية، شريطة عدم اغفال ما أحاط ويحيط بها، او انزالها مقام الند الغيور على مصائر المسيحية جمعاء، القادر على ارساء علاقات اخوة مستدامة بين اهل الكتاب والمسلمين.
سادسا: ينسب اهل الحوار الى المسيحية المشرقية رضاء بحالها حاضرا وعلى مر القرون السابقة. ومن النافل ان هذه الصورة البهية، تجافي الحقيقة التاريخية بشقيها المتلازمين، عنيت تآكل جسدها واستنزاف طاقاتها وعديدها نتيجة موجبات الهجرة الكثيفة بدءا من أواسط القرن التاسع عشر. واذا ما اعتمدنا الوثائق الصريحة، يتبين ان اعداد المسيحيين في تناقص مخيف، ولا سيما في الهلال الخصيب ووادي النيل، بعد ان اضحوا اثرا بعد عين في المنطقة الممتدة من مضائق الدردنيل الى انطاكيا جنوبا. وثمة ارقام مذهلة تتعلق بضمور الحضور المسيحي، كما مطلقا ونسبة مئوية الى تعداد السكان العام، ويشمل ذلك الاقباط في مصر، والكلدو ـ اشوريين في العراق، والسريان عامة، ومسيحيي لبنان بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، القديمة العهد والحديثة كالأرمن، واخوانهم في الاراضي المقدسة حيث النزف الهائل المؤدي الى ما يشبه الانقراض. وللدلالة، يكفي التمعن بمصير المقدسيين منهم (اضافة لبيت لحم وقرى محيطها)، وقد انخفض الرقم من سبعين الفا عام 48 (راجع ادوار سعيد) الى 27 الفا عام ,67 وهو الآن بحدود آلاف سبعة مسجلين ومجرد آلاف ثلاثة مقيمين. نسوق هذه المعطيات كونها تعبر عن ترد حقيقي في الميزان الديموغرافي وتنبئ بمزيد من الاضمحلال، بينما تستمر الدعوة الحوارية والمعالجة على مسكنات، وتعزو الأمر الى مؤامرات وهمية واسباب واهية (لماذا لا تصيب عدوى المغادرة المواطنين كافة وبالنسب ذاتها؟) وتتجاهل المسببات الناتجة عن الشعور بالضيق والخيبة وانهيال فتاوى الفرقة ودعوات التعصب الشديد والتزمت الاجتماعي، عدا الطعن الدائم من اصحاب الغلو بصحة ولاء الاقليات لأوطانها وتطلعها «المريب» الى الغرب ورعايته ومشاريعه.
سابعا وأخيرا: يتقاطــع الحوار الاسلامي/ المسيحي مع التباينات والارهاصات التي تجتاح الفضاء الاسلامي بموازاة صعود المذهبية والدوافع المرجعية المختلفة بين اهل السنة واتباع اهل البيت. ولا ينجو ابناء الجناحين من اصطفافات ونوازع جلها خرج من رحم الاسلام المعاصر، بصيغ اصوليــة وسلــفية وجــهادية مختلطة في جانــب، والتزام بولاية الفقيه او تمسك بمرجعيات التقليد على الضـفة الاخرى. الحال ضياع في تعريف المشاركين وغير المشاركين، واخفاق واقعي من حيث تقيد سائر المكونــات بروحية الحوار وغاياته، لا بل قعودها في خيارات وسلوكيات مغايرة تلحق ابلغ الاذى بالتسامح والالفة المنشــودة، وتــؤول الى افــراغ مواطــن كاملـة من الشريك المسيـحي بعامل الخوف وفرض نموذج عيش واجتــماع ومنظومة حقوق تبعد عمليا الآخر على اســاس اختـلاف الدين او المذهب، وتطيح بفكرة المواطنة ومفهومها من الاساس.
هكذا تتعدد اسباب حالة مَرَضية نتاجها التشرذم والانغلاق، وتوقــظ مخاوف الاقليات بشكل غير مسبوق، فيما تستحضر سلبيات الماضي السحيق لتطفو على سطح النسيج الاجتماعي وتمزق الروابط التي راكمها تاريخ التعايش الطويل، المشــوب بذكــريات حمالة اوجه وحبلــى بالالتبــاسات. المستخلص ان جملة الايضاحات الآنفة من صــلب المــقدمات التي لا بد من لحظهــا وتسجيلها توطئة لحوار عميق يقبض على مكامن الداء قبل فوات الأوان، ويستأخر قدر المســتطاع حمــل المـتاع الى الغربة من طرف الاقليات المسيحية، بانتظار تحولات ديموقراطية ومسير نحو الحداثة بات العالم العربي بأشد الحاجة اليها رأفة بذاته وحفاظا على معالم حضارته. ودون ذلك ما لا يشتهيه مخلص، اي استفــاقة متأخـرة على رحيل زرافات وقوافــل انــاس واقـتلاع جذورهم من ارض عزيزة ضمــت في ترابها رفات اجيال واجداد، وعمدت بعرق شقـائهم وكدهم. الفظاعة ان هؤلاء المقتلعــين هم من قدامى القوم ان لم يكونوا اقدمهم.
نسيم ضاهر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد