بلجيكا: دعوى قضائية تهدد التبادل التجاري مع المستوطنات
يقف المواطن البلجيكي رمضان أبو جزر هذه الأيام في المحكمة ليقاضي دولته، بعدما اتهمها بالمسؤولية عن السماح بالتبادل التجاري مع المستوطنات الإسرائيلية، وهو أمر غير شرعي بحسب قوانين بلاده.
ومن المتوقع أن يصدر الحكم الشهر المقبل، على الرغم من أن الدعوى مرفوعة منذ العام 2013، ولكن أبو جزر وجد أن القضاء هو أقصر الطرق للوصول إلى العدالة في قضية معاقبة الاستطيان، فالسياسة برأيه أطول الطرق وأكثرها تعرجاً وانعطافاً، وفوق ذلك فإن الوصول عبرها غير مضمون في النهاية.
تصلح هذه القضية لمعاينة الموقف الأوروبي من قضية الاستيطان الاسرائيلي على الأراضي المحتلة في العام 1967، فكل الوثائق الأوروبية تعتبره غير شرعي، لكن القضية كانت تثار عبر كثير من الكلام من دون أيه أفعال تذكر. هذا ما أكدته أيضاً الرسالة التي بعثها وزراء خارجية 16 دولة أوروبية لخارجية «الاتحاد الأوروبي»، يطلبون إصدار إطار تنفيذي حول كيفية تطبيق تشريعات أوروبية موجودة مسبقاً، تحظر التجارة مع المستوطنات وكل نشاط اقتصادي يفيدها. القانون موجود، لكن السياسة لم تعنَ بتطبيقه.
المواطن رمضان أبو جزر الفلسطيني الأصل، هو رئيس جمعية «البيت الفلطسيني في بلجيكا»، يؤكد أنه قرر اللجوء إلى القضاء بعدما رأى أن حملات المقاطعة، على مدى 15 عاما، لم تحرز نتائج مرضية.
وانطلق أبو جزر من مبدأ أن القوانين واضحة في هذه المسألة، فلماذا لا يتم اللجوء إلى المحاكم لإصدار قرارات ملزمة؟ وهو يعتبر أن المحاكم، في ظل «استقلال القضاء الأوروبي»، هي الأداة الوحيدة القادرة على إبطال هذه الأداة الاسرائيلية الفعالة، ويقول: «نريد حكماً قضائياً لأنه لا يمكن للديبلوماسية الاسرائيلية تغييره عبر الضغوط السياسية».
قبول المحكمة الفرنكفونية في بروكسل هذه القضية لم يكن بالأمر اليسير، وجلسة الاستماع الأولى جرت قبل أيام. هناك تواجه محامو القضية مع محامين يمثلون المدعى عليهم: وزراة المالية، وزارة الاقتصاد، رئيس مصلحة الجمارك. هذه الجهات متهمة بحسب الدعوى بـ «المسؤولية المباشرة عن إدخال المواد المنتجة، جزئياً أو كلياً، في المستوطنات غير الشرعية إلى الأسواق البلجيكية».
وحاولت وزراة المالية، عبر محاميها، إبطال القضية باعتبارها مسيَّسة، لكن القاضية رفضت الحجة معتبرة أن هناك أساساً قانونياً صلباً للمضي بالمحاكمة، حيث استند محامو الادِّعاء إلى نصوص قانونية مختلفة، فهناك «اتفاقية لاهاي» التي تعود للعام 1907، وتجرم النشاط الاقتصادي على الأراضي المحتلة إلا إذا كان لمصلحة السكان الأصليين، كما أن قوانين بلجيكية صدرت للتخلص من الإرث الاستعماري للدولة في أفريقيا، تجرّم بدورها استغلال الأراضي المحتلة.
وبالرغم من كل ذلك، تشكل هذه القضية سابقة قانونية. كان بين الحضور في المحكمة عدة رجال أعمال اسرائيليين، وشركاؤهم البلجيكيون، وكل هؤلاء لهم مصالح كبيرة تهددها القضية، فوفق جردة أصحاب الدعوى، يبلغ إجمالي حجم تجارة المستوطنات مع الأوروبيين 3.7 مليارات يورو، منها مليار يورو من تجارة الفاكهة والخضار.
ويقول الادِّعاء إنه برغم التحايل والتزوير الممكن لتمرير بضائع المستوطنات، يبقى هناك 1700 منتج معروف من المستوطنات أو تدخل فيه مواد آتية منها، وبعض المنتجات في هذه القائمة تتبرع غرفة التجارة الاسرائيلية، بعرضها على سبيل الترويج، كما أن هناك منتجات من المعروف حصرية وجودها في المستوطنات، مثل مواد التجميل من البحر الميت ومواد طبية وتمور.
كسب هذه القضية سيعطي مفتاحاً لأصحابها للذهاب أبعد، فهكذا سيمكن الانطلاق برأيهم لرفع قضايا تعويضات للفلسطينيين عن سنوات من استغلال أراضيهم بطريقة غير شرعية، وهذه التعويضات يمكنها أن تصل إلى مبالغ ضخمة، مع الأخذ بالاعتبار أن النشاط الاقتصادي غير الشرعي ممتد منذ العام 1967.
والقضية محرجة بالنسبة لبلجيكا بشكل خاص، إذ أن نسبة كبيرة من بضائع المستوطنات الإسرائيلية تصل عبر ميناء أنتويرب، وهو ثالث أكبر ميناء تجاري في أوروبا. جميع هذه المنتجات تستفيد من سوق أوروبية مشتركة هائلة، مع حوالي 500 مليون مستهلك، كما أنها تستفيد من الامتيازات التفضيلية التي تقدمها اتفاقية الشراكة بين حكومة الاحتلال الاسرائيلي و»الاتحاد الأوروبي».
صحيح أن الأوروبيين يعتبرون المستوطنات غير شرعية، وتهدد بإنهاء حل الدولتين، لكنهم لم يتحركوا جدياً ضدها. الدول الوحيدة التي اتخذت خطوة «الحد الأدنى» هي بريطانيا والدنمارك وبلجيكا، ولكن تحركها جاء عبر «توصية» غير ملزمة، تقترح على التجار والموزعين توضيح منشأ بضائع المستوطنات كي لا يتم «تضليل» المستهلكين.
ويقول نص التوصية، التي نشرتها الحكومة البلجيكية، كما لو أنها تعتذر إنها «ليست تعليمات إلزامية، وليست قانوناً جديداً... إنها لا تشكل بأي طريقة نداءً لمقاطعة استيراد منتجات من المستوطنات الاسرائيلية في المناطق المحتلة».
وفي هذا السياق، يبدو أن جوهر رسالة الـ 16 وزيراً هو الضغط على بنيامين نتنياهو، وليس تطبيق التشريعات الأوروبية المجمدة منذ عقود. الآن يخشى الأوروبيون أن اليمين الاسرائيلي سيميت حل الدولتين، ما يعني إفلاس الجعبة الدولية التي لا تملك أي بديل آخر.
مع ذلك، يشير ديبلوماسيون أوروبيون إلى أهمية تحرك «الرسالة»، ويقول ديبلوماسي من دولة شاركت في صياغتها: «نحن لسنا مع فكرة أنه يعود لكل دولة تطبيق التشريعات الأوروبية حول المستوطنات»، ويضيف: «إذا عملنا لوحدنا فهذا غير كاف وغير ممكن، لأن لدينا سوقاً مشتركة (يمكن للمستوطنات الاستفادة منها والتسلل عبرها) كما أن تقرير السياسة التجارية الأوروبية مسؤولية بروكسل وليس من اختصاص الدول الأوروبية منفردة».
ستعمل التوجيهات الجديدة، في حال صدرت، كإطار تنفيذي للتشريعات الموجودة مسبقاً. العمل التقني لإصدارها تم تجميده سابقاً، ومصادر «الاتحاد الأوروبي» تقول إنه لا يمكن الآن إعطاء أفق زمني للانتهاء منه.
ليس واضحاً ما إذا كانت القضية ستصل لختامها، أم أنها ستخضع مجدداً لمزاج السياسة. حتى الآن هناك تشريعات أوروبية عامة، تتحدث بالمجمل عن حظر التجارة مع المستوطنات غير الشرعية، لكنها لا تتحدث بالتحديد عن المستوطنات الاسرائيلية، ما يعني هذا أن صدور التوجيهات سيشكل سابقة.
وفي السياق ذاته، يقول ديبلوماسي أوروبي آخر إن «هناك منتجات ربما يمكنها الدخول مع تمييزها، بعضها لا يمكنها الدخول، ولهذا فالتوجيهات ضروية». يلفت إلى فعالية عملية التمييز أو التصنيف، لمنشأ المنتج، في حال طبّق هذا الأمر، موضحاً أنه «تم تطوير التشريعات الأوروبية المتعلقة بموضوع التصنيف، لدرجة يمكن معها أن تحدد من أي مزرعة أتت التفاحة».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد