ألبرتو مانغويل . . عندما يجر الكذبُ الكذبَ
أراد ألبرتو مانغويل أن يعطي لأليخاندرو بيفيلاكا سيرة ذاتية جديدة مبنية من عناصر مستلة من ذكريات أعيد تكوينها بمساعدة الكلمات، ذكريات كل من تحدثوا معه أو عرفوه ذات يوم. مهمة شاقة تجميع سيرة لبيفيلاكا. فحياة بيفيلاكا لم تكن سوى مخطوطة حياة. لم تكن سوى مجموعة من الأجزاء، ومن الفتات، ومن المشاهد غير المكتملة. فأي جزء منها يشكل بداية طيبة من أجل رواية عميقة وطموحة.
هذا ما حاول فعله جادا ألبرتو مانغويل الكاتب الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية الذي سبق أن ألف ثلاثة كتب عن القراءة والمكتبة والكتاب، وهنا في هذه الرواية المترجمة حديثاً «كل البشر كاذبون» (ترجمة منذر عياشي وصادرة عن دار طوى)، يحاول مانغويل أن يتقصى الحقيقة في قلب عالم مليء بالأكاذيب. حيث للوشاية وظيفتها البيروقراطية. ففي أعلى السلم، يوجد غير المعروفين، اولئك الذين يأخذون القرارات الأولى والأخيرة، أولئك الذين ليس لهم حياة خاصة، فنانو الوظيفة العامة، يسميهم مانغويل: «أسياد التاريخ»، ثم يأتي بعد ذلك الوسطاء، اولئك الذين ينقلون الأوامر، والذين يمتلكون هيئة هامة، واسماً وحرساً. وأما من في الأدنى فأولئك الذين ينفذون، أولئك الذين ينظفون، أولئك الذين يطلقون الرصاص. وأخيرا يوجد التابعون، الذين يصيخون السمع ويفتحون العيون، ويسجلون الملاحظات، والتجسس وإفشاء الأسرار، لهذا انتهت حياة الكاتب بيفيلاكا الذي كان أحياناً يمشي في التظاهرات، وهو ممدد فوق الرصيف، مرضوض الجمجمة، سائل الدم، كما لو أنه يهرب من هذا الجسد الساكن، وكما لو أنه يرفض أن يكون على علاقة بهذه الجريمة الشنيعة، وبهذه النهاية البالغة الظلم. هنا في هذه الرواية تبزغ أزمة الإنسان بوصفه شخصاً، عندما بقدراته الخاصة يمكنه أن يتحمل الحدود المفروضة عليه إما بقبولها أو رفضها أو تجاوزها، الأمر الذي يؤسس علاقة تفاعل بين الذوات، ويصبح حضور «الآخرون» أساسياً في وجوده، وهؤلاء «الغير» سيشكلون حكاية حياته مثلما يريدون هم وليس طبقاً لأية حقيقة.
تحدث هذا الكتاب عن الكذب، والحدود الفاصلة بين الصدق والكذب، والكذب الصامت والكذب الشبيه بالحق، والكذب العملي، وصور الكذب، والنفاق والملق، وشهادة الزور.
ثيمة الرواية تحيلنا إلى تساؤل أساسي: هل الشخص كبعد من أبعاد الوضع البشري جوهر ثابت أم ذات متغيرة؟ هل يمكن تصور الأنا بدون الغير؟ الانسان محكوم بروابط وعلاقات مع الغير. هنا، ومن خلال بيفيلاكا نجد أنفسنا أمام مفهوم الشخص، حيث الكثير من الإشكالات، ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟ ما هو أساس الهوية؟ هل لها أساس بيولوجي؟ أخلاقي؟ اجتماعي؟ لهذا تظل شخصية الكاتب القتيل بيفيلاكا تتراوح بين فرضية وأخرى، وذلك تبعاً لموافقة صورتها مع ثوابت وأحكام مسبقة معينة.
الصحافي تيراديلوس يصر على تقصي أسرارحياة بيفيلاكا حتى النهاية برغم أن هنالك من نصحه أن يكتب أخباراً علمية، أفضل من أن يضيع وقته في اعتبارات سديمية وفي ذكريات معتمة تتعلق بكاتب ثوري وجد مضرجاً بدمه وقال الجميع إنه: انتحر.
تيراديلوس بحسه الصحافي عندما يبني قصصاً ويعيد ربط خيوط غير مرئية، ليعيد تشكيل حياة هذا الأليخاندرو بيفيلاكا، حيث جذبته السمة الريبية لهذه الشخصية، فتهيأ لكتابة سيرة ذاتية لكائن متباين، فيذهب صوب حكايته مع الفتاة مرييتا التي تسببت بموته المزيف. تجذبه السيرة الذاتية لطيف مجهول بحيث يصف تيراديلوس كتابه بـ «الكتاب الشبح»، فالصحافي الصادق يعلم أنه لا يستطيع أن يروي الحقيقة كاملة: كل ما يستطيع أن يرويه في الأغلب هو مظهر للحقيقة.
أخيراً بسبب النسخ المختلفة لحياة بيفيلاكا التي جمعها تيراديلوس يعترف أنه لا يمتلك ذكاءً كافياً ليشير إلى النسخة الاصلية لسيرة حياته. فقد حاول عبثاً أن ينظم الشهادات، حاول أن يشذبها ولكن، كان يوجد دائماً شهادة لا تنسجم مع الشهادات الأخرى.
يقول تيراديلوس: (ليست هي المرة الأولى التي أفشل فيها في تحقيق من هذا النوع. وفي مثل هذه الحالات، فإن على الصحافي الذي يحترم نفسه أن يعرف كيف ينقض وعده بكرامة: إن اللوحة الوفية لأليخاندرو بيفيلاكا تنتظر أياديَ أكثر مهارة من يدي.)
رواية تحمل تساؤلات ذكية «فلسفية» حول مفهوم «الحقيقة» فكيف نمسك بالحقيقة بينما كل كذبة تمحي ما قبلها على أنها حقيقة ؟!
لينا هويان الحسن
السفير
إضافة تعليق جديد