نوام تشومسكي: لا ربيع إلا... طبقيّاً

18-06-2014

نوام تشومسكي: لا ربيع إلا... طبقيّاً

ليس ثمة مهرب من تشومسكي. لا يمكنك الانتهاء من قراءة كتاب جديد له من دون أن تكون دوّنت ملاحظاتك، الداعمة أو الانتقادية. في جعبة قارئ تشومسكي أمران مهمان: ورقة لتسجيل الملاحظات، ودهشة لنشاط هذا الرجل الذي لا يتعب. بدأ نوام تشومسكي (1928) النصف الثاني من عقده التاسع من دون أن يحس هو، أو متابعوه، أو حتى منتقدوه، بوطأة الزمن. نسف الزمن وإعادة خلق زمن جديد، هما الفكرتان الجوهريّتان في كتابه «احتلّوا: تأمّلات في الحرب الطبقية والتمرد والتضامن» (2012) الذي صدرت نسخته العربيّة أخيراً عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» (ترجمة أنطوان باسيل).نوام تشومسكي

تنطلق رسالة الكتيب (الأول ضمن سلسلة لكتّاب عدة عن حركة «احتلّوا وول ستريت») من محاور عدة لتلتقي ضمن العنوان الفرعي، ثم تفترق لتلتقي عند نقطة البداية، مع العنوان الرئيسي. يبدأ الإهداء بـ«الأبطال» الثمانين للحركة الذين اعتُقلوا في 2 أيلول (سبتمبر) 2011، وينتهي بتمرّد الأزهار التي تتضاعف يومياً وصولاً إلى لحظة الإثمار/ الثورة. سيُدرك القارئ العربي لهذا الكتاب بأنّ حركة «احتلّوا» لا تختلف كثيراً (رغم عدم تطابقها كذلك) عن الانتفاضات العربية. الحرب الطبقيّة، والتمرد، والتضامن هي عناصر كانت موجودة بالضرورة، بصرف النظر عن نسبتها المختلفة، في كلّ انتفاضة وتمرّد منذ الأزمة المالية عام 2008. وليست مصادفة أن نجد أنّ تفجّر هذه الأزمة المالية تزامناً مع اندلاع الحركات الاحتجاجية، ومع إعادة قراءة الرجل الذي كاد يصبح منسيّاً في «زمن الرأسماليّة»، أي كارل ماركس. كانت الأعوام الستة الأخيرة مناسبة لإحياء ذكرى ماركس في كتب مهمة (لم يُترجم أيّ منها إلى العربيّة)، لسلافوي جيجك وتيري إيغلتون وفريدريك جيمسون وديفيد هارفي وألان باديو وإريك هوبزباوم وغيرهم.

يبدو هوارد زن العرّاب الخفي
للحركة التي أعادت روح «الثورة اليومية» إلى شوارع أميركا

في هذا الكتاب، نجد ذكرى رائد آخر للتمرد، هو هوارد زن (1922 ــ 2010). يبدو الرجل كأنّه العرّاب الخفي لحركة «احتلّوا، التي أعادت روح «الثورة اليومية» إلى شوارع أميركا. زمن الستينيّات يعود مجدداً. الضحية ليست مختلفة بقدر كبير عن ضحية اليوم، فالقاتل والجلاد هو ذاته. ثمة فوارق بلا شك لم يركّز فيها تشومسكي في كتابه، لكنّه مضى ليؤكّد المعادلة ذاتها، لكن بمقارنة أكثر وضوحاً مع «الكساد الاقتصاديّ العظيم» في عشرينيّات القرن العشرين. يؤكّد أنّ «شعور العجز واليأس» هو الجديد في روح الشعب الذي أدمن حلم «السعي إلى السعادة». وهذا الأمر الجديد هو السبب الأساسي للتمرد ولهذه الحركة التي بدأت باحتلال الميادين ومضت بثقة لاحتلال أكثر أهميّة، هو احتلال العناوين والسرديّات واللغة، الذي سيشكّل، بحسب محرر الكتاب غريغ روجييرو، «انتصاراً بالضرورة في تحويل أيّ شيء آخر».
مع ذلك، فإنّ روح اليأس ليست جديدة، كما يؤكد تشومسكي. هذا الكابوس المالي كان متوقعاً منذ أيام الاقتصاديّين الكلاسيكيين. هذا التفاوت الاجتماعي بين الـ 99% المسحوقين والنخبة المالية التي لا تصل نسبتها إلى 1% رغم تحكّمها بكل مفاصل الاقتصاد (يتحكّم بدوره بمفاصل السياسة والعسكرة والتشريعات)، بات أمراً ملحوظاً بشدة وفق آخر الاستطلاعات التي تشير إلى نسبة هائلة (66%) ممّن يعتقدون بوجود نزاعات «شديدة» أو «شديدة جداً» بين الأغنياء والفقراء. الزمن اختلف منذ الستينيات إلى اليوم، فالتظاهرات التي كانت تُفَض بالقوة في بوسطن الليبراليّة، على أيدي الطلاب أنفسهم، أيام حرب فيتنام، أصبحت خبراً شبه يوميّ في معظم المناطق الأميركية. لم يعد الحديث عن التفاوت والصراع الطبقي أمراً غريباً أو تهمة في البلد الذي كان كارثياً منذ عقود، فالضحايا أنهوا سباتهم، وانتفضوا.
ينتقل تشومسكي إلى مقارنة مهمة بين الحركة والانتفاضتين المصرية والتونسية. يؤكّد أنّ الحركات العمالية هي ما تفتقر إليه الحركة، بينما كانت في شمال أفريقيا في قلب الانتفاضات. هناك ترابط وثيق بين الانتفاضات والنضالات العمالية. لذا لا بد من تطوّر الحركة إلى النضال اليومي في الشوارع والمعامل وبين الناس. ليس للنخبة المثقفة دور سوى النصيحة. أما باقي العمل، فهو واقع على كاهل المناضلين في الشارع. هذا ما يراه تشومسكي الذي يحرص في الكتاب على نفي أيّ شخصنة للحركة، وعلى مواجهة أي محاولة لاختزالها، ولو كان التوصيف هو «الفوضويّة»، وهي العقيدة الأقرب إلى تشومسكي الذي يبدو ضمنياً متفقاً من حيث المبدأ على أن «احتلّوا» أقرب إلى «الفوضويّة»، وإن كان حذراً ودقيقاً في توضيح أنّ «الفوضويّة» ليست جامدة، بل تتسع لتعريفات كثيرة. المهم ألا تخضع الحركة للشخصنة أو للزعامة، حتى زعامة المناضلين. وتبدو ذكرى هوارد زن هنا شديدة الحضور. تشومسكي يخطب في المنتفضين في محاضرة لذكرى زن، وهذه الروح النضالية هي روح زن، وهذه الجموع هي التي كان زن يؤكّد دوماً أنّها المحرك الفعلي للتاريخ، وهي من ستعيد كتابته.
ليست المقارنة بين «احتلوا» وانتفاضتي تونس ومصر الأمر الوحيد الذي يمكن للقارئ العربي استخلاصه من الكتاب. ثمة خيوط خفية أخرى لجدالات نظرية لا تقل أهميّة، لعلها أكثر أهميّة في السياق العربي، لا سيما ما يختص بقضية الاصطلاحات. ما الاختلافات بين «الثورة» و«الانتفاضة» و«التمرّد»؟ أليست «الهبّة» هي الاصطلاح الأقرب إلى ما يحدث عربياً؟ وما دور المثقفين في هذه «الهبّات»؟ الأسئلة ستبقى معلّقة في انتظار الإطار النظري الذي سيكون دعامةً لفكر جديد في زمن جديد.

يزن الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...