علاء الأسواني: دفاعاً عن «المتربصين الحاقدين»
كنت أعمل طبيباً مقيماً في كلية طب الأسنان في جامعة القاهرة حيث كنت مسؤولا عن عيادة خلع الأسنان. قاعة فسيحة فيها عشرات كراسي الأسنان يتردد عليها المرضى الفقراء يومياً، فيشترون تذكرة بخمسة قروش، ويجلسون على الكراسي ليقوم طلاب السنة الرابعة بخلع ضروسهم. ذات صباح لاحظت حالة صراخ غير عادية بين المرضى أثناء خلع ضروسهم، فساورني الشك أن مخدر الاسنان (البنج) لا يعمل بكفاءة. أعطيت حقنة البنج بنفسي لمريضين فكانت النتيجة واحدة. التخدير ضعيف للغاية. عندئذ طلبت من الطلبة التوقف عن خلع الضروس وصعدت الى مكتب رئيس القسم وأخبرته، فبدا عليه انزعاج شديد ليس لأن البنج فاسد ولكن لأنني أوقفت العمل في العيادة، وطلب منى استئنافه فوراً، فاعتذرت وقلت له إن خلع الأسنان بدون بنج فعّال عمل غير انساني، عندئذ صاح في وجهي:
ـ أنت هنا شغلتك تسمع الكلام.
قررت ألا أشترك في تعذيب المرضى مهما تكن العواقب، عندئذ استدعى رئيس القسم مدرساً مساعداً في القسم وطلب منه استئناف العمل في عيادة الخلع، فتحولت الى عنبر تعذيب، اذ تعالت صيحات المرضى المساكين من فرط الألم وتكسرت ضروس كثيرة أثناء خلعها بواسطة الطلبة المرتبكين من صراخ المرضى. في نهاية اليوم استدعاني رئيس القسم وقال لي بنبرة أبوية:
ـ يابني انت لسه صغير. مهما حصل لا يمكن نوقف العمل في عيادة الخلع، لأن ذلك سيثير ضجة، ويجلب علينا القيل والقال. نحن في غنى عن كل ذلك ولا تنس أن هناك متربصين حاقدين علينا فلا يجب ان نعطيهم الفرصة.
لم أرد على رئيس القسم وإن كنت تساءلت في نفسي من هم المتربصون بعيادة خلع الأسنان، ولماذا يحقد هؤلاء على المرضى الذين هم جميعاً من الفقراء المعدمين؟ بعد ذلك بأعوام كنت في الولايات المتحدة أدرس للحصول على درجة «الماجستير» من جامعة إلينوي وأسعدني زماني بالعمل مع واحد من أهم علماء علم الأنسجة، هو الدكتور دينيس ويبر الذي كان يشرف على خمسة طلاب وكنت المصري الوحيد بينهم. بعد أسبوعين من العمل اجتمع بنا الدكتور ويبر وقال:
ـ لقد جمعتكم اليوم لأسمع آراءكم في أدائي. اذا كانت عندكم ملاحظات سلبية لا تترددوا في الاعلان عنها.
كان الموقف أكبر من طاقتي. أنا القادم من جامعة القاهرة حيث الاستاذ نصف إله لا يجوز مجرد التفكير في نقده، ثم ما هي قيمتي العلمية حتى أقوّم أداء هذا العالم الكبير؟ لذت بالصمت بينما شرع زملائي الاميركيون في توجيه النقد الى الدكتور ويبر، قال أحدهم إنه لا يشرح خطوات البحث بطريقة كافية، وطلبت زميلة أخرى منه إعطاء وقت أكبر ليشرح لها الجهاز الذي تعمل عليه. توالت الملاحظات على هذا النحو وراح الدكتور ويبر يسجلها بعناية ثم ابتسم وقال:
ـ أشكركم كثيراً على هذه الملاحظات لأنها تدلني على نقاط ضعف سأعمل على إصلاحها في المستقبل.
هاتان الواقعتان أتذكرهما دائماً معاً لأنهما تمثلان طريقتين متناقضتين في التفكير. الواقعة الأولى تنتشر في مجتمع الاستبداد حيث لا يُسمح للصغير بأن يوجه أي نقد للكبير، وحيث يكون الشكل دائماً أهم من المضمون، فالمهم أن تستمر العيادة في العمل حتى لو أدى ذلك الى تعذيب المرضى وخلع ضروسهم باستعمال بنج مغشوش.. والمدير لا يهتم بالأداء بقدر ما يهتم بصورته عند رؤسائه، وهو يتوهم دائماً ان هناك متربصين به حاقدين عليه ينتظرون أقل هفوة حتى يطيحوا به من منصبه، ولعل السبب في ذلك انه يشعر داخله انه لا يستحق منصبه، ففي دولة الاستبداد يكون الولاء قبل الكفاءة معيار تولي المناصب.. أما الواقعة الثانية فتمثل الثقافة الديموقراطية، حيث الاستاذ أو المدير أول من يعترف بأنه مجرد إنسان يصيب ويخطئ، وهو لا يشعر بأدنى حرج من الاستجابة لملاحظات تلاميذه حتى يتمكن من تحسين أدائه. ولأننا نشأنا نحن المصريين في دولة الاستبداد فنحن لا نعرف الا الطريقة الأولى في التفكير. أي مسؤول لدينا لا يتقبل النقد أبداً وكل ما يهمه أن يثبت للرأي العام ولرئيسه أن كل شيء على ما يرام. كل من تولى الحكم في مصر كان يعيش في عالم افتراضي يشعر داخله انه يفعل أعظم الأشياء ويتخذ أكثر القرارات حكمة ويعتبر كل من يعارضه مغرضاً و حاقداً أو خائناً عميلا.
على مدى ثلاثين عاماً نهب نظام مبارك المصريين وقمعهم وأذلهم، وأوصل مصر الى الحضيض في المجالات كلها لكن مبارك لم يعترف حتى الآن بفشله وجرائمه، وظل حتى اللحظة الأخيرة يعتبر نفسه حاكماً عظيماً وبطلاً قومياً ويتهم معارضيه بأنهم مجموعة من المتآمرين، الممولين من جهات أجنبية. ثم أسقطت الثورة مبارك فوصل الى السلطة المجلس العسكري فأساء إدارة البلاد لدرجة ان قطاعاً من المصريين كاد يندم على الثورة.
ثم وصل «الاخوان» الى الحكم فاكتشفنا أنهم أيضا يعيشون في عالم افتراضي اذ يعتبرون أنفسهم حصرياً المتحدثين باسم الاسلام والمدافعين عنه، وبالتالي فإن كل من يعارض سياساتهم أو يرفض انتهازيتهم ونفاقهم يعتبر في نظرهم متربصاً بالإسلام حاقداً على المسلمين. هذه الغشاوة حجبت الحقيقة عن «الاخوان» حتى انتفض ملايين المصريين وأنهوا حكمهم، على أن «الاخوان» ما زالوا غارقين في عالمهم الافتراضي، فهم يعتبرون الموجة الثورية الكبرى في «30 يونيو» مؤامرة ضد الاسلام قام بها المتربصون الحاقدون من العسكريين والأقباط والعلمانيين.
على أننا تخلصنا من «الاخوان» ولم نتخلص للأسف من العالم الافتراضي، فقد أنفق فلول نظام مبارك ملايين الجنيهات وأنشأوا قنوات فضائية نكتشف الآن أن الغرض الأساسي من إنشائها إجراء غسيل دماغ جماعي للمصريين يتم خلاله التشهير بالثوريين وتلطيخ سمعتهم بالباطل وإقناع الرأي العام بأن الثورة مجرد مؤامرة اميركية صربية قطرية تركية اسرئيلية.
بالطبع من العبث أن نناقش هذا الهراء، لا فائدة من تذكير الفلول بحقيقة ان مبارك كان كبير الخدم للسياسة الأميركية الاسرئيلية باعتراف المسؤولين في البلدين، ولا فائدة من تذكيرهم بأن الثورة المصرية قد بدأت إرهاصاتها قبل حدوثها بعشر سنوات كاملة. لا فائدة من مناقشتهم لأن إعلام الفلول قد أنشأ عالمه الافتراضي وكل من يخرج عن الخط المرسوم يكون في رأيهم متربصاً حاقداً. كل من يفكر أو يعترض أو يعبر عن رأى مختلف يُتهم فوراً بأنه خلية نائمة لـ«الاخوان» أو طابور خامس وعميل اميركي. هذه الطريقة البائسة في التفكير تجلت في واقعة إعلان الجيش عن اختراع جهاز يقوم بتشخيص وعلاج «الايدز» والالتهاب الكبدي «فيروس سي». الجيش المصري مثل كل الجيوش الكبرى يقوم بأبحاث لتطوير قدراته القتالية، وعادة ما تكون هذه الأبحاث سرية لا يكشف عنها الا عند استعمالها في الحرب. في حرب 1973 طور سلاح المهندسين نوعاً من الاسمنت يجف بسرعة ويقاوم اللهب، استعمله في سد المواسير التي ملأها الإسرئيليون بالمواد القابلة للاشتعال التي كانت كفيلة بتحويل مياه القناة الى كتلة من لهب. كما قام اللواء باقي زكي باختراع مضخات المياه القوية التي ثقبت خط بارليف وأسقطته. اختراعات الجيش إذن ليست شيئاً جديداً. على أننا فوجئنا بمؤتمر صحافي يتحدث فيه شخص، هو أبعد ما يكون عن تمثيل الجيش المصري، وقد أكد انه اخترع جهازاً قادراً على تشخيص وشفاء مرضى «الايدز» والتهاب الكبدي الوبائي، وبدلا من أن يشرح لنا طريقة عمل الجهاز علمياً فوجئنا به يؤكد أنه سيحيل فيروس «الايدز» بأمر الله الى «صباع كفته» يتغذى عليه مريض الايدز، ثم أدلى هذا المخترع بأحاديث للصحف أكد فيها ان جهات دولية حاولت شراء اختراعه بمليارين من الجنيهات، كما أن المخابرات العالمية كلها تتربص به لتقتله حتى تحرمنا نحن المصريين من عبقريته.
كل من يعرف قواعد البحث العلمي اعترض على تقديم اختراع الجيش بهذه الطريقة غير اللائقة، والاعتراض مبعثه حبنا للجيش واعتزازنا به، لكن مدفعية إعلام الفلول فتحت نيرانها الكثيفة على كل المعترضين، إعلاميون يصرخون وفقاً لتعليمات الأمن ومصالح أصحاب القنوات، وطبّالون وزمّارون ومنافقون أكلوا على كل الموائد، وباحثون عن أماكن في سفينة المشير السيسي التي لاحت في الأفق. كل هؤلاء اتهموا المعترضين على الطريقة غير العلمية لتقديم الاختراع بأنهم متربصون وحاقدون على الجيش، وانهم خونة يعملون لحساب مخابرات غربية معادية، ووصل الامر الى معايرة المعترضين بشهاداتهم العلمية التي نالوها من الجامعات الاميركية، وكأن الجهل قد أصبح شرطاً للوطنية.
صحيح أن مصر لديها إمكانات عظمى وصحيح أن هناك قوى دولية وإقليمية لا تريد لمصر أن تنهض، لكننا نهزم أنفسنا بالاستبداد والتفكير المنغلق. لن نتقدم خطوة واحدة الا اذا احترمنا أصحاب كل الآراء، المعارضين قبل المؤيدين. لن تتقدم مصر الا اذا تخلصنا من العالم الافتراضي الذي يمنعنا من رؤية أخطائنا وعيوبنا. يجب أن نرى الواقع كما هو وليس كما نتمنى أن يكون. عندما نحترم من ينتقد تصرفاتنا ونستمع اليه ونسعى بجدية الى إصلاح أخطائنا. عندئذ فقط تبدأ النهضة.
علاء الأسواني
المصدر:السفير
إضافة تعليق جديد