الموحّدون يودّعون أبو غنام
ودّعت طائفة الموحدين الدروز في لبنان أمس الشيخ الجليل أبو سعيد أمين أبو غنَّام، أحد أركان هيئتها الروحية، الذين جسدوا القيم التوحيدية بأرقى وأصفى معانيها، وهي قيم المحبة والتسامح والانصراف للتعبد والهداية والنأي عن مظاهر الحياة الدنيا، في مسيرة إيمانية عنوانها التقوى والورع والزهد، ما أسبغ على مجلسه هالة تقدير جمعت الدروز حولها بعيدا من اصطفافاتهم وتنوع انتماءاتهم السياسية، فكان المرجع الروحي الذي ما اختار أن يكونه، ولم يسعَ إليه، وما أغراه يوما موقع إلا العمل في سبيل مرضاة الله.
ليس ثمة معايير ومنظومة قوانين تحكم اختيار أعضاء الهيئة الروحية، إلا الزهد في صومعة التأمل والعبادة كطقس صلاة دائم، لذلك، هم دائما خارج دائرة الضوء، ما يضفي هيبة ووقارا على حضورهم المترفع عن الأمور الدنيوية. وتلك حال الشيخ أبو غنام الذي نَعَتْهُ طائفةُ الموحدين الدروز بهيئتها الروحية ومشيخة العقل وقيادات الطائفة ونوابها وفاعلياتها وعموم أبنائها بـــ «الشيخ الفاضل، المرجع التوحيدي الجليل، العلَم الأمين والركن الحصين، التقي العابد العارف الطائع لله».
ولد الشيخ أبو غنام في بلدة عرمون قضاء عاليه في آب عام 1915، ونشأ في كنف أسرة دينيّة متوسّطة الحال، وظهرت عليه معالم التقوى والورع باكراً، وكان مع مجموعة من إخوانه من تلاميذ الشيخ أبو حسين محمود فرج في عبيه. ولما تميّز به من ورع وتقوى، وحلم ورويّة، اكتسب ثقة المشايخ، وكرمه الشيخ فرج بإلباسه العباءة البيضاء المقلّمة (باللونين الابيض والاسود) التي لا يلبسها الا مَن كانوا مثالا في التقوى، ليصبح بذلك من أعيان البلاد.
لم يتوجه الراحل إلى خلوة للتعبد، ولا إلى الأزهر الشريف ليتعلم، بل كانت خلوته بيته، ومنزله مسجده وموضع عبادته، كل ذلك لتجنب الشهرة، في ما عدا مرة واحدة أصر فيها المرحومان الشيخ أبو حسين إبراهيم أبو حمدان (ميمس) والشيخ أبو علي مهنا حسان (حاصبيا) شيخا البياضة تلك الأيام، على الشيخ بالمجيء للبياضة للتعبد هناك، فذهب ومكث أسبوعاً واحداً فقط، نزولاً عند خاطرهم ثم عاد بعدها حالاً.
أخذ الشيخ أبو غنام الكثير من السلوكيات والمعاملات كالورع والحلم والتريث عن الشيخ أبو حسين محمود فرج معلمه، وسلك مسلكه في عدة أمور دقيقة، منها تركه للسياسة وحتى السياسة الدينية، وابتعاده عن كل هذه الأمور، وظل متمسكا بكثير من المواقف والعادات التي ورثها عن الشيوخ الأقدمين، ولم تزده السنون إلا تواضعاً ووقاراً، وعمل جاهدا لحفظ الإخوان وجمع الشمل ونبذ الخلافات الدينية، حتى أصبح مقصداً يقف الجميع عند خاطره.
في العام 1991 دعا الراحل أبو غنام إلى تشييد خلوة في عرمون وأقام بها نهضة دينية واسعة، فأصبحت محجة للشيوخ والشباب التائبين المستجيبين والمريدين.
واستجابة للشيخ الجليل الراحل أبو حسن عارف حلاوي، قام الشيخ الراحل أبو محمد جواد ولي الدين في العام 2006 بإلباس الشيخ أبو غنام، بالعمامة (المدورة) ليصبح ركنا من أركان الهيئة الروحية.
وبرحيل الشيخ أبو غنام تكون الهيئة الروحية العليا في عهدة الشيخين أمين الصايغ وسليمان الصايغ، مع الإشارة إلى أن هذه الهيئة لا تضم مناصب، إنما هي تكريم للمشايخ التقاة الذين ينالون ثقة اخوانهم ويثبتون مسلكية شريفة في حياتهم.
وشيع الراحل بعد ظهر أمس بحضور فاعليات سياسية واجتماعية وروحية ومشاركة حشود كبيرة من رجال الدين ووفود شعبية، في مأتم مهيب أقيم في مسقط رأسه عرمون.
وتقدم المشيعين شيخُ عقل الطائفة الشيخ نعيم حسن، والنائب أكرم شهيب ممثلا رئيس «جبهة النضال الوطني» النائب وليد جنبلاط، رئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني» النائب طلال ارسلان، المرجع الروحي الشيخ ابو سليمان حسيب الصايغ، وممثل عن المرجع الشيخ امين الصايغ، والشيخ نصرالدين الغريب، ورئيس الاركان في الجيش اللبناني اللواء وليد سلمان، وقائد الشرطة القضائية العميد ناجي المصري، وممثلون عن القيادات الامنية، قضاة المذهب، وأعضاء من المجلس المذهبي، ورئيس «مؤسسة العرفان التوحيدية» الشيخ علي زين الدين، وحشد من الشخصيات والفاعليات والهيئات الحزبية والسياسية والاجتماعية والروحية والآلاف من أبناء الجبل والمناطق.
وخلال التأبين ذكّر الشيخ ماجد ابو سعد بمناقب وفضائل الشيخ الراحل، ثم كلمة شكر باسم العائلة، وألقى شيخ العقل نعيم حسن كلمة بالفقيد، جاء فيها: «بالرضى والتسليم لمشيئته تعالى، نودع اليوم شيخا فاضلا كريما عينا من أعيان زماننا، وعلماً من الأعلام الشاهدة على الرسوخ في السبيل القويم والنهج السليم، ونفحاً عطراً طيباً من نفحات اهل التوحيد والسلف الصالح الذين بذلوا في الله مهجتهم، فعمت في البرايا بركتهم، وعلت بالحق كلمتهم».
وتوجّه بالرحمة للشيخ الجليل، ثم أمّ الشيخ حسن الصلاة على الجثمان حيث ووري في ثرى بلدته.
أنور عقل ضو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد