تجربة سورية مع اتفاقيات شمال - جنوب
أعطى تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عام 2007 تقييماً لواقع التجارة الدولية والعلاقات الاقتصادية، طارحاً عناوين هامة في فصول رئيسية، أولها يختص بدراسة لنتائج العلاقات التجارية الثنائية بين دولة نامية ودولة متطورة وليعلن فشل الدول النامية في عمليات الاندماج العالمي من هذا النوع وتحديداً الثنائية منها، محدداً جملة من الالتزامات المعيقة والتي تتضمنها هذه الاتفاقيات وأهمها: التبادل غير المتكافئ، مستوى الوصول إلى الأسواق، تحرير السلع والخدمات، حماية الاستثمارات والمستثمرين، الملكية الفكرية والتراخيص. أما الأهم فهو الطرح البديل الذي يعلن أن تجربة الاتفاقيات الاقتصادية الإقليمية بين الدول المتشابهة من حيث مستوى التطور، هي البديل القادم والأمثل..
خاضت سورية كغيرها من دول العالم النامي تجربة التعاون الاقتصادي مع دول الغرب الكبرى ففي عام 2004 تم توقيع وبالأحرف الأولى على اتفاقية الشراكة الأوروبية – المتوسطية، التي تقوم على أساس اتفاقيات ثنائية بين 25 دولة أوروبية من جهة ودول حوض المتوسط كل على حدة.. وكان واضحاً أن الفجوة في القدرة التفاوضية كبيرة ولمصلحة دول الاتحاد الأوروبي.
أعاقت الظروف السياسية تحديداً استكمال عملية الاندماج والشراكة، ولكن خلال السنوات التي بقيت فيها الشراكة موضع النقاش والتطبيق، استطاعت أن تؤثر بالتزاماتها على بنية الاقتصاد السوري. وهذه الاتفاقية كانت تتويجاً لعلاقات واسعة مع الاتحاد الأوروبي وتحديداً في مجال التبادل التجاري.سنستخدم بنود هذه الاتفاقية وخطوطها العامة كنموذج لتوضيح الآلية المحددة التي تمتن أسس التبادل اللامتكافئ بين الدول المتطورة والدول النامية، بين الشمال والجنوب. صلب الاتفاقية وجوهرها تمثل بإقامة منطقة التجارة الحرة بين سورية و25 دولة أوروبية، ويتم ذلك وفق مبادئ أساسية متطابقة تقريباً مع الالتزامات المعيقة التي ذكرها التقرير.
تحرير التبادل التجاري والوصول للأسواق:
أول مبادئ الاتفاقية أن يتم التحرير بصورة تدريجية خلال فترة انتقالية أقصاها 12 عاماً. يشمل التحرير إلغاء أي رسم أو عبء مفروض على أي نوع كان له علاقة باستيراد أو تصدير سلعة أو خدمة، وفي مقدمتها الرسوم الجمركية. بالمقابل فإن الطرف الأوروبي يلتزم بالسماح للمنتجات السورية بدخول أسواقه ولكن باستثناءات زراعية.
نظراً لخصوصية قطاع الزراعة لدى الاتحاد الأوروبي لا يلتزم بتحرير كامل للتجارة في المنتجات الزراعية. وتخضع هذه المنتجات في إطار الاتفاقية إلى« نظام خاص». أي تطبق أوروبا بمستوى ما سياسات حمائية على منتجاتها الزراعية وتكون انتقائية في السماح بإيصال المنتجات الزراعية السورية إلى أراضيها، بالمقابل تلتزم فقط باستلام حصص محددة من بعض المنتجات الزراعية السورية. أوروبا لم تحرر سوق سلعها الزراعية وأعاقت وصول منتجاتنا الزراعية لأسواقها. أما بالنسبة لحماية المنتجات الزراعية السورية فتبقى العملية تقديرية «بأن المنتجات الزراعية الأوروبية لن تنافس المنتجات السورية الوافرة»؟؟. بالمقابل تفرض الاتفاقية تحت شعار «إزالة تشويه التجارة والاحتكار»، إزالة كافة أشكال الدعم والسير باتجاه تحييد دور الدولة ومؤسساتها.
يقول تقرير الأمم المتحدة المذكور سابقاً إنه في العلاقة غير المتكافئة بين الطرفين يطمح الطرف الأضعف إلى هدف أساسي هو الوصول إلى أسواق أوسع لتصدير منتجاته واندماجه في السوق العالمية. وهذه العملية تتم وفق التزامات الدول المتطورة في المنظمات الاقتصادية والتجارية الدولية، يؤكد التقرير أن الغاية المعلنة بوصول الدول النامية إلى الأسواق الكبرى غير مؤكدة، إلا أن المؤكد هو خسارة هذه الدول جانباً هاماً من المرونة في السياسات الاقتصادية المطلوبة لتجنب التدهور المحتمل في إمكانيات العرض الداخلي، وبشكل أساسي في الصناعات المنتجة محلياً. أي تضع الدول النامية تصدير هذه المنتجات كهدف، بالمقابل تضطر للالتزام بآليات ضمن المنظمات العالمية تساهم في الحد من قدرة التطور الذاتي لهذه المنتجات.
ينطبق تحليل التقرير على حالة تحرير المنتجات الصناعية، حيث أن الصناعات الأوروبية ستغرق السوق السورية بمنتجاتها مقابل سحب قدرة الحكومة السورية على إدارة عملية الاندماج، وإفقادها المرونة على حماية الإنتاج المحلي، وذلك عن طريق شروط التحرير العامة التي تمنع الشريك السوري الأضعف من تقييد السلع والخدمات الواردة، وتمنعه وهو الأهم من إعاقة أي نوع من التدفق المالي الاستثماري أو تحديده.
حماية الاستثمار والمستثمرين
يذكر تقرير الأمم المتحدة أن معظم الاتفاقات الثنائية بين الشمال والجنوب تقلل إمكانية تخطيط سياسة جذب وتوجيه الاستثمارات.
وتتم هذه العملية من خلال الالتزام بحماية الاستثمار والمستثمرين، وحرية حركتهم، فالشراكة الأوروبية ألزمت سورية بتحرير حركة رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وكذلك السماح بتصفية وتحويل عائدات هذه الاستثمارات والأرباح الناجمة عنها إلى الخارج بصورة حرة. أي أن سورية في المرحلة التي أعلنت فيها أن الاستثمار الخارجي هو المورد الأساسي فقدت كل قدرات التحكم بهذا المورد أو توجيهه وفق المتطلبات المحلية، وبالمقابل هذا الاستثمار غير ملزم بتوظيف أرباحه – كلها أو جزء منها- المنتجة محلياً في الداخل السوري.ويلتزم الطرف السوري ليس فقط بالحماية ولكن بتكييف سياسات مالية ونقدية لتناسب الاستثمار والمستثمرين، كإجراءات توحيد أسعار الصرف في سورية وتعويمها ليتحدد سعرها وفق العرض والطلب، أي نزع قدرة التحكم النقدية بالليرة السورية وتركها لتتحدد وفق العرض والطلب في بيئة تسحب كل إمكانيات تطوير العرض الإنتاجي في سورية.
الملكية الفكرية والتراخيص:
أما النقطة التي ترتبط بحماية عزل التكنولوجيا التي يجلبها الاستثمار الخارجي فهي اشتراط الانضمام إلى معاهدات حماية الملكية الفكرية الدولية الواردة في الاتفاقية. حيث أن تكنولوجيا الاستثمارات الأجنبية، التي تعتبر العنوان الأساسي في التسويق لها تبقى محمية وفقاً للالتزام بقواعد الملكية الفكرية، أي التكنولوجيا المستوردة تبقى معزولة في الاستثمارات الأجنبية وذلك وفقاً لقرار المنتجين الأساسيين.
اتفاقية الشراكة الأوروبية لم تنجز، ولكنها استطاعت أن تنجز جزءاً هاماً من عملية سحب الاقتصاد السوري إلى دائرة علاقات «شمال- جنوب»، ودمجه عالمياً، ولكن على هامش الفضاء الاقتصادي الأوروبي، حيث بجملة من الالتزامات المالية النقدية التجارية، تم إضعاف بنية الإنتاج المحلي، وتقليص دور جهاز الدولة الفاعل، ومتنت العلاقات مع سوق المراكز الكبرى، الأوروبية تحديداً، حيث تتوسع الفجوة في مستوى التطور، ويتم المحافظة على هذا الاتجاه..
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد