كتاب الطيب تيزيني لاستكشاف أسئلة الفكر العربي
يسعى طيب تزيني إلى استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة منطلقاً من اعتبار أن استقلالية الفعل النهوضي كانت قد طبعت الأسئلة الثقافية النهوضية، الأولية والمبكرة، بطابعها، لذلك جاء سؤالا الحرية والتقدم، ومعهما سؤالا الإصلاح والتحديث، من حيث هي الإطار الذي التقت فيه الأسئلة والمسائل الأخرى، والتي تمركزت حول مقولة "أن نتحرر وأن نتقدم؛ أو أن نتقدم مع التحرر أو بعده"؛ بوصفها الشاغل الثقافي النهضوي الأعظم. أما في الوضع العربي الراهن، فإن السؤال الأكثر إشكالية، هو ذلك المتسم بكونه سؤالاً في الوجود والكينونة التاريخية، ويتجسد في كونه سؤالاً لاستمرارية الوجود تاريخاً حياً وللتاريخ الوجودي فاعلاً، ووجوداً معيشاً. وعليه يتمحور الاشتغال الحفري في كل الآفاق والجهات، بهدف الوصول إلى الاستمرارية التاريخية والتشبت الوجودي، بالاستناد إلى الحيثية الحاسمة التي تفتح، أو قد تفتح تلك الاستمرارية، من خلال استكشاف حدين أعظمين لها، يتمثلان في الانتقال من سؤالي الحرية والتقدم، إلى سؤالي التاريخ والوجود. ويشترط تحقيق هذه الحيثية الحاسمة باستعادة سؤالي الحرية والتقدم كليهما، واكتشاف موقعهما في نسيج الحيثية إياها، أي في سؤالي التاريخ والوجود المعنيين.
غير أن تزيني يعتبر الإجابة، عن سؤالي الحرية والتقدم من جهة، وعن سؤالي التاريخ والوجود من جهة أخرى، عملية مشروطة بالإجابة عن سؤالي التاريخ والوجود في سياق السؤالين الأولين المذكورين، وعندما يكون الأمر على هذا النحو التاريخي النقدي والجدلي المفتوح، فإن المسألة تغدو ممثلة بالمبدأ الفلسفي والسوسيولوجي التاريخي، القاضي بإنجاز المهمات الراهنة القصوى الآن وليس غداً. وقد طرحت العهود الأولى من النهضة أسئلة التأسيس الثقافي الجديد من الداخل عبر الإصلاح الديني والدنيوي المطابق والممكنات الذاتية المتاحة على نحو منبسط ومفتوح، وكان ذلك قبل تعرّف الغرب الاستعماري إلى العالم العربي، ثم أنتجت مرحلة التبعية أسئلة الحرية والتقدم والمقارنة بين الغرب والشرق، وإمكانية الخروج من حالة التخلف والفوات. وعليه، ظهر سؤال الهوية والذاتية والآخر، ثم ظهرت ثلاثة أسئلة تمثل، مجتمعة، بنية تأسيسية مركبة تقوم على الاستقلال الوطني، والحداثة، والوحدة أو التضامن القومي.
ويطرح تزيني هذه المسائل للمناقشة والحوار في الفكر العربي المعاصر وفق رؤية، تتسم بالإقرار بالآخر إقراراً غير مشروط، إلا بالاحترام بحق المواطنة القاطع والندية، وباتخاذ العقلانية طريقاً دقيقاً وحاسماً للوصول إلى المشتركات بين المتحاورين، وإلى نقاط الخلاف أيضاً؛ وبالتسلح بالمناهج والأدوات والآليات الفكرية المتقدمة على هذا الطريق، معتبراً ذلك سياقاً ضرورياً، للتأسيس الإستراتيجي لما هو قائم بين الثقافي والسياسي المستنير بتطلعات إستراتيجية، وبأفق وطني وقومي ديموقراطي، يجد أقصى أهدافه في إخراج العالم العربي من احتمالات أخطرها يكمن في إنهائه.
وقد عانت الثقافة العربية، في داخل حواملها الاجتماعية العربية، من تقاطع تصنيفي تنهيجي مع الواقع السوسيوثقافي والاقتصادي السياسي، وأعلنت هزيمة المشروع العربي النهضوي التنويري، في أوائل القرن العشرين، عن صعود مشروع آخر، أخذ يفضح عن نفسه بقوة متصاعدة هو المشروع الصهيوني؛ مما أفسح المجال أمام تصاعد قوى لثلاثة اتجاهات أيديولوجية ثقافية، لها خصوصية السؤال التراثي، حيث ظهر الاتجاه الأول في صيغة سلفية ماضوية تنطلق من أن "الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف"، ومقصيةً بذلك مفهوم التاريخ والعصر القائم، الداخلي، الذي غدا بمقتضى ذلك "جاهلي الطابع"، والخارجي الغربي المتفلت من المنظومات القيمية، بحسب هذه الصيغة. وأخذ الاتجاه الثاني منحى التمجيد للغرب، العلم والحضارة والقوة والديموقراطية، مقابل النظر إلى الشرق، العربي، بوصفه عالم الخمول العلمي والعقلي، ولكن مع حضور كثيف للديني الايديولوجي والأسطوري والاستبداد الظلامي. أما الاتجاه الثالث، فبرز بصفته باحثاً عن "الحقيقة" في كلا الاتجاهين الأولين، ورافضاً الأخذ بواحد منهما على حدة، مؤسساً بذلك لنزعة "تلفيفية" توحد ما لا يتوحد.
ويبحث تزيني عن "كلمة السر" للدخول في العصر، فيجدها في الشروع في التأسيس لمشروع عمومي قابل لأن يتخصص قطرياً وطنياً في النهضة والتنوير، ويتطلب ذلك إعادة بناء الهوية العربية من موقع استحقاقات مرحلتنا العربية واشتراطات عصرنا الملتهب، في ضوء عملية الاتصال بين حاضرنا وتاريخنا وتراثنا. لكن مقدمة النهضة والتنوير يجسدها مشروع الإصلاح الوطني الديموقراطي وفق خصوصية كل بلد عربي، وانطلاقاً من عمومية أو عموميات العالم العربي، ولا بد أن يكون الحوار العقلاني الديموقراطي أول الغيث.
ويرجع تزيني غياب دور المثقف في عملية التغيير إلى العجز القسري، الذي ألمّ به نتيجة غياب الحرية، والكرامة، والكفاية المادية، وإلى قيام النخب السياسية الحاكمة بإقصاء المثقف عن دائرة الفعل، وإدخاله في النظام السياسي والأمني عبر عملية شراء وبيع، أو تركه "يعيش عيشة الكلاب"، إلى جانب سيادة الاستبداد السياسي والعقم المعرفي، وخنق عنق التطلعات التنويرية، فانتهى بذلك الرأي والرأي الآخر، وُغيّبت الحريات لمصلحة تسللط السلطة، مع قوانين طوارئ أُريد لها أن تبقى أبديّة، الأمر الذي أفضى إلى استتباب حالة من الغيبوبة والشلل العمومي من جهة، وجعل المجتمع لقمة سائغة للعولمة المتوحشة من جهة ثانية، مع تدنّي التحصيل المعرفي، وضعف الابتكار، واطراد التدهور. فراح الفكر العربي يدور في فلك جملة من الثنائيات التي تنوس ما بين حدّي التراث والمعاصرة، والعلمانية والدين، والعقل والضمير، وسواها. ومع انهيار القيم الأخلاقية البنّاءة، ظهرت قيم جديدة، مؤسسة على الدعارة، والفساد المالي، واحتقار الآخر، واللصوصية، والطائفية، والمخدرات، ونهب الثروة، واحتكار السلطة. وقد وضع كل ذلك المثقف العربي في حالة انعدام الوزن، مع بروز هوية وطنية مفكَّكة، مرشّحة للقضم والابتلاع.
وأفسح تردي الأوضاع وانهيار القيم إلى إفساح المجال لقيم العولمة لأن ترخي بظلالها على الحطام العربي، حيث عملت ثورة الاتصال والمعلومات على تأسيس إستراتيجية الاستفراد والهيمنة، من خلال منظومة عولمية عملت تحت "كوجيتو عولمي، يتحدد بـ "وحّد تسد"، بوصفه البديل عن كوجيتو الاستعمار القديم "فرّق تسد". ووجدت تلك الإستراتيحية في البلدان العربية اقتصاداً خراجياً مافيوياً، ومجتمعات قبل صناعية مفككة، وإيديولوجيات دينية، وأخرى سلعية، صعدت بالتساوق مع تفكك الطبقة الوسطى وتصدّعها، فاستبدلت أطروحات الحداثة بإحياء الهويات ما قبل الوطنية، ما أحدث شرخاً في تاريخ الشعوب وتراثها لصالح أطلس استراتيجي جديد، ينهض على ثقافة السوق وقيمها.
أما الذي يتجلى في الحال العربي الراهن، أو الجديد الراهن، فيعتبره تزيني بمثابة الحامل الاجتماعي السوسيوثقافي والأخلاقي للتحولات الكبرى التي تعصف بالعالم العربي في أيامنا هذه، داعياً إلى التضامن العميق والمنظم بين المتضررين من الحطام العربي، بوصفه خشبة الخلاص لجميع المضطهدين والمتضررين، وفيه يظهر الفعل النهضوي والإصلاحي والتنويري معاً، وبرؤية تاريخية ديموقراطية، مؤسسة على حضور الدولة القانونية والدستورية والوطنية والراعية والعادلة. ومثل هذه الدولة ستكون الحامل الدستوري لمشروع التغيير العربي. ويرى في الثورة التونسية نموذجاً خلاّقاً للفعل العربي التاريخي الجديد، الذي يعيد الكرامة للناس والمكانة للوطن، لذلك ستجد هذه الثورة نفسها أمام مهمات الشروع في البناء الديموقراطي والدولة التعددية والمدنية، وتحارب الفساد والإفساد، وسوى ذلك من الاستحقاقات التي تنتظرها وتنظر الثورة المصرية كذلك.
عمر كوش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد