هل تريد أمريكا دولاراً ضعيفاً؟
منذ ما يقاربُ السنة، وسعر العملة الأميركية آخذٌ في الانحدار، لم تشفع به إجراءات مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي، (البنك المركزي)، سواء لناحية ضخّه بلايين الدولارات لإرواء عطش مؤسسات مالية إلى السيولة، بعدما جفّفتها أزمة الرهن العقاري غير المأمون، ولا آلية خفض الفائدة القياسية من أربعة في المئة إلى اثنين، في فترة قصيرة. فالدولار يتهاوى من قعرٍ قياسي إلى قعرٍ آخر، لم تعوّضه خطة الرئيس جورج بوش، لدفع اقتصاد بلاده نحو النمو بالاقتطاع الضريبي على المستهلكين، بعضاً مما فقد من ملاءته الشرائية، فبلغ تقريباً نصف ما كان عليه في 25 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2000، أمام اليورو عندما كان الأخير يساوي فقط 0.823 دولار. وعلى رغم أن وزير الخزانة الأميركي هنري بولسن، ينادي دائماً بـ «دولارٍ قويٍّ»، فإن إدارته لم تبادر، للآن، إلى اتخاذ إجراءات تحول دون سقوط الورقة الخضراء.
وتجاه هذا الضعف المتمادي في عملة الصرف الرئيسة في العالم، يبدو، أن هذا العالم لن يتخلّى عن التعامل بالدولار مهما تراجعت قيمته. أمرٌ تعلمه الإدارة الأميركية العليا جيّداً، وتدرك نتائجه بعمق، وتمعن في الإبقاء على الواقع، على رغم الاندفاع الترويجي لإنقاذ العملة. فالنفط الخام، والمواد الأولية، والمنتجات الزراعية، وحتى زيت النخيل الإندونيسي الذي يصدّر لإنتاج الوقود الحيوي (الإيثانول)، كانت وستبقى تُسعّرُ بالدولار، طالما أن الدول الرئيسة الكبرى المعنية بالاقتصاد العالمي لم تجد للآن عملة رئيسة ثانية تخلعُ هذا «الملك المترهّل» عن مكانته. لذا يبقى ثلثا الاحتياط العالمي بالعملات الأجنبية بالدولار، و80 في المئة من صادرات دول مثل إندونيسيا وباكستان تتم بالعملة الأميركية، و86 في المئة من 3200 بليون دولار قيمة مبادلات الأسهم العالمية يومياً، تتم بها. (عن مجلّة Challenges الأسبوعية).
هذا الواقع يسمح للولايات المتحدة أن تبقى هي المسيطرة، وتحرّك دفّة شراع الدولار بحسب الرياح التي تشتهيها، لتعوّض عجزها التجاري ذا الحجم القياسي، وادخاراً سلبياً للأسر الأميركية، فضلاً عن تعويض نفقات حرب العراق، وتقدّر بنحو 5 آلاف دولار كل ثانية أو 3 بلايين دولار كل أسبوع. ويبقى الدولار «عملة أميركا» كما يبقى «مشكلة العالم» بحسب تقويم لوزير الخزانة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، جون كونالي. وتبقى فوائد الدولار الضعيف – سر المهنة الأكبر للإدارة الأميركية – غير كافية لتوفير الثقة.
صحيح أن الصادرات الأميركية زادت 16 في المئة نحو أوروبا، بالوتيرة السنوية، لكن أرباح الشركات المعلنة في الفصل الأول من السنة الجارية، ما كانت لتصل إلى هذا المستوى غير المتوقّع لولا ضعف الدولار، الذي يزيد مستواها بين 20 و25 في المئة عنه بالسعر الثابت قبل عام. ولن يحلّق مجلس الاحتياط الفيديرالي بجناحين، ليدعم سعر الدولار، بل هو يفعل العكس، إذ يهدّد مناعته كلّما أقدم على خفض سعر الفائدة، مسبّباً أمراً واقعاً للدولار رامياً إلى إلغاء الانكماش في البلاد. وترى «ميريل لينش»، أن الدولار عرف مرحلةً من القوّة والصعود، على رغم أزمتي (2001 – 2004)، و1990 الاقتصاديتين، عندما صار مستثمرو العالم يبحثون عن استثمارات نوعية، وكان الاقتصاد الأميركي المركز السطحي للأزمة، قابعاً فوق أتونها. لكن، لمجرّد أن يكون الدولار العملة المرجعية للمواد الأولية، حتى تتحول الأمور إلى دائرة مغلقة. فمصدرو النفط والمواد الأولية والمعادن الثمينة، يزيدون أسعار منتجاتهم ليعوّضوا ما فقدوه بتدني قيمة عملة الصرف الأساسية، أي الدولار. ويمتص الأميركيون الصدمة مئة في المئة، فيتلقون مواد أوّلية مع عملة تفقد قيمتها. فالسائقون الأميركيون أنفقوا مئة بليون دولار ثمن بنزين في الفصل الأول من هذه السنة، لقاء 40 بليوناً فقط في الفصل الأول من عام 2002. صحيح أن انخفاض الدولار يسمح بمساندة الصادرات لكنه لا يصدّ الاتجاه المزمن للصرف، ويمنعه من أن يتحوّل حيث القيمة الفعلية.
وفي اليومية الأميركية أن العجز التجاري تضاعف خلال ولايتي بوش، فتجاوز 700 بليون دولار في السنوات الثلاث الأخيرة، وبات يمثل 5 في المئة من الناتج المحلي. وإذا أضيف إلى عجز الموازنة وانخفاض منسوب ادخار الأسر، تظهر فداحة اعتلال الاقتصاد الأميركي. غير أن المحللين منقسمون: فريقٌ يرى نهاية عصر الدولار، وآخرون يفترضون أن استعادة الفائدة عليه بعض النقاط مطلع الصيف المقبل، كفيلةٌ بإخراجه من «العناية المكثّفة».
تنقل مجلة «تشالنجس» عن خبير الصرف لدى «مورغان ستانلي» ستيفن جين، رصده الاتجاه «المتصاعد والمحدّد» لتنويع عولمة الأصول الأميركية. فمنذ 2003 رفعت «صناديق التعويضات» نصيب استثماراتها الخارجية من 15 إلى 22.5 في المئة، وانسحاباً على صناديق استثمار أخرى، يصير حجم استثماراتها الخارجية 1160 بليون دولار. وبكلامه: «ان اخطر تهديد للعملة الخضراء، لا يأتي من الصناعيين الصينيين، ولا من منتجي النفط ومصدّريه، ولا من المضاربين، بل من المدخرين الأميركيين أنفسهم».
فهل تسعى الولايات المتحدة إلى دولار ضعيف؟ هي للآن المستفيدة من عملتها التي باتت «جاذبة» للاستثمار ومساعدة للتصدير، وتغطي حاجة الإدارة الأميركية، في تمويل جيوشها في العراق وبلدان أخرى!
لكن ماذا عن الدول التي تربط بين عملاتها الوطنية والدولار؟
ميشال مرقص
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد