كابــوس باقــة الــورد
أضع يديّ في جيبي وأتلفت مدّعياً أنني أتفرج على الورود. أنا، في الحقيقة، أؤجل ما استطعت لحظة المواجهة مع البائعة المشغولة بتلبية طلبات زبائنها:
مراهقة بصوت رفيع يخترق أذني. «... ومِن هاي... ومِن هاي»، تقول بينما سبابتها تشير إلى نوع ورد تلو آخر، كأنها تختار قطع كاتوه.
شاب يلتزم الموضة بتطرف. يشبه متخرجاً طازجاً من ستار أكاديمي. متفاخر، يريد ثلاث باقات ورود، و«على ذوقِك دوموزيل»، يقول ويغمز البائعة، فتبتسم هذه الأخيرة بتواطؤ.
شاب آخر ببزة كحلية وربطة عنق، يبدو موظف بنك، يقف منتصباً كبنطال كُوي للتو، واثق مما يريد. يعرف أسماء الورود... وبالفرنسية. أمقته.
أفكر في هذا الموقف المحرج. هذا العيد يرهقني. أدخل إليه دخول الفيل إلى معرض الخزف الصيني. اليوم، ودوناً عن كل أيام العام، علي أن أخضع للامتحان الأعظم. أن اثبت أنني أحبكِ. لماذا يجب علي أن اثبت حبي في يوم معلن كهذا؟ لماذا لا أجلب الورود في يوم آخر، عادي، وأفاجئك بها؟ أعلم أنني لم أفعل من قبل، غير أنني، إذا قبلتِ بأن أعود إلى البيت من دون ورود العيد، فأعدك أنني سأفاجئك بباقة رائعة في يوم عمل عادي.
لن تقبلي. تريدينني أن أكون واحداً من أكثر من ملياري رجل في كوكب الأرض، يخضعون لمثل هذا الامتحان الرهيب، امتحان الورود في عيد الحب. لن أفعل. سأخرج...
«إيه مسيو. شو بتحب؟». يا الهي. أهذا صوت بائعة ورد؟ صوت لويس آرمسترونغ فيه أنوثة أكثر. ماذا أحب؟ حسناً. أحب كثيراً من الناس ومن الأشياء: أمي وأبي وأخوتي وأصدقائي والسمك المشوي والصحة والنجاح وأن يعمّ السلام العالم، والموسيقى والروايات وراحة البال. لكن لا أدري كيف سأجيب عن سؤالها.
«بدي، إذا بتسمحي، باقة ورد جوري». ها قد قلتها. وكأنني أعرف نوعاً آخر غير الجوري.
«بدك تقلها شي معين من خلال باقة الورد؟ بتعرف إنو كل نوع وكل لون بيقول رسالة معينة».
أنظري يا امرأة. أولاً، وفري عليَّ نصائحك وخبرتك الوردية. نوع ولون! ما دخلك أنت بما أريد أن أقوله «لها»؟ وكيف تقحمين أنفك في خصوصياتي بهذه الطريقة؟ لا تتذاكي علي بهذه الأفكار الغريبة عن مجتمعنا الشرقي وتقاليدنا المحافظة. أعلم أنك تفعلين هذا كي تحبطيني وكي تجعليني أبتاع باقة غالية الثمن. لا يعنيني المال. لكن أكره أفكار التسوق هذه. قفي الآن عند حدك. أعطني باقة حمراء ولننهي هذا النقاش العقيم.
«على ذوقك دوموزيل». ماذا؟ هذا صوتي؟ أين ذهب تقريع السطور السابقة؟ أهذا كل ما استطعته؟ قلّدت متخرج ستار أكاديمي؟ أريد أن أقول «لها» ما يمليه عليّ ذوق الدوموزيل؟ من أين تأتيني كل هذه الرعونة في اللحظات المصيرية؟
«أوكي مسيو».
هاتان آخر كلمتان سأسمعهما من الصوت العميق الأجش لبائعة الورد. في ما تبقى من وقت، ستنتقي بعناية وروداً ووروداً، وتحكي، ويمر علي الوقت ثقيلاً، وأنا أقــارن وأستنتج أن التعامل مع سعيد في مطاعم بربر أسهل، وإن لم يكن بالرقّة نفسها. «وحدي زعتر ووحدي جبنة»، أقول له، فينتهي الأمر.
غير أن الأمور لا تنتهي هنا. الامتحان ما زال في بدايته. تضع في يديّ باقة فأختفي خلفها. أميل الباقة يساراً كي أراها فأحدق فيها شزراً وأدفع ثمنها، ثم أعيد الباقة إلى أمام وجهي لتقف حائلاً بيني وبين العالم الذي ينتظرني عند الرصيف ليشير إليَّ ويضحك مني.
يا إلهي كم هي ثقيلة باقة الورد! أسمع، وأنا أمشي، وقع خطواتي على الطريق، ووقع قلبي يطرق عنيفاً، ورجع صدى الضحكات، وتلسعني نظرات المارين الحارقة مع أنني لا أراهم. ألمح بطرف عيني سيارة سرفيس تقترب، ومنها يرتفع صوت موسيقى لا أتبينها. أفتح الباب وأقفز في داخلها برشاقة. أنزل باقة الورد. إلى يميني، يجلس متخرج ستار أكاديمي تحت باقاته الثلاث، وإلى جانبه موظف البنك المكوي. الشابان غارقان في الصمت. تتحقق أسوأ مخاوفي حين أنظر في مرآة السائق، فأرى عينين لئيمتين تنظران إليَّ بابتسامة ساخرة.
يعطس متخرج ستار أكاديمي بشدة. مرة. مرتان. ثلاث. ينهار وجهه تحت وطأة تجاعيد الموقف الصعب. ينكمش موظف البنك على نفسه فيصير ككيس تشيبس مرمي. تتسع ابتسامة السائق. هو يضع صورة أبو وديع أمام المقود. ويضع وشماً اخضر على كف يده: أبو وديع. وبالطبع، يتبين أن الموسيقى هي مزيج من قديم وجديد أبو وديع. يبدو أن السائق من عشاق أبو وديع.
مشهدنا، على المقعد الخلفي، سيسر من يتلصص علينا من السيارات الأخرى. أبقي وجهي في باقتي الملونة. فجأة، ينظر السائق في المرآة، وقد انتهى من حياكة تعليقه: «شو الشباب رومنطيق؟ شو بدكون. حلو الرومنطيق. أنا كنت متلكون... بس تعالجت». تكفهر وجوهنا بينما يطلق ضحكة ويتابع مقلّداً صوت أبو وديع المتحشرج: «لسه الدنيا بخير يا عاا بيبي»...
كما قفزت في السيارة، أقفز خارجها، وكمحارب أميركي أتسلل إلى المبنى حيث نقطن، وباقة الورد بندقيتي. أزحف على أرض المدخل. أصل إلى المصعد. أرتمي فيه وأضغط على الرقم ستة. يرتفع المصعد ويهبط ضغطي. أخيراً. أخيراً. ماذا؟ يخفف سرعته عند الطابق الخامس. يفتح الباب. أرى سائق السرفيس يرقص مع بائعة الورد مغنياً، خلفهما يتمدد موظف البنك ومتخرج ستار أكاديمي وقد جلس عليهما وعلى باقاتهما فيل الخزف، ومع الجميع، يقف سعيد من مطعم بربر ويسألني: بدك باقة الورد مع كبيس وبندورة؟
أجزع. أغلق باب المصعد عليَّ وأكمل طريقي إلى الطابق السادس. أصل إلى البيت لاهثاً، وباقة الورد في يدي. أقرع الباب.
تفتحين الجريدة. تقرأين هذا النص. أضحكتك؟ جيد. هذه هديتي لك هذا العام. أن أضحكك. ما لم تكن هديتي موفقة، فسأحاول أكثر في العام المقبل، وهناك أعوام كثيرة بانتظارنا. سأتطور.
بالنسبة إلى باقة الورد، لا أعرف ما الذي أرادت بائعة الورد أن تقوله عبرها. لكن أنا اعرف وأظنك تعرفين. أريد أن أعيد عليك تلك العبارة من القصيدة التي قرأتها لك مرة على الهاتف. عبارة من نشيد الأناشيد. من العهد القديم. تقول العبارة: «أنا لحبيبي وحبيبي إلي».
جهاد بزي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد