كيف ينظر العلماء الى الألم في وجوهه المتناقضة؟
لم يكن الطبيب فالح ج. يتوقع ذلك الاتصال الهاتفي الذي تلقاه على هاتفه الخليوي في ساعة متأخرة من الليل. من الطرف الآخر، جاء صوت زوجة صديقه أحمد ح. (55 سنة) حاملاً الكثير من اللهفة. أخبرته أن صديقه، الذي يعاني مرض السكري منذ أكثر من عشر سنوات، تظهر عليه أعراض غير مألوفة. لقد بدا وجهه كأنه شحب فجأة، وتجمعت قطرات كبيرة من العرق على جبهته، ويشعر بدوخة وبرودة عامة في جسمه. وأبلغت الزوجة الطبيب أن تلك الأعراض تظهر للمرة الثانية خلال اسبوع. وفيما هي تتحدث من صيدليتها الخاصة، وصل أحمد فتولى الحديث بنفسه مع صديقه الطبيب. وأوضح أن أبرز ما أحس به كان وهناً شديداً مفاجئاً، مع برودة وتعرّق وشيء يشبه الدوار. ونسب أحمد، الذي يتمتع بثقافة طبية جيدة كمريض مزمن، الأمر الى النوع الجديد من الدواء الذي وُصف له أخيراً. ولم يوافق الطبيب على رأي صديقه المريض. وأبلغه صراحة أنه يشكك بأن تلك الأعراض جاءت من نوبة قلبية. وبدا الفزع واضحاً في صوت أحمد، الذي بادر الى إبلاغ طبيبه أنه لم يحس بأي نوع من الألم، لا في الصدر ولا الرقبة ولا باطن الذراع ولا حتى في البطن؛ فكيف تكون تلك الأعراض ناجمة عن نوبة قلبية؟ أوضح الطبيب لصديقه أن النوبة القلبية، إذا أصابت مرضى السكري، فإنها لا تظهر بالأعراض التقليدية المألوفة عند سواهم؛ خصوصاً لجهة الألم. وبيّن له أن المُصاب بالسكري يُعاني نقص الإحساس بالألم في مناطق عدة من جسده، أبرزها القدم. وذكّره بأن سبب ذلك تضرّر أقدام مرضى السكري، لأن فقدان الشعور بالألم يجعلهم عُرضة لأن ترتطم أقدامهم بأشياء، أو حتى لإنغراس بعض الأجسام (مثل الحصى الصغيرة أو حتى القطع المعدنية الضئيلة الحجم) فيها، من دون أن يتنبهوا لها. وفهم المريض الرسالة، إذ قال لطبيبه أن الأمر يشبه تعطل جهاز الإنذار في الجسم. ووافق الطبيب على التشبيه، وطلب الى مريضه الذهاب فوراً الى المستشفى، كي يُجرى له تخطيط كهربائي للقلب. وسرعان ما ثبت أن المريض أصيب فعلاً بنوبة قلبية، بل أن اختصاصي القلب أصر على أن الأعراض التي عاناها أحمد قبل اسبوع هي نوبة قلبية أيضاً، وأن أمرها التبس على المريض لأن جهازه العصبي لم ينقل له الاحساس بالألم، الذي يلعب دور المنبه الى إصابة القلب بضرر.
على رغم عدم «محبة» البشر للألم، فإنه يلعب دوراً مهماً، وايجاباً أحياناً، في حياتهم. وقبل الدخول الى الوظيفة التي يلعبها الألم بالنسبة الى جسد الإنسان ونفسيته، لا بد من تعريفه أولاً.
عرّفت «الجمعية الأوروبية لدراسة الالم» European Society for Pain Studies ذلك العارض أخيراً بأنه «مجموعة من أحاسيس وعواطف غير سارة». وفترات طويلة، دأب العلماء على اعتباره «تجربة شخصية»، بمعنى أن تصنيفه كان يعتمد على رأي من يُعانيه؛ وبذا، تحتم على الاطباء أن يصدقوا مايقوله مرضاهم عنه. ونظرت إليه بعض الأديان باعتباره تكفيراً عن ذنوب أو تطهيراً للنفس. واعتاد عموم الناس على الاعتقاد أنه يمثل جزاء عن خطيئه ما؛ فيما اعتبره بعض المُفكرين علامة نضج، كقولهم أن البالغ يتقبل الطعم المؤلم للأكل، ويُظهر احتماله الألم علامة على بلوغه سن الرشد؛ فيما يُصر الطفل على الأطعمة والمشروبات الحلوة.
والارجح أن عناية البشر بإعطاء الألم معنى، يأتي من رغبتهم في التعايش معه. وعلى عكس تلك الفكرة تأتي الجملة المأثورة عن وليام شكسبير «أه يا دماغي، انت لست لي مادمت تشعرني بالألم»! وحسناً فعل شكسبير حينما أعتبر الدماغ هو المعني بالوجع. فأنى كان مصدره، ينتقل الالم عبر الأعصاب إلى قشرة الدماغ، كإشارة كهربائية. ويُشبه انتقاله مرور الكهرباء في السلك، لكن الكيمياء تلعب دوراً مهماً في عملية الانتقال هذه، خصوصاً مادتي الصوديوم والبوتاسيوم. ولا يصل الوجع الى المعنى الذي نعرفه ونعانيه إلا في الدماغ.
ويفيد بعض النُحاة الى أن في لغتنا أكثر من 76 لفظاً تشير إلى معاني الألم وتدرّجه في الشدّة. وفي المجال السوسيولوجي، يُلاحظ ميل غالبية الشعوب الى عدم السماح للذكور بأظهار ألمهم، بينما تعّبر الاناث بحرية مبالغ فيها أحياناً. وفي السياق نفسه، يُبدي الرجال غالباً نفورهم من الألم غير المقصود إذا جاء من طريق رجال مثلهم، وربما لعب ذلك دوراً في كثرة الأيدي النسائية في مهنة التمريض.
وربما تقبّل بعض الرجال ضربة خفيفة من سيارة إذا قادتها إمراة، لكن ضربة مماثلة من سيارة رجل قد تستفز عدوانيتهم!
لم تظهر الدراسات أختلافات جينية في قدرة الأفراد على تحمل الألم. وفي المقابل، أدرجت الكثير من الدراسات البيئة والتجارب والوضع النفسي أسباباً لتفاوت القدرة على احتمال الألم بين الناس. ولوحظ أن الشخص ذاته يختلف تحمله الألم ذاته من وقت الى آخر تبعاً لوضعه النفسي. والأغرب من ذلك وكما أثبت بافلوف أن الالم يمكن أن يكون متعة في تجاربه على الكلاب التي أستهوتها الصعقات الكهربائيه لأن بعدها يأتي الطعام، بل أن هنالك من يشرك الالم في المتعة الجنسية. وتلعب الاعمار دوراً في هذا الأمر. ومن العبث أعتبار الاطفال حديثي الولادة قليلي الاحساس بالالم، كما أن تجارب الختان يتذكرها البعض فترات طويلة.
ويستطيع أطباء الأمراض النفسية أن يتحدثوا عن تجارب الألم ربما من دون توقف، لأنها في صلب دراستهم واختصاصهم. وعلى رغم ذلك، لا يكف مرضاهم عن مفاجأتهم. وأخبرني أحدهم أن مريضاً أصرّ على نسبة الألم في الظهر في سني الكهولة الى برغي ناتئ في جهاز قياس الوزن للرضع عَقَره قبل خمسين سنة! ويدفع ذلك البعض الى السؤال عن وجود ذاكرة متخصصة للألم. ويرى البعض أنها موجودة، وما علينا سوى تعليم أبنائنا ان يتجاوزوها فهي بمفردها مبعث ألم دائم. وهنا لا بد من التشديد على أن الحديث هو عن ذاكرة الألم الجسدي، أما ذاكرة الألم النفسي فشائع أمرها ومعروف. ويلتبس الأمر على البعض أحياناً لأن المرضى يستعملون تعابير الالم الجسدي، مثل التمزّق والتحطم والحريق، في وصف آلامهم النفسية.
ولوحظ أن الآلام الجسدية تحاط بأنفعالات نفسية مختلفة والعكس صحيح، وهكذا تنشأ حلقة مفرغة بين ألمي النفس والجسد.
وكما ورد في مطلع المقال، فإن للألم «نِعماً» كثيرة، حتى لو لم يرق هذا التعبير للكثيرين! ومعلوم أن الأشخاص الذين يولدون وليس لديهم الاحساس بالألم يتعرضون لكسور متعددة وحروق؛ سرعان ما توصلهم تلك الحال الى الموت. لذا، يعتبر اختصاصيو علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) أن الألم عملية حماية وإشارة الى وجود تلف نسيجي يستدعي الاستجابة بإزالة المُسبّب. وفي سياق مُشابه، نرى أن المرضى الذين يعانون اضطراباً في الإدراك، كالنسيان مثلاً، يحصلون على عناية طبية أقل من أقرانهم لعدم تعبيرهم عن أوجاعهم. ولهذا أيضاً اجتهد الاطباء لإيجاد وسيلة لقياس الألم. فبالأضافه الى التعبير اللفظي أهتموا بتعابير الوجه وطريقة النوم وشهية الطعام وزيادة ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم ونسبة الاوكسجين في الدم ومعدل الكورتيزون فيه وغيرها، مؤشرات، يمكن اللجوء اليها لحل هذه الاحجية. يقول بعض العلماء أن الشعور بالالم يتناقص مع العمر، على رغم أن كبار السن هم الشريحة الكبيرة في العيادات بسبب الألم، لكثرة دواعيه. وفي المقابل، يميل بعض كبار السن الى التسامي على آلامهم، ويعتبرونها جزءاً من علامات تقدم العمر؛ فيما قد تُثير آلام مُشابهة في الشباب ضجة كبيرة، ربما لأن ذلك الإحساس يعيقهم عن العمل ويمنعهم من إعالة من ينهضون بأمرهم.
أخيراً، هل هنالك وسيلة لتقليل شدة الاحساس بالالم؟ من الناحية الطبية المحضة، يمكن الكلام عن «بوابة الالم» التي رصدها اختصاصيو الأعصاب. ويرى بعض العلماء أن التحكم في تلك البوابة، بطريقة أو أخرى، يساعد على السيطرة على الاحساس بالالم.
ويرى آخرون ان الناس يتوصلون الى شيء مشابه، ربما بطريقة غير مقصودة تماماً. فحينما يشعر أحدنا بألم سرعان ما تمتد يده الى تلك المنطقة ليمسدها مثلما يفعل المريض عقب تلقيه حقنة دواء بالعضل. ووضع بعض الأطباء وسائل علاجية كثيرة كالوخز بالإبر أو التحفيز الكهربائي أو البرودة الموضعية وأنواع التمسيد (المساج) وغيرها من الإيعازات العصبية التي تثبط أيصال إشارات الالم. وعمل بعض الاختصاصيين على تقصي مراكز في الدماغ تعمل مركزياً لتقليل الإحساس بالألم عبر إفراز بعض المواد الكيماوية ذات المفعول المُسكّن. فنحن نرى على سبيل المثال أن لاعب كرة القدم يتعرض لضغوط خارجية كبيرة، ويتحملها ويكمل المباراة كأن شيئاً لم يكن لأنه تحت وطأة التشجيع والحماس. ويحدث شيء مشابه للجندي في الحروب حينما يتعرض لأصابة ما، ربما لأنها سوف ترجعه إلى منطقة الأمان!
طالب المحسن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد