هل أعدمت أمريكا صدام إخفاء لجرائمها؟
إذا كان إعدام الخصوم السياسيين من الأمور المألوفة في المشهد السياسي العراقي، والعربي عامة، فإنّ فرادة قضية صدام حسين تبدو في مكان آخر، حيث إنه الحاكم العربي الوحيد، حتى الساعة الذي يعدم في ظل الاحتلال.
كرست الحرب الأطلسية على يوغوسلافيا في العام ,1999 وما تلاها من محاكمات لقادة الصرب أمام محكمة لاهاي، نمطاً جديداً لفكرة الانتقام الأميركي. واستناداً إلى هذا المنطق استبدلت الولايات المتحدة أساليبها التقليدية في التخلص من «خصومها» عبر الاغتيالات غير القانونية، مباشرة أو عبر مأجوريها، بوسيلة جديدة تتناسب مع الصورة التي تستخدمها لتسويق نفسها كـ«وكيل حصري» لحقوق الإنسان، وذلك من خلال محاكمة «الحاكم المستبد» وإعدامه على يد قاض وجلاد «من أهل داره»، غاسلة بذلك يديها من دمائه.
ومثلما تم تسييس محاكمة صدام، جرى تسييس إعدامه، ومذهبته، في إطار التأجيج المتواصل للصراع الطائفي بين العراقيين. وبعيداً عن الجدل الذي رافق إعدامه، وردود الفعل المرحبة والمستنكرة، كان لافتاً ما صرّح به رئيس الوزراء الروسي السابق يفغيني بريماكوف، من أن الرئيس العراقي المخلوع اعدم بسرعة لمنعه من إفشاء أسرار قد تحرج الولايات المتحدة، وأنّه «لو تمكن صدام من الإدلاء بما لديه من معلومات لتسبب ذلك في إحراج شديد لإدارة الرئيس جورج بوش»، مشيراً إلى أنّه كان «عقد صفقة مع الأميركيين قبيل غزوهم العراق في العام 2003 تقضي بتسهيل احتلالهم للبلاد من دون مقاومة».
ولم يقل بريماكوف اكثر من ذلك. كما لم يتم التأكد من مثل هذا الكلام. لكن الطريقة السريعة والمريبة التي تم فيها استعجال تنفيذ الحكم وإعدام الرجل بعد إدانته بتهمة جريمة الدجيل وحدها، تشير الى ان أمورا خطيرة كان يجب ان تظل طي الكتمان، خصوصاً أنّ الرئيس العراقي المخلوع حظي بدعم واسع من قبل الإدارات الأميركية، والغربية، المتعاقبة خلال حربه ضد إيران.
تجدر الإشارة إلى أنّ أبشع الجرائم التي ارتكبت خلال عهد صدّام وقعت خلال هذه الفترة، حيث قامت الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بالاضافة الى دول الخليج، بتزويد صدام بكافة أنواع الأسلحة، ليس من المستبعد أن تكون من ضمنها القنابل التي استخدمت في «المذبحة» التي ارتكبت ضد الأكراد في الأنفال، وهي القضية التي كانت لا تزال المحكمة تنظر فيها، عندما اعدم صدام.
ولا تخرج الزيارة الشهيرة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد موفداً من قبل وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز إلى بغداد في العام 1984 عن هذا الإطار، وهي بالمناسبة لم تكن الأولى إذ سبق أن التقى الرئيس العراقي في أواخر العام ,1983 في عز ايام حربه على الجمهورية الاسلامية الوليدة، وهو دعم ظل قائما، اقله الى ان اجتاح جارته الكويت.
وقد أظهرت وثائق سرية نشرت في العام 2003 أنّ رامسفيلد أكّد لوزير الخارجية العراقي الاسبق طارق عزيز أنّ إدانة بلاده لاستخدام الأسلحة الكيميائية من قبل الجيش العراقي تشكل مجرّد موقف «مبدئي»، وأنّ واشنطن حريصة على «تحسين العلاقات الثنائية» و«تجنب أي انتصار إيراني» في الحرب.
ويؤكد الصحافي في «الإندبندنت» البريطانية اندرو مونكومب أن «العلاقة التي كانت تجمع الولايات المتحدة بالعراق حين استخدم صدّام الأسلحة الكيميائية موثقة بشكل جيّد ولكن نادراً ما يتم الكشف عنها»، فيما يشير مدير مركز «أرشيف الأمن القومي» توم بلانتون إلى أن «صدام امتلك الأسلحة الكيميائية منذ بداية الثمانينات ومع ذلك فإنّ الأمر لم يثر أي اهتمام» من قبل الإدارة الأميركية، وهو أمر يصفه المتحدث باسم حركة «أصوات في البرية» المناهضة للحرب داني موللر بـ«النفاق الواضح».
ويذهب الصحافي الكندي إريك مارغوليس من صحيفة «تورونتو صن» بعيداً في الحديث عن العلاقة بين صدام وواشنطن، معتبراً أنّها تحول دون «السماح له بمحاكمة عادلة». ويشير مارغوليس إلى الدور الذي قامت به وكالة الاستخبارات المركزية في إيصال البعث العراقي إلى السلطة، ومدى مساهمة واشنطن وإسرائيل وإيران الشاه في زعزعة العراق في السبعينات، والدعم الأميركي ـ البريطاني العسكري والمالي لصدام في حربه ضد إيران.
بدورها نقلت وكالة «يونايتد برس» عن مسؤولين في الاستخبارات الأميركية والبريطانية قولهم إنّ صدّام كان على مدى 40 عاما «رجل أميركا في العراق»، بدءاً من الدور الذي قام به في تصفية الشيوعيين العراقيين وصولاً إلى الحرب العراقية ـ الإيرانية.
ويشير هؤلاء إلى الدور الذي قامت به وكالة الاستخبارات المركزية في محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم على يد ستة بعثيين أبرزهم صدّام، الذي تمكن من الفرار إلى سوريا ومنها إلى لبنان ثم مصر.
وتحت عنوان «كيف سلحت أميركا صدام» ذكرت صحيفة «صنداي هيرالد» البريطانية أنّ إدارتي ريغان وبوش الأب قامتا ببيع أسلحة كيميائية وبيولوجية لصالح نظام صدام، مشيرة إلى أنّه في بداية التسعينات أكد محققون من الأمم المتحدة ومجلس الشيوخ اكتشاف 71 ترخيص بيع منحتها وزارة التجارة الأميركية لشركات قامت بتوريد مواد كيميائية وأنظمة صواريخ لصالح نظام صدام، بما في ذلك كميات من مواد «الأنثراكس» و«السالمونيلا» و«بروسيلا مليتنسيس» و«فيروس حمى النيل الغربي» وغيرها، بيعت لصالح مسؤولين عراقيين كبار ما بين العامين 1985 و.1989
ولعلّ ما يؤكد صحة تصريحات بريماكوف وغيره من الكتاب الذين ربطوا ما بين جرائم «الطاغية» ومخطط «الإمبراطورية» هو الإسراع في إصدار حكم الإعدام في قضية «الدجيل»، وتنفيذه حتى قبل الانتهاء من قضية «الأنفال»، التي كانت ستفتح بالتأكيد «الملف الكيميائي» لصدّام وربما ملفات أخرى.
يقال إنّ التاريخ يكتبه المنتصر. فهل بات على العراقيين انتظار هزيمة الأميركيين كي يكشفوا النقاب عن أسرار محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم والاغتيالات التي طالت الشيوعيين والبعثيين والأكراد ورجال الدين الشيعة والسنّة، والحرب العراقية ـ الإيرانية وغزو الكويت، وصولاً إلى ليلة سقوط بغداد... والأهم تحديد ما إذا كان إعدام رئيسهم «استشهاد بطل» أو «نهاية طاغية» أو «تصفية عميل»؟
وسام متى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد