مسائل الاعتقاد ... في جدوى الحوار بين المسلمين والمسيحيين وفعاليته

27-12-2008

مسائل الاعتقاد ... في جدوى الحوار بين المسلمين والمسيحيين وفعاليته

يمكن للتدين أن يكون جسراً آمناً للبشر إلى الله، كما يمكن أن يكون نصلاً حاداً في يد الشيطان. إنه الجسر إذ يذكي مشاعر الأخوة بين المؤمنين، وملكة الفهم بين المتخالفين، مؤسساً المثل العليا للضمير الإنساني، كالعدل والحب والخير. وهو النصل إذ يثير الأحقاد بين المتخالفين في الشرائع والملل، أو الفتن بين المتباينين في الطوائف والنحل، وذلك عندما يتسم بطابع عنصري، أو يفشل المؤمنون به، في تفهم منطقه الذاتي، وتجسيد عبقريته الخاصة.
وجد الدين حقاً لتمكين الروح الإنساني من تلقي الضياء الرباني، ولكنه لن يحقق هذه الغاية إذا لم يعكس بأمانة وتسامح، ذلك التنوع القائم بين البشر من عباد الله سواء بين المؤمنين بالتوحيد أو بينهم وبين غيرهم، ما يتطلب توافر ثلاثة شروط أساسية:
الشرط الأول: قبول كل طرف للآخر كما هو، واحترام فهمه لذاته، لأن التقارب المنشود، على صعيد الأديان، يبقى محدوداً، إذ يصطدم كل دين منها بنقاط جوهرية صلبة، لا يتنازل أي طرف عنها أو يرضى المساومة عليها. وعلى هذا يبقى كل جدل حول العقيدة غير مجد، وكل محاولة للتوافق إزاءها فاشلة بل عبثية، فمن الممكن أن يقدم معتنقو أي دين حيثيات تؤكد أن دينهم أرقى من الأديان الأخرى على نحو يفرض عليها القبول برؤيته، لكن ذلك لن يكون ملزماً لمعتنقي تلك الأديان بحال، بل سيجدون لديهم ما يحاجون به على أن دينهم هو الأرقى في مواجهة مخالفيهم. ولا مجال هنا للموضوعية لأن لها حدوداً، خصوصاً في مواجهة الإيمان الذي يفرض على الإنسان رؤية خاصة للحقيقة قد ترجع الى جوهر تكوينه، بل قد تكون هي التي حفزته إلى هذا النوع من الإيمان أصلاً، بمعنى أن ذوقي «العقلي» الخاص وعمق إيماني بحريتي على المستوى الوجودي، وحبي لعلاقة مبدعة وأفق مفتوح بين الله وعباده، هو الذي حفزني إلى عشق دين معين كصورة سامية وشفافة للعلاقة بين السماء والأرض، لم أكن لأومن بأي دين لو لم أجد مثالها. قد يكون هذا صحيحاً، ولكنه يبقى حقيقة جوانية لا أستطيع أن اقنع بها أحداً، فمن السهل على معتنق دين آخر أن يكذبني، ولا أستطيع أمامه دفعاً، كما أستطيع أنا أن أكذبه، فلا يستطيع معي دفعاً.
فضلاً عن ذلك، هناك علاقة خاصة جداً، ليس فقط روحية بل عقلية بين الإنسان وإيمانه، فقد يكتشف المؤمن في تاريخ دينه بعض الثغرات التي لم يكن يتمنى وجودها من دون أن يخرجه ذلك من إيمانه طالما أنه مقتنع بالمكون المركزي فيه، وقد يجد هو نفسه من الرغبة والقدرة، ما يغريه بنقد الثغرات، غير أنه يستشيط غضباً لو أن أحداً من معتنقي دين آخر تطوع بهذا النقد. وهنا تبدو العلاقة بين المؤمن وعقيدته أشبه بعلاقة الأم بطفلها، الذي قد يكون عابثاً أو مهملاً أو عنيفاً أو منطوياً أو غير ذلك من الصفات التي تستحق نقد الأم وشكواها منه إلى الكثيرين ممن يحيطون بها، وربما جاوزت حد النقد إلى التوبيخ والعقاب البدني، غير أن هذه الأم لا تتصور أن يقوم أحد عنها بهذه المهمة المؤلمة، ولو في أدنى حد لها، فإذا حدث ذلك وجدت منها غضباً، لم تكن لتتوقعه. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بإدراك لجوهر العلاقة بينها وبين طفلها فهي علاقة وجودية بالكامل، تقع داخل الذات لا خارجها، ومن ثم فلا موضوعية تجاه مثل هذه العلاقة التي تكشف عن فطرية الأمومة، كما تكشف علاقة الإنسان بدينه عن فطرية الإيمان. فماذا يعني هذا على الصعيد العملي؟
يعني هذا للجانب المسلم أن يتقبل المسيحيين كما هم. كما يعني الأمر نفسه للجانب المسيحي.
والشرط الثاني: أن يفرق كل مشارك في الحوار الديني بين رسالته الإيجابية، وبين حججه الدفاعية، لأن المشكلة الحقيقية في قضية الحوار لا تكمن في أن أحداً يرفضه، بل يرحب الجميع به، لكن كل طرف يفهمه على طريقته، ويسعى من خلاله إلى تكرار الحجج الدفاعية لدينه ضد الأديان الأخرى، فيبدو الأمر كرغبة إما في منع معتنقي هذا الدين أنفسهم من الخروج عنه، أو دعوة أصحاب الدين الآخر إلى الإيمان به، ما يحفز معتنقي الأديان الأخرى إلى صوغ حجج مضادة، ودفاعات موازية، حيث يميل كل طرف إلى تسفيه ما لدى الطرف الآخر من حجج، وإزهاق روح الحوار بتأثير هاجس مزيف هو أن تخلي البشر عن دفاعاتهم ربما يعني التخلي عن دينهم، وهذا غير صحيح، لأن الناس لا تتخلى عن دين وتدخل ديناً آخر بعد دراسة موضوعية لمزايا كل منها، وإنما لأن الدين الجديد يبدو قادراً على تقديم شيء خاص قادر على إلهامهم، فيما يعجز الدين الآخر عن تقديم هذا الشيء.
وباختصار، لا أحد يملك الحق، مثلاً، في أن يقول لمحاوره: ديني أفضل من دينك بدليل أنني لم أتخل عنه. لأن مثل هذا القول ينطوي على كثير من سوء الفهم، ويقضي على حال التسامح. بل يمكن له أن يعدد ما يراه عميقاً وملهماً له في عقيدته، ويوجه حديثه إلى الطرف الآخر قائلاً: تلك هي الرسالة الإيجابية لديني وأنا أرى أنها رسالة حق، ولذا أؤمن بها. كما يجب أن يكون قادراً في الوقت نفسه على سماع ما يقول هذا الطرف الآخر عن إيجابيات دينه، بل تأمله عميقاً، لا من أجل الإيمان بدين الآخر، بل من أجل التعلم منه، فالمؤمن قد لا يستطيع أن يغير إيمانه، وإنما يستطيع أن يضيف إليه ما يزيده تألقاً، وهذا هو المعنى العميق لتوالي الشرائع في إطار التوحيد.
وربما أضفنا ملاحظة مهمة، هي أن ثمة حواراً داخلياً يجري داخل كل طرف كما يدور بين أي طرفين متحاورين أيا كانت نقاط تمركزهما. ولا نقصد بالداخلي الحوار بين الطوائف المختلفة للدين الواحد، بل داخل الطرف المحاور نفسه من الدين نفسه والطائفة ذاتها. هذا الحوار الداخلي قد يوازي، وقد يسبق الحوار الخارجي مع الآخرين، وقد يجعل طرفاً ما أكثر قبولاً «داخلياً» لما يطرح الطرف الثاني، لكنه لا يتسرع في «إظهار» قناعاته الإيجابية، قبل أن يفحصها على نحو أدق، أو يختبرها عملياً، وقد يكون الحوار نفسه هو اللحظة المناسبة لاختبار هذه القناعات، ومن ثم لا يجب على الطرف الثاني تعجل الردود، أو استخلاص نتائج سريعة، فيبدي مزيداً من الصبر والتفهم لإنضاج قناعات الطرف الأول، ومساعدته على إظهارها للعلن، لأن المطالبة السريعة بالحسم قد تؤدي إلى قمع القناعات بين المتحاورين قبل نضوجها، وإلى ردود فعل سلبية تعوق بناء التوافق.
أما الشرط الثالث: فهو التوافق على أجندة أهداف مشتركة تتميز بالعمق والإيجاز يأمل ممثلو الأديان المتحاورة في إنجازها لمصلحة الإنسانية. ذلك أن مواجهة تحدٍ مشترك هي أفضل السبل لتحقيق التكتل والتضامن بين الكيانات الاعتبارية مثلما بين الأشخاص الطبيعيين. وبقدر ما أن الحوار لا يكون ممكناً إلا في إطار القبول الصادق بالاختلاف العقدي، فإنه لن يكون فعالا إلا بالتوافق العميق حول قضايا كبرى ذات طابع إنساني بين المتحاورين، بحيث تستوعب هذه القضايا جهادهم الإنساني، وتكون بمثابة غاية لكفاحهم الروحي. فهنا يمكن تحويل النظر عن تصور يقصر التبشير على العقيدة ويوجهه بالضرورة نحو غير المؤمنين بها، إلى تصور جديد يمتد بالتبشير إلى فضاء المثل العليا المشتركة في الأديان جميعاً على نحو يستوعب كفاح المؤمنين بها، ويضعه في خدمة الإنسانية كلها من مؤمنين بهذا الدين أو غيره، أو حتى من غير المؤمنين.
وأعتقد أن ثمة قضيتين رئيسيتين يمكن أن تكونا هدفاً لكفاح المؤمنين، خصوصاً بالمسيحية والإسلام:
الأولى هي مواجهة الأخلاقية الوضعية «الشاذة» التي تسعى إلى هدم الأخلاق الكلاسيكية، وتأسيس أخلاق ما بعد الطبيعة وبالأدق «الشذوذ الجنسي» و «زواج مثليي الجنس» ما يمثل تحدياً لمركزية الله في الوجود الإنساني يستلزم تضامن جميع المؤمنين بالأخلاق السماوية. ذلك أن الشذوذ قضية بالغة الخطورة على المصير البشري من زاويتين، أولاهما كونها ضد حال العمران الذي تنميه العلاقة الجنسية الطبيعية أو العابرة للنوع؟ وثانيتهما كونها تهديماً للأسرة التقليدية كنواة أثبت التاريخ أنها الأفضل لبناء المجتمعات الإيجابية، وذلك لأنها الأكثر قدرة على رعاية الروح الفردية وتنميتها في شكل متوازن، وعلى بناء الأخلاقية الحسنة التي تصون قواعد الاجتماع البشري وقيمه الأساسية ضد سطوة وغرائز المنفعة، وأيضاً على زرع جذور الانتماء للجماعات الأكبر، بدءاً من القبيلة وحتى الإمبراطورية، وذلك لما تحوزه من ملكات التعاطف والحميمية ومن ثم التوازن النفسي والترابط الاجتماعي.
والثانية هي تأمين السلم العالمي ضد نزعات الهيمنة على المصير الإنساني، وأبرزها الآن نزعة التطرف التي تفرزها بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة بمعدل يفوق المجتمعات الأخرى، بفعل أزمتها البنيوية مع التحديث. وكذلك نزعة السيطرة التي جسدتها مراراً أوروبا الغربية ونزعتها الكلاسيكية إلى التمركز حول نفسها، كما تجسدها راهناً الولايات المتحدة بأيديولوجيتها المحافظة، وميولها الإمبراطورية العنيفة المستجدة على التجربة الأميركية، فكلتا النزعتين تلقي بظلالها الثقيلة على المستقبل الإنساني وتسد الطريق إلى مثُل الحب والتسامح والرحمة والعدل، حيث تتبدى التكنولوجيا هناك، والدوغما هنا، صانعتين للثراء والدمار معا‏‏ً، بينما تنكمش الحكمة، التي صاغت معنى التاريخ وألهمت مسيرة تقدمه الطويلة، في ركن بعيد لعله ثنايا عقول الحكماء أو حشايا صدور المؤمنين ليشتعل العالم بلهيب انتقام ونزعات ثأر لن تتوقف قبل أن تصحو الأديان صحوة رحمة... تلك هي المهمة الأساسية لأي حوار ديني أو ثقافي.

صلاح سالم

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...