مريم العذراء في القرآن الكريم
ان بشارة الملاك لزكريا ولمريم، وسؤال التعجّب عند كليهما، والوقوف إلى جانب العاقر (زوجة زكريا) والعذراء (مريم) أمام الناس أو القوم الذين اتّهموهم بالسوء، ومواجهة زكريا قومه ومريم قومها وهي تحمل الطفل، كل هذا يشترك فيه النصّان الإنجيلي (إنجيل لوقا) والقرآني في ما اعتدنا على تسميته قصّة البشارة للأم وطفولة المولود المحتفى به.
لذلك لا يستبعد ان يحتفل مسلمون ومسيحيون بعيد البشارة كما حصل لأول مرة في تاريخ لبنان، اذ احتفل الفريقان في الخامس والعشرين من آذار (مارس) في كنيسة مدرسة الجمهور التي تقع على إحدى تلال لبنان الخضر، وبمبادرة سلام لا سابقة لها عنوانها «معاً حول مريم». دخل شيوخ الإسلام بجببهم وعمائمهم وكذلك دخل آباء المسيحية بأثوابهم السوداء وقبّعاتهم السود ليحتفلوا بشخصية كتابية مسيحية مسلمة تشكل لقاء كبيراً بين المسيحية والإسلام.
لم نرَ بين الشيوخ شيخات لكن بين الآباء الإكليروس كان هناك راهبات ذلك ان هذا الاحتفال الكبير استدعته امرأة وأم قادرة ان تجمع فوق الخلافات العقائدية واللاهوتية لتقدم السلام على كل اعتبار. ولعل الشعار الذي صممته إلسا مهنا لمريم (عليها السلام) في زرقة اللون السماوي، وانحناءة وجه مريم على شكل هلال الإسلام لتمثل ضعة الأم الحنون التي تحضن البشرية وتلفها، ما يدل على هذا الاعتراف المتبادل بالتراث المريمي بين المسيحية والإسلام. «معاً حول سيّدتنا مريم» كان شعار الاحتفال الذي نظمته رابطة قدامى مدرسة سيدة الجمهور للاحتفال مسيحيين ومسلمين بعيد البشارة وكأنها بشارة إلى اللبنانيين برسالة سلام، رسالة حب وتعايش وحوار وانفتاح وصفح واحترام.
في مناسبة البشارة هذه قدّم المسيحيون والمسلمون كل بحسب تقليده الشعائري مما عنده من تعبيرات فنية وطقسية. فقدم الشيخ محمد البيلي تلاوة من سورة مريم لمقطع البشارة، وقدمت مدائح نبوية ونشيد ابتهالي في الطقس البيزنطي من قانون الأكاتستس. ومن الجانبين كانت هناك شهادات حول دور مريم في حياتهم، وتواشيح لميلاد المسيح (عليه وسلم) ومحمّد (صلى الله عليه وسلم) شارك فيها الجميع وقوفاً مردّدين «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله... يا حبيب الله يا أنبياء الله». وتصدرت أغنية مريم «صلاة التعظيم» المعروفة بـ «الماغنيفيكات»، في أكثر من سياق في الكتيب الذي أعدّ لهذه المناسبة.
وهذا الصلاة في الإنجيل بحسب لوقا، ولوقا يعدّ الأكثر حساسية للفقير والمتواضع والمرأة في مخزون الذاكرة الكتابية، يغرز في وجدان المرأة لما له من بهجة للوالدة التي تشعر بالولد في أحشائها. وقد سيق نشيد مريم في الكتب (ص 22) بتقطيع جميل حافظ في عربيته على الغنائية في ابتهاج الروح «بالقدير ورحمته إلى أجيال وأجيال للذين يتقونه». فالفرح بقدرة الله على قلب الموازين قد صور في «تشتت المتكبّرين بأفكار قلوبهم، وحط المقتدرين عن الكراسي، ورفع المتواضعين، إشباع الجياع خيراً والأغنياء أرسالهم فارغين...».
نجد ما يماثل هذه الغنائية للاحتفال بقدرة الله على العمل في الوضيع والفقير والمرأة نجده في القرآن الكريم في مقدّمة سورة آل عمران التي تأتي كتمهيد لقصّة طفولة مريم ونذر أمها لها للخدمة في المحراب. وهي: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير انك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتُخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب» (آل عمران، الآيتان 26 و27).
يلاحظ من القراءات والمدائح والأناشيد خارج النصين الإنجيلي والقرآني التركيز المسيحي على النصوص المريمية مقابل التركيز الإسلامي على النصوص التي تتصل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) والأنبياء، ولا تتصل بمريم وهي المحتفى بها، وهذا لا يدل على نظام أبوي غافل بالضرورة، بل يعود ربما إلى أمرين، إما ان التراث الإسلامي الشعائري يفتقر إلى مدائح تخص مريم أو ان المشاركين قد نسوا هذا الجانب الغني في الإسلام بخاصة عند المتصوّفين والمتصوّفات. لنسمع مثلاً ما قدّمه شارل بيغي (1873 – 1914) كمدخل إلى سرّ الفضيلة الثانية حيث قال ان «هناك حالات لا يكفي فيها الشفعاء والقدّيسون»، في هذا الحالة على المرء ان يتشجع، ويلجأ إلى الوحيدة التي تتمثل بها سلطة الأم. يلجأ إلى التي في منتهى الطهارة لأنها أيضاً منتهى الطيبة والعذوبة. إلى التي في منتهى النبل، لأنها أيضاً منتهى الرقة واللطف. إلى التي في منتهى الغنى والثراء، لأنها أيضاً منتهى الفقر. إلى التي في منتهى السمو، لأنها أيضاً، منتهى الحدب على آلام الناس. إلى التي في منتهى العظمة والكبر، لأنها، أيضاً منتهى التصاغر. إلى التي في ريعان الشباب لأنها أيضاً، ملء الأمومة.
لقد استمر شارل بيغي على هذا المنوال في عرض صفات القدرة على الجمع بين الثنائيات المضادة ليقول ان الأم هي التي تجمع بين التضاد وهذا من أجمل ما قرأت من نصوص مريمية ومن قيم تعبّر عنها الأنثى والأم التي عرفت كيف تستسلم إلى أمر الله.
ان هذه المناسبة التي أقيمت احتفالاً بالبشارة إلى الأم بالولد والتي فرح بها المسلمون كفرحة أهل المولود لا تقوم إلا ببيئة كبيئة لبنان، بيئة لا تلغي الآخر بل تسترحمه وترجوه وتصلي معه وتناشده. ففي هذه اللحظة الزمنية ليس غريباً على أبناء وبنات هذا الوطن الحزين والخائف ان يُستدعى التراث المريمي للالتفاف حول المرحمة بيننا والرحمة بنا عسى ان يعود الوطن إلى سلامه وطمأنينته كما عادت مريم بعد الرحلة حاملة الطفل بيدها.
حسن عبود
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد