مخالفات البناء في دمشق تفرض نفسها مجدداً
لم تمض أسابيع ثلاثة.. أربعة وربما أقل على زيارتي لأحد أقاربي في حي من أحياء دمشق المخالفة وكررت الزيارة ولدى وصولي إلى بوابة الحارة ظننت نفسي أخطأت الدخول في الحارة إلى المنزل الذي أقصد،.
فقد فاجأني التغيير الحاصل للبيوت والأبنية على جانبي الشارع فالمنازل بأسطحها المتواضعة الارتفاع والتي عرفتها لسنوات مضت في حي القدم لا تزيد عن الطابق الأرضي أو الثاني على الأكثر أصبحت بعد أيام شامخة وما كان مخصصاً كفسحة لجلسات العائلة تحول إلى حوانيت وبقاليات وما يزيد الدهشة أن تلك المنازل الطابقية وبالسرعة القصوى شغلت بساكنيها والبقاليات استثمرت وكأنها شيدت منذ سنوات.. فكيف مررت تلك الأبنية المخالفة، ليس للقانون فقط، بل لمختلف الشروط الإنشائية والفنية.؟!
فأين رقابة الضمير الذي يعلو كل رقابة؟ وبعضها مررت بإغماض العيون عنها تحاشياً من ردود الأفعال السلبية وتجمهر الناس لئلا تستغل لأفعال تزيد الموقف مأزقاً وترويجاً لإشاعات مغرضة...
والسكن من اهم المتطلبات الأساسية لكل مواطن وهو أغلى أنواع السلع التي يقتنيها أو يشتريها.. شريحة واسعة من المواطنين لاسيما ذوي الدخل المحدود والفقيرة ليس لديها القدرة على شراء منزل ضمن مناطق التنظيم فالخيار الوحيد أمامها المناطق العشوائية ومتاهاتها والأبنية المخالفة فيها وفي ظل ارتفاع أسعار العقارات يبقى المنزل حلماً صعب المنال أمام الكثيرين.
تجار وأفراد وجدوا الفرصة مناسبة لاستغلالها والقيام بأبنية مخالفة منهم من يتاجر بها ومنهم وجد حلاً لمشكلة سكن العائلة.. إذاً المخالفات واقع فرضته عوامل وظروف معينة، فما مصيرها في ظل قانون قضى بإزالتها وتسويتها وكيف ستعالج؟
استغلال للظروف.. وتجاوز للقانون
رغم صدور قوانين عديدة للحد من انتشار ظاهرة بناء ابنية مخالفة لاسيما في الاحياء الشعبية واتخاذ مختلف التدابير من قبل الجهات المسؤولة في قمع المخالفات إلا أنها شهدت في الأشهر القليلة الماضية حركة نشطة بشكل غير مسبوق وفي وضح النهار على مدار الساعة حيث تم استغلال تلك الظروف التي مرت بها البلاد ضاربة عرض الحائط بكل الأنظمة والقوانين الصادرة الخاصة بأنظمة البناء فالمرسوم رقم 59 للعام 2008 القاضي بهدم وإزالة وتسوية مخالفات البناء حدد في تعليماته التنفيذية في المادتين الأولى والثانية إزالة الأبنية المخالفة ومخالفات البناء كلها مهما كان نوعها بالهدم وترحيل الانقاض على نفقة من كانت المخالفة لمصلحته... كما تم تحديد العقوبات والغرامات المالية وعقوبة الحبس، وتتضاعف عقوبتا الحبس والغرامة في حال تكرار المخالفة...
جولة ميدانية
الأبنية المخالفة في مدينة دمشق التي بنيت مؤخراً توزعت في مختلف الأحياء وأكثرها كان ضمن مناطق السكن العشوائي وجزء منها ضمن مناطق التنظيم السكني.
وفي جولتنا الميدانية في عدد من أحياء دمشق رصدت واقع هذه المخالفات والتقطت صوراً لمباني ومحال في أماكن متعددة...
أبنية منها سكني ومنها تجاري وجاهزة إما للسكن أو معروضة للبيع أو للإيجار وبالنسبة لأسعارها فتضاهي أسعار العقارات في مناطق التنظيم أو الصادر بها صكوك استملاك...
ليس بالأمر السهل أن تدخل إلى حي يشهد حركة بناء مخالف تجري على قدم وساق ولدى أصحابها ومالكيها طرق وأساليب لا حضارية للتصدي لمن يعترضهم بل تم استئجار أشخاص لمراقبة الأماكن قيد الإعمار المخالف في حال جاءت إحدى الدوريات المخصصة لضبط مثل هذه المخالفات.
هذا ما قيل لنا من قبل أشخاص شهدوا حالات لتجمعات انتهت بمشاجرات بين عناصر الدوريات المؤازرة وبين مرتكبي تلك المخالفات..
انعدام الشروط الفنية
في منطقة دف الشوك – حي الزهور وما أدراك ما حي الزهور.. إذ ليس له من اسمه نصيب كما يظهر في الواقع ففي كل حارة وزقاق حركة البناء بكل معداتها وآلاتها لا تعرف توقفاً لأن السرعة في الإنجاز هي المطلوبة، أبنية بطوابق وصلت الستة بزمن أقل من شهرين ولا يهم إذا كانت تلك الأرض الحاملة للطوابق الستة قد خضعت لدراسة من قبل مختصين تسمح بذلك البناء أم لا..
الدلال أبو نادر تحدث لنا عن حالة لبناية من خمسة طوابق طبعاً بعد ان اطمأن لنا وعلم أننا جئنا بقصد شراء منزل ونبحث عن الأفضل بين تلك الأبنية المخالفة وقال مشيراً بيده: هذه البناية تعرضت للسقوط في الطابقين الأخيرين والسبب، كما قال، أن التاجر صاحب الشقق لم ينتظر الاسمنت حتى يجف ويتماسك البناء بشكل جيد بل قام بالبناء فوقه مباشرة ما أدى إلى انهياره وسقوطه..
اما عن أسعار الشقق في تلك الأبنية المخالفة في دف الشوك فهي غير معقولة قياساً بتواضع المنطقة وطبيعتها و... السبب، حسب رأي الدلال المشار إليه، ارتفاع أجور اليد العاملة وكذلك مواد البناء التي تضاعفت أسعارها في هذه الفترة لكثرة الطلب وحركة البناء النشيطة وعلى ذمته أنه وصل دخل عامل البيتون في اليوم إلى عشرة آلاف ل.س وهو يتدلل إذا لم يكن العمل بالحجم الذي يريده.
كما أن سعر البلوك ارتفع من 6 ليرات ثمن الواحدة إلى 20 ل.س وكذلك الرخام والبلاط وأجور العامل المختص بتركيبه ارتفع سعر المتر من 50 ليرة إلى 200 ل.س كل هذا الغلاء يستبق غلاء بأسعار الشقق السكنية والتي تراوحت أسعار المتر فيها على الهيكل من 12 ألفاً إلى 14 ألف ل.س والمحال التجارية التي بنيت على طرفي الشارع وبأعداد كبيرة بلغ سعر المحل بـ مليون ونصف المليون كحد وسطي والإيجار تراوحت أسعاره بين عشرة آلاف و12 ألف ل.س شهرياً.
فكرة كأحد الحلول
أبو محمد السهلي -صاحب محل ألبسة نسائية يشاهد بأم عينه كيف تبنى هذه المحال والشقق السكنية من قبل تجار جنوا منها أرباحاً خيالية واتهمهم بالجشع والانتهاز والفساد قائلاً:
بلدنا تعيش اليوم في أزمة والجميع يعمل لدرء المخاطر عنها والمطلوب منا جميعاً في هذه الفترة بالذات أن نعمل على الإصلاح لا الإفساد... وطرح أبو محمد فكرة للتخلص من استغلال التجار والقضاء على ظاهرة الأبنية المخالفة بتنظيم هذه الأحياء والمساحات الصالحة للاستثمار من قبل المحافظة بوضع مخطط تنظيمي لها وتسليمها لأحد المتعهدين أو المستثمرين أو شركات بناء بعد الاتفاق مع أصحابها وإقامة محاضر منظمة تحقق كل الشروط الفنية والصحية وغيرها وهذا ليس بالأمر الصعب على الدولة.
19 محلاً جانب الأوتستراد
المحطة الثانية في جولتنا الميدانية كانت في منطقة نهر عيشة وكانت أكثر المخالفات بإضافة بناء طابقي على السطح ممن استغل الفرصة ليحل مشكلته في السكن لأحد أفراد أسرته ولكن بعض هذه الأبنية المخالفة سبب الإزعاج للآخرين فلم تراع حقوقهم وحرياتهم الشخصية كما حصل مع السيدة هويدة في بيتها في شارع الجويزانية عندما قام أحدهم باستغلال المنور المشترك وهو فتحة خاصة للتهوية وفتح نوافذ تطل على منزلها وهو مخالف للقانون كما قام بتمرير أنابيب الصرف الصحي من الفتحة المذكورة وحولت مشكلتها إلى القضاء... وبالانتقال إلى طريق الأوتستراد على محاذاة منطقة نهر عيشة حيث شيدت محال تجارية خلال شهر ونصف وبالعدد بلغت تسعة عشر محلاً على صف واحد مساحة المحل بين 35- 50م2 وهي حالياً جاهزة للبيع والإيجار...
أبو فراس- أحد مالكي تلك المحال تحدثنا معه لعلمه أننا نبتغي شراء أو استئجار محل وقال: اتفقنا مع أولاد عمومتنا على تقسيم الأرض التي ورثناها إلى حصص لبناء هذه المحال وعلى حد قوله إذا لم نستثمرها ونبني عليها فإن الدولة ستضع يدها عليها وتحرمنا منها بعد أن تعوضنا بمبلغ لا يعادل ربع قيمتها بينما الآن وبعد بنائها نبيعها بسعر المتر 70 ألف ل.س أي باختصار المحل ثمنه بين 2.5-3.5 ملايين ل.س حسب المساحة إذا أردتم استئجاراً بـ25 ألف ل.س شهرياً.
أما سطح المحال فهو مشروع آخر للمخالفة، فقد خصص إما لبناء منازل او مكاتب وعيادات ويتراوح سعر المتر على السطح بين تسعة وعشرة آلاف ل.س.
وجائب استبدلت ببقاليات
سكان حي التضامن مسبقة الصنع أزعجهم كثيراً ما حصل من تعديات وتجاوزات على الوجائب المحوطة بالمباني واستغلالها ببناء غرف أو محال وبقاليات وهذه التجاوزات تبعتها عدة مخالفات غيرت من الشكل العام للمحضر وبالتالي سمح للبعض في الطابق الأعلى بتوسيع البلكون على امتداد أسطح تلك الغرف أو المحال الجديدة وهكذا حال الغير وما حدا أحسن من حدا.. والنتيجة إلغاء الوجائب التي خصصت كحديقة منزلية صغيرة لزراعة بعض الشجيرات والأزهار فحرمت ساكنيها متعة المنظر الجميل إضافة إلى تشويه وتغيير في شكل البناء وجماليته بل تحولت هذه الأسطح إلى مكبات للنفاية والأوساخ وسمحت لمن تسول له نفسه بالتسلل إلى تلك الأسطح للدخول إلى تلك المنازل.
بعض عمليات الهدم
لمعرفة واقع هذه الأبنية المخالفة ومصيرها وكيف سيتم التعامل معها كان لنا اللقاء التالي مع المهندس بشار اسماعيل عبيدة -مدير دوائر الخدمات في محافظة مدينة دمشق وقال: إن كل المخالفات التي تم بناؤها بعد صدور المرسوم 59 للعام 2008 سوف يتم هدمها مهما كانت طبيعتها لأنها تعتبر مخالفة للقانون بعد صدوره ومنذ ايام قليلة قامت المحافظة عبر ورشاتها والكادر المخصص لها بعملية هدم لعدة أبنية مخالفة في مناطق متعددة من المدينة وهذا موثق بالصور.
الغرامة ضعف المنفعة
أما المخالفات التي تم تشييدها قبل صدور المرسوم المذكور فستتم تسويتها حيث يدفع أصحابها غرامات مالية حسب المخالفة ومساحتها وحسب المنطقة وكل منطقة لها سعر والغرامة هي ضعف المنفعة ومثال: إذا كان سعر متر الترخيص في منطقة ما محدداً بـ1000 ل.س فإن الغرامة ستكون ضعف المنفعة أي 2000 ل.س وهكذا كما أن تحديد المخالفات يتم باللجوء إلى التصوير الجوي المسبق لدى المحافظة.
دراسة لتعديل المرسوم
وقال المهندس عبيدة هناك لجنة مشكلة من قانونيين وفنيين من مختلف المحافظات تجتمع برئاسة معاون وزير الإدارة المحلية وهذه اللجنة مهمتها دراسة المرسوم 59 للعام 2008 تعمل جاهدة لمحاولة تعديل المرسوم أو التعديل في أحد مواده أو فيما إذا كانت الحاجة إلى مرسوم جديد واقتراحات جديدة وهذه الفكرة جاءت نتيجة كثرة عدد الأبنية المخالفة لاسيما في الأشهر السابقة بسبب الظروف الاستثنائية والخاصة بالبلد. وأكد المهندس عبيدة أن دوائر الخدمات على مستوى المدينة تعالج الأبنية المخالفة وفق المرسوم القائم طالما لم يصدر تعديل فيه والظروف الاستثنائية التي مرت بها بلدنا لا تبرر هذه الأبنية المخالفة لأن القانون لم يصدر لظروف استثنائية لذلك فإن رؤساء الدوائر في كل منطقة يمارسون عملهم وصلاحياتهم في معالجة كل مخالفة وفق الإمكانات المتاحة وحسب الظروف التي تمكنهم من عملهم وبالتالي دورهم لم يكن غائباً في الأشهر السابقة كما اعتقد البعض من ضعاف النفوس ممن استغل الوقت وعمل على تجاوز القانون ولدينا أربع عشرة بلدية تقوم بتسجيل عدد من المخالفات بشكل يومي.
نفقات التسوية تتبع الشاري
وقال المهندس عبيدة: إن تجار البناء الذين يتاجرون بأرواح الناس ببناء أبنية لم تتم فيها مراعاة الشروط الفنية والإنشائية والمعمارية بسبب السرعة في بنائها وبيعها كشقق سكنية أو محال للاستثمار فعندما تتم تسويتها وفق القانون فإن كل الشروط المترتبة على البناء المخالف من تراخيص ورسوم وضرائب سيدفعها مالك الشقة أو المحل وليس التاجر الذي باعها.
أما بالنسبة إلى تخديم هذه الأبنية فإن معظمها يقع ضمن مناطق السكن العشوائي والتي هي مخدمة مسبقاً بالماء والكهرباء...
والتوسع... يأخذ شكلاً شاقولياً وفي نهاية العام الحالي ولأول مرة سيصدر مخطط عام لمدينة دمشق وهو الآن في مرحلته الأخيرة وهذا المخطط ينظم حاجات المدينة لمدة 25 سنة قادمة.
وأخيراً نقول: الأبنية المخالفة بمجملها خسارة لجميع الأطراف، خسارة في البناء لعدم تحقيقه المواصفات والشروط الفنية اللازمة للبناء وخسارة في التكاليف جراء التصدع والانهيار وأيضاً خسارة للدولة في حالة التهرب من التراخيص والرسوم والضرائب.. فمتى تجد المشكلات الناجمة عن هذه المخالفات حلولاً منصفة للجميع...؟
المصدر: زهور كمالي - تشرين
إضافة تعليق جديد