مأساة النقب
في الأعوام الأخيرة، اشتدت حدّة مصادرة إسرائيل لأراض واسعة في النقب، حيث تقع 45 قرية غير معترف بها تحت خطر الهدم أو المحو. هناك، في النقب، تأخذ ذكرى يوم الأرض طابعاً أشد قساوة. 45 قرية من دون خط ماء ولا كهرباء، لكنّها تؤكد، على لسان مسنّ، أن “على هذه الأرض، أناس يريدون العيش”.
الحافلة تشق طريقها ببطء نحو قرية النصاصرة، غير المعترف بها طبعاً، في النقب. أطفال ينتظرون عند مدخلها. يبدو المشهد غريباً بالنسبة لهم؛ الحافلات لا تدخل القرية كل يوم. تأتي فقط لدى التضامن مع أهل القرى. والتضامن قليل عادة، أو على الأقل لا يرتقي إلى مستوى التحديات، تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة.
الحافلة تتوقّف بعد صعوبة السير. تفتح أبوابها. يخرج منها العشرات. عرب وأجانب ويهود يساريون. هناك مواجهة الحقيقة، حياة وكأن تاريخها يعود إلى القرن السادس عشر.
الناس في النصاصرة لا يعيشون حالة خاصة. على العكس تماماً. هم نموذج لـ80 ألف فلسطيني بدوي يعيشون في 45 قرية غير معترف بها على امتداد النقب. كلهم يناضلون من أجل البقاء.
والبقاء في النقب ليس شعاراً يكتب على لافتات ترفع أثناء التظاهرات الاحتجاجية، إنما “يعني أن تستيقظ يوماً من نومك من دون انتظار البلدوزر وقوات الشرطة لتهدم بيتك”، يقول أبو محمد، من سكان القرية. ويضيف آخر: “هذه القرية، استيقظت قبل فترة وجيزة، ووجدت أوامر هدم معلّقة على كل أبواب البيوت، هذه هي الحياة”.
المتضامنون يتجوّلون بين بيوت القرية، يطّلعون على أحوالها. يتحدثون إلى الأهالي. الصحافيون الغربيون مصدومون من كل المشاهد، لا يعرفون عما يسألون. تراهم يتجمعون حول شيخ يشرح لهم عن “مأساة النقب”، لا يعرفون من أين يبدأون وأين سينتهون. يريدون السؤال عن كل شيء؛ عن الأرض، والخدمات الطبية، وعن المراكز المعدومة، وعن إنذارات الهدم. عن كل شيء.
يقول صحافي أميركي “لم أعرف أنّ هناك أناساً يعيشون بهذه الطريقة في القرن الحادي والعشرين”، مضيفاً “لن أكتب تقريراً، سأخرج فيلماً عن النقب”.الناس في النصاصرة مثلهم في كل القرى غير المعترف بها، يعيشون الحياة بشكل مؤقت. النظر في عيونهم يعني الكثير. الواقع الأسود أفرز حالة حالكة السواد. هنا، في هذا المكان، يقول مدرّس في القرية “لا يتحدثون عن نسبة متعلمين، يتحدثون عن أفراد”. ويضيف، بلهجة معتادة على الواقع، “هنا، لا يتحدثون عن نسبة البطالة، يقولون الأغلبية”. المعايير هناك تختلف. يعيشون على هذه الأرض “لكن عيشنا بلا أمل”.
التجوال بين البيوت في النصاصرة لا يبعث على الكثير من الأمل. الدولة لا تزود القرية بالماء ولا الكهرباء. الناس يعتاشون على المولدات، وخط المياه يمتد خلسةً من إحدى قرى الكسيفة المجاورة “المعترف بها”.
وإذا كانت الكهرباء معدومة، فإن الحديث عن خدمات طبية أشبه بالنكتة السوداء الثقيلة. “نسافر 15 كيلومتراً على الأقل لأول صندوق مرضى”، يقول حسين النصاصرة، أحد سكان القرية. إلا أنّ الناس مصممون على العيش، فترى مجالس آيلة للسقوط، وعليها صحون لاقطة حديثة. تناقضات من فعل الواقع.
قبل فترة وجيزة، استفاق أهالي النصاصرة ووجدوا إنذارات معلّقة على مداخل كل بيوت القرية. كانت الأوراق إنذارات قبل الهدم، تطالب من خلالها المؤسسة الإسرائيلية بإخلاء البيوت وهدمها لأنها “ليست مرخصة”.
الإنذار يطالب أصحاب البيت بهدم بيتهم بأنفسهم، وإلا “سيدفع بنفسه تكاليف الهدم في حال لم يفعل”.
“تخيّل”، يقول أحد السكان “كيف سيكبر هذا الطفل عندما يشعر بأنّ البيت الذي ولد فيه مهدّد بالهدم ووالده لا حول له ولا قوة... كيف سيكبر؟”.
الإنذارات ليست مجرد أوراق، بل هي إنذارات حقيقية، وعلّقت في كل القرى غير المعترف بها. وقبل فترة، هدمت السلطات الإسرائيلية عشرات البيوت، وشملت هدم قرية بأكملها في طويل أبو جرول. لكنّ الناس مصممون على البقاء. “فليهدموا، لن أتزحزح. سيهدمون. سنبني وسنعيش في خيام. لن نترك الأرض لهم”ــ يقول أحدهم.
أهل هذه القرى يعيشون في أماكنهم منذ الانتداب البريطاني وقبل قيام دولة إسرائيل. حالتهم كحال البدو في كل مكان. يعتاشون من الأرض وحلالها. العيون تربطهم مع أرضهم. لا أحد يحمل خريطة لمعرفة موقع أرضه. “يكفي نظرة واحدة إلى الأرض وأعرف حدودي بدقة”، يقول أبو عطا من سكان القرية. لكنّ المؤسسة الإسرائيلية تعتبرهم “غزاة” على هذه الأرض وتطالبهم بترك أراضهيم، مستغلة اعتمادهم على العادات والتقاليد وثغر في مستندات قديمة، فلم يسجل البدو ملكية هذه الأراضي في المؤسسات الإسرائيلية، ما استغلته إسرائيل ضدهم. “كيف يمكن أن أكون غازياً على أرضي، هؤلاء لا يخافون الله، أنا الغازي؟ أنا هنا قبل أن تكون الدولة، كيف سأكون الغازي؟”.
المتضامنون اجتمعوا مع الأهالي في خيمة كبيرة. ألقى الوجهاء كلمات هناك ندّدوا من خلالها بالسياسة الإسرائيلية تجاه النقب. كلّهم أجمعوا على أنّ النقب “تحت مطرقة السلطة”. اليساري اليهودي قال بلغته العبرية “هناك مخطط لهدم 42 ألف بيت عربي في النقب”.
“نحن معكم”، قالت المتطوعة الأميركية بلغتها العربية المكسّرة، “عندما أعود إلى أميركا سأكون سفيرتكم هناك، سأشرح عن أوضاعكم”. صفّقوا لها تصفيقاً حاراً، هكذا العرب في كل مكان، يحبّون من يتحدث العربية بلهجة مكسّرة.
على الرغم من المأساة، البدو في النقب يتصرفون كما يتحدّث التاريخ عنهم. لا يثقلون على الضيوف. المناسف الضخمة تتسلل نحو خيمة التضامن. “لن يخرج أحد من دون غداء” قال أهل القرية. كانت الأجواء مفرحة ومخلوطة بنوع من المأساة. لكن الجميع شارك.
النهار ينتهي. المتضامنون يستقلون الحافلة. يلتقطون صور الأطفال لـ“الذكرى”. الحافلة تسير باتجاه تل أبيب، ومن ثم إلى حيفا. 4 ساعات من السفر المتواصل تتوسطه محطات “سيجارة وقهوة”. ومع كل قهوة، كان النقب يختفي عن الحديث لتحتل مكانه أحاديث بعيدة عن المصادرة والتهجير والأوضاع المذرية. حديث، لا يظهر منه أنّ هؤلاء المتضامنين واجهوا أصعب حقيقة مصادرة في إسرائيل 2007.
من الجدير ذكره أن ما يقارب الـ170 ألف فلسطيني يسكن في النقب، و80 ألفاً في القرى غير المعترف بها، الممتدة على طول النقب. هدمت السلطات الإسرائيلية أكثر من 110 بيوت في العام الأخير، وآلاف البيوت لا تزال مهدّدة بالهدم. المرافعة القانونية لا تنتهي. العزاء الوحيد “أن أوامر الهدم جماعية”، يقول أحد السكان، مضيفاً “في مثل هذه الحالة المعارضة تكون أقوى”.
الحكومة الإسرائيلية رصدت مئات ملايين الشواكل للبدء في عملية “تطوير الجليل والنقب” عن طريق إقامة قرى “معترف بها يتم من خلالها تجميع العرب على أقل مساحة أرض في مقابل تركهم البيوت التي يسكنونها”.
في عام 2003، أقامت إسرائيل سبع قرى إضافية لتجميع العرب، وقد رأت السلطات أنّ حدود هذه القرى “حدود زرقاء”، ومن يسكن في خارجها يُعدّ خارجاً على القانون.
فراس خطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد