كذب الأطفال ليس خطراً
يقول المثل الشعبي الشائع «الكذب ملح الرجال». وإذا كان ذلك صحيحاً بالفعل، فإنه يتم على الأرجح عن «سابق إصرار وتصميم»، إذ أن القائمين به أشخاص ناضجون يدرون بلا شك ماذا يفعلون ويمكنهم بالتالي تمييز الصواب من الخطأ. ولكن ماذا عن الأطفال الصغار الذين يكذبون؟ ما هي الأسباب التي تدفعهم إلى ذلك، وكيف يمكن التعامل معهم؟
تُعتبر ظاهرة كذب الأطفال، في حقيقة الأمر، شائعة جداً، وهي لا تعني بالتأكيد أنهم عندما يكبرون «سيحترفون» الكذب، كما يخشى الأهل. وقد يظهر الكذب أو ينتشر بين أطفال العائلة الواحدة، التي يمكن أن ينقسم أبناؤها وبناتها بين من يلجأ إلى الكذب وبين من يتفاداه. وهذا تحديداً ما لاحظته الجدة «ماريان» بين حفيدتيها اللتين تعيشان في عائلة تُعتبر مستقرة اجتماعياً.
قلقت الجدة بعد أن لاحظت أن حفيدتها كايلي (4 سنوات) تلجأ إلى الكذب في كثير من تصرفاتها، على اختلاف صارخ عن شقيقتها الكبرى سوزان (9 سنوات). وما أقلق الجدة أن كذب كايلي لا يقتصر على الأشياء «البريئة» التي غالباً ما يبتكرها الأطفال أو تكون من نسج خيالهم، بل صار يشمل نواحي مختلفة من واقع حياتها اليومية. ففي البداية كانت تقول إن هناك زرافة «خضراء» في غرفتها وتنام معها في سريرها، في مشهد خيالي قد يكون مرتبطاً بقصص شبيهة عن حيوانات تألف الإنسان. لكن ما لبث هذا الكذب «الخيالي» أن أصبح يشمل الكثير من تصرفاتها. صارت تقول لوالديها، مثلاً، إنها غسلت يديها (بعد تناول الطعام أو دخول الحمام) في حين أنها لم تفعل ذلك. كما أنها صارت «تطوّر» كذبها من خلال «اختلاق» أمور لم تحصل، كأن تقول إن أصدقاء للعائلة دعوهم لقضاء وقت في منزلهم، أو أن أمها خرجت لرؤية صديقتها، في حين أن ذلك ليس صحيحاً.
ربما بالغت الجدة في قلقها على حفيدتها بأن طلبت استشارة من طبيبة نفسية لتشخيص حالة كايلي، وهو أمر لا تلجأ إليه الغالبية من الأهل الذين يشعرون بالقلق من كذب أبنائهم لأنهم يعتقدون أنهم سيتجاوزون هذه المرحلة عندما يبلغون مرحلة النضج.
والدراسات النفسية التي أُعدت في شأن هذه الظاهرة توضح أن هناك أسباباً مختلفة للكذب بين الأطفال. فقد يكون الدافع مثلاً «خوف» الطفل من عواقب عمله، وهو أمر قد يعني أن القواعد التي يعتمدها الأهل في المنزل قد تكون بالغة الصرامة بحيث يخشى الطفل قول الحقيقة لذويه. كما أن الطفل قد يلجأ إلى الكذب ليحمي شخصاً آخر، كأن يدافع شقيق عن شقيقه، مثلاً. وقد يكون الكذب ناجماً فعلاً عن «خيال» (كقصة الزرافة في غرفة كايلي)، أو عن رغبة في تفادي القيام بعمل ما (كالادعاء بتنظيف أسنانه كي لا يفعل ذلك عندما يُطلب منه). وأحياناً قد يكذب الطفل من دون قصد، فيقول شيئاً من دون إرادته وقبل التفكير كالقول فوراً «لست أنا»، عندما يُسأل عمّن كسر شيئاً ما؟ وأحياناً قد يكذب الطفل لمجرد أنه يسعى إلى جذب اهتمام الآخرين به.
وتلفت العالمة النفسية البريطانية البروفسورة تانيا بايرون، في مقالة أخيرة لها في جريدة «التايمز» اللندنية، إلى أن «معظم الأطفال يكذبون - فذلك جزء طبيعي من عملية نموهم، وهو يتم لأسباب عدة مختلفة». لكنها تشير إلى إن «الكذب بين نسبة صغيرة من الأطفال ربما يمثّل وسيلة للتعاطي مع قضايا بالغة الصعوبة، وقد يكون علامة تشير إلى بداية مشاكل عاطفية ونفسية وسلوكية على المدى الطويل». وتؤكد أن أسباب الكذب بين الصغار عموماً «يمكن فهمها بسهولة والتعامل معها بحسب سن الأطفال ومرحلة تطورهم... وإن الكذب في العادة ليس مشكلة خطيرة إلا إذا صار أمراً اعتيادياً أو اضطرارياً يقوم به الطفل مع نضوجه».
ولا شك، في هذا المجال، أن هناك ضرورة للتمييز بين «الكذب» الواضح وبين «خيال» الأطفال. فقصة الزرافة في سرير الطفلة تعبّر بلا شك عن خيال أكثر مما تعبر عن كذب، كما أن وظيفة البالغين حول كايلي هي أن يبدأوا في مساعدتها كي تميّز بين ما هو واقع وما هو خيال. وعادة ما يتم هذا الأمر عندما يبلغ الأطفال سن الخامسة أو السادسة من عمرهم حيث يبدأ الشعور بماهية الأخلاق وتمييز الصحيح من الخطأ بالتكوّن.
لكن بايرون، وهي أستاذة جامعية أيضاً، تشدد على ضرورة إيلاء عناية أكبر بالأطفال إذا ما استمروا في الكذب بعد هذا العمر، وتقول إن من الضروري معرفة هل يقومون بذلك رغبة منهم في تجنّب عقوبة ما أو لجذب انتباه الآخرين إليهم.
وهي تنصح، في هذا الإطار، بأن يلجأ الأهل إلى الإشادة بقول الطفل الحقيقة، من دون اللجوء إلى فرض عقوبة عليه إذا ما قال كذبة تنم عن «ابتكار» واضح. ومرد التحذير من العقوبة هو الخشية من أن يندفع الطفل إلى الكذب مجدداً لتفاديها. ولذلك فإن النصيحة التي يمكن أن توجّه إلى الأهل هي أن يوضحوا للطفل أن كذبته لم تنطل عليهم من خلال إظهار الحقائق – أمام الطفل – التي تؤكد عدم صحة ما يقول. كما أنه يمكن أن يكون من المفيد تكرار قراءة قصة الراعي الكذّاب الذي كان دائماً يصرخ في الليل طالباً المساعدة لأن الثعالب تأكل دجاجه، وعندما جاءت الثعالب فعلاً لتأكل دجاجه صار يصرخ طالباً المساعدة فلم يصدّقه أحد... وهذه قصة تساعد الأطفال على تمييز الأمور المرتبطة بالكذب والصدق. في أي حال، ربما سيكون هناك من يجادل بأن ليس هناك من مبرر كي يقلق الأهل على أطفالهم «الكذابين»، ليس لأنهم سيكبرون ويعون عيب الكذب... ملحاً كان أو سكّراً.
رانيا كرم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد