كتاب من تأليف الاختصاصي البريطاني هولفورد 10 أسرار عن الصحة المثالية
لو كانت سهولة العرض وخفّته وسلاسته مقياساً للكتب العلمية المفيدة، لنال كتاب اختصاصي التغذية البريطاني باتريك هولفورد «الأسرار العشرة للأصحاء 100 في المئة» The Ten Secrets of 100% Healthy People مرتبة متقدّمة بينها. وصدر الكتاب باللغة العربية أخيراً بترجمة تيا معوض عن «الدار العربية للعلوم- ناشرون»، ويقع في 320 صفحة من القطع الوسط، ضمنها 14 صفحة للمراجع باللغة الإنكليزية، ما يسهّل الوصول إليها عبر الإنترنت. وعلى رغم شهرة هولفورد الواسعة في الغرب، إلا أن أطروحاته بقيت دوماً موضع نقد علمي.
وضمن النقد المــُدقّق، ظهر سؤال عن مدى كفاءته علمياً في تناول الموضوعات التي يتصدى لها في كتبه (قرابة 29 كتاباً) ومقابلاته التلفزيونية والإعلامية المتنوّعة. إذ تأخّر في نيله البكالوريوس في جامعة يورك حيث درس علم النفس التجريبي، وليس التغذية ولا الغذاء. لم ينل هولفورد شــهادة في التغذية إلا من مؤسسة أنشأها بنفسه! حملت تلك المؤسسة اسم «آيون» ION، اختصاراً لعبارة «إنستيتيوت فور أوبتيموم نيوتريشن» Institute for Optimum Nutrition. كما نال تكريماً من جمعية الـ «ساينتولوجي» Scientology (ترجمتها «العلموية»)، وهي مؤسسة موضع رفض علمي تماماً، بل لا تملك صلة بالعلم سوى التشابه اللفظي. يكفي القول أنها مصنّفة ككنيسة، بمعنى أنها مذهب له رؤية معينة للأناجيل، وليست مؤسسة أكاديمية أو علمية.
المعلوم أن «ساينتولوجي» أسسها رون هوبارد، الذي لم يكن لديه سوى خلفية متواضعة علمياً، بالقياس الى كونه مؤســساً لمذهب، إضافة الى أنه كتب كمية هـــائلة من الكتب التي يفترض أنه تناول فيها شؤون الحــياة كـــافة (أو تقريباً)، بما فيها الصحة والغذاء. ثمة مفـــارقة أشد قوة في علاقة هولفورد مع كنيسة الـ «ساينتولوجي»، تتمثّل في موقعهما من علم النفس، إذ درس هولـــفورد علـــم النفس في جامعة يورك، وهو جزء أساسي من خلفيته الأكاديمية، فيما تنفي جماعة الـ «ساينتولوجي» علم النفس أصلاً، ولا يعترفون بوجوده إطلاقاً. ربما تقاطع هذان الطرفان بفعل ميل هولفورد للتركيز على دور الغذاء في العلاج النفسي، وعدم سلوكه الطرق العلمية الموثقة في هذا النوع مــن العـــلاج. أكثر من ذلك، تسبب تطرّف هولفورد في اتخاذ الغذاء علاجاً للمرض النفسي، بأبعد كثيراً من الوقائع العـــلمية عن هذا الأمر، بكثير من النقد له.
نقد نسي نفسه!
إذن، على خلفية مضطربة علمياً، يقترب كتاب «عشرة أسرار» من موضوع الصحة التامة، مع ملاحظة أن الجسد بات موضع شغف متصاعد في الأزمنة المعاصرة. لا يعني ذلك أبداً أن الكتاب لا يحتوي معلومات مهمة، بل العكس ربما كان أكثر دقّة. إذ ترد فيه معلومات ثرية عن الغذاء والمآكل والهضم، إضافة الى تفاصيل عن طُرُق التوصّل الى تغذية متوازنة.
لكن، ثمة إشكال في المنهج الذي يتّبعه في مقاربة العيش المُعافى. فمثلاً، يوجّه هولفورد نقداً لميل الطب المعاصر إلى الاختزالية («مينيمالزم» Minimalism)، بمعنى الإفراط في التركيز على بعد مفرد في صنع صورة الصحة والمرض عند الإنسان. يعطي التركيز على دور الأدوية في علاج الأمراض مثالاً واضحاً عن هذا الميل الاختزالي.
الأرجح أن ثمة ما يبرر هذا النقد. في المقابل، تبرز إشكالية عويصة في البدائل التي يقترحها هولفورد لتنوب محل الطب الأكاديمي الغربي. واستباقاً، يجيد هولفورد التفكير نقدياً في ما يقوله الطرف الآخر، لكنه ينسى استعمال أداة النقد أثناء التفكير في الحلول التي يقترحها بنفسه بديلاً عما انتقده.
ثمة مثال واضح عن هذا الأمر، إذ يرى هولفورد أن الجسد مزوّد بآلية لتخزين ما يفيض من الطاقة التي يحصل عليها من الغذاء، على شكل دهون. ويرجح أن هذه الآلية جاءت من منحى تطوري، بمعنى أنها خدمت الجنس البشري في أزمنة كان توافر الطعام يتقلّب بشدّة بين الوفرة والندرة. وقد غابت الندرة عن معظم المجتمعات الحديثة، خصوصاً في الغرب.
في المقابل، تستمر آلية تخزين فائض طاقة الغذاء على هيئة دهون، ما يعتبر عنصراً مهماً في انتشار ظاهرة البدانة المفرطة، مع ما يرافقها من اضطرابات صحية. من دون كبير مجازفة، من المستطاع القول بأن هذا الرأي يلاقي قبولاً علمياً واسعاً. وكذلك الحال بالنسبة الى القول بأنه إذا جاع الإنسان، يلجأ جسده الى آلية تفكيك الدهون المختزنة للحصول على الطاقة. لكن، من يقول أن تناول الدهون غذاء، في هذه الحال، يؤدي إلى تدعيم آلية استهلاك الدهون؟ يورد هولفورد هذا الرأي استنتاجاً (أو تخميناً)، لكنه رأي لا يقف على أرضية علمية صلبة بشكل كافٍ. يزداد الأمر تعقيداً إذا تذكرنا أن الدهون تحتوي على أعلى كمية من السعرات الحرارية («كالوري» Calorie) بين أنواع المآكل كافة.
سيولة العلم وتغيّره الدائم
في سياق قريب من هذه الأمور، لا يتردد هولفورد في امتداح نظام التغذية المعروف باسم «نظام أتكنز» Atkins، على رغم النقد العلمي الواسع الذي واجهه من قِبل المجتمع العلمي في الغرب.
وبقول آخر، يجيد هالفورد العثور على نقاط خلافية في المنهج الطبي الأكاديمي، ويمعن في نقدها بطريقة متمكّنة. لكنه ينـــتقل بصـــورة شبه فـــورية الى بدائل لا تستند إلى دراسات علمية واسعة ومتكررة وتأكيدية.
استطراداً، يجدر التذكير بأن نقد هولفورد للطب الحديث يغفل أمراً أساسياً أيضاً هو سيولة العلم وتغيّره. يحضر الى الذهن فوراً قول المفكر الألماني كارل بوبر بأن وقائع العلم قابلة للنقض دوماً، وأما ما لا يمكن نقضه فهو ليس علماً. وبقول آخر، لا تجدي الإشارة الى «تناقض» في ما قاله العلماء قبل زمن عن موضوع معيّن بالمقارنة مع يقولوه عن الموضوع عينه راهناً. ليس هذا تناقضاً، بل مساراً علمياً يتقدّم أكثر كلما استطاع أن ينقد نفسه أكثر وأن يثبت خطأ (أو صدق) ما يُنظر إليه كحقائق ثابتة. لا تحضر هذه الصورة المتغيّرة عن العلم في «أسرار» هولفورد، التي هي تحليلات عن أشياء يراها أساسية في الصحة وعافيتها.
أخيراً، ربما يُظلَم الكتاب (ومؤلّفه تالياً) ما لم يقل أيضاً أنه ينجح في صنع مقاربة مختلفة نوعياً عن صحة الإنسان، عبر تركيزه على الصحة وهجرانه لنموذج المرض. للتفاصيل، يرى الكتاب عن حقّ أن الطب الحديث بات أكثر ميلاً لدراسة الصحة عبر التعرّف الى المرض، وليس عبر محاولة تقصي أسباب وجود صحة سليمة ومعافاة ومقاوِمة للمرض.
مثلاً، تُشدّد الدراسات الجينية كثيراً على تقصي الجينات التي تتصل بظهور أمراض كثيرة، بداية من ألزهايمر وباركنسون ووصولاً إلى القابلية للإصابة بالتهابات جرثومية. في المقابل، ثمة عدد أقل كثيراً من الدراسات التي تحاول البحث عن الجينات التي ترافق تمتع الإنسان بصحة جيّدة، وكذلك الحال بالنسبة الى تفاعل هذه الجينات مع أنماط الحياة التي توصف بأنها صحيّة وسليمة.
الأرجح أن يجد القارئ العربي كتاب «عشرة أسرار» مفيداً ومغرياً ومتحدّياً، إضافة الى كونه سلساً وسهل القراءة والهضم. وربما زاد في جاذبية الكتاب الميل المتزايد عربياً للتشكيك بالأدوية من جهة، والاعتماد على ما يُسمى «الطبيعي» بما فيه «الطب البديل». ويحتاج هذا الأمر الى نقاش أكثر تفصيلاً.
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد