فكر عربي إسلامي
قرأت أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، واطلعت على الكثير من الأفكار الناصرية. قرأت عن الاشتراكية والرأسمالية. كثيرة هي المحطات الفكرية التي وقفت بها. انحزت للحداثيين ضد التقليديين. وقفت ضد النظم الاجتماعية النمطية انتصاراً لأفكار تشي غيفارا، وأخيراً اكتشفت أن سيمون بوليفار أقدر على البقاء لأنه تمسّك بهويته الوطنية.
في مرحلة أواخر الأربعينات وإلى منتصف الستينات، كان انحياز أصحاب الفكر القومي إلى الهوية العربية واستبعاد الهوية الإسلامية أمراً تطلبته المرحلة، لكن المرحلة الحالية تختلف سياسياً وفكرياً واقتصادياً عن تلك المرحلة، وبالتالي يصبح الانحياز إلى الهوية الوطنية تفريطاً بالهوية الإسلامية، وترك قيادة العالم الإسلامي لغير العرب الذين شرفهم الله بأن اختار آخر أنبيائه منهم، وأنزل القرآن بلغتهم.
على منظّري الفكر القومي أن يعيدوا النظر في مشروعهم سياسياً وفكرياً واقتصادياً، بعد أن أصبحت الوحدة العربية حلماً صعب المنال، وانتهت الاشتراكية على عتبات منظمة التجارة العالمية، عليهم أن يبتكروا فكرهم الخاص بما يتلاءم والمرحلة الراهنة، لا أن يتمترسوا خلف أفكار وضعت في مرحلة سابقة. الفكر - كل الفكر - ليس نصاً مقدساً لا يمكن البناء عليه، بل إن عدم البناء عليه ينم عن عجز فكري، والأمة العاجزة فكرياً لن تجد لها مكاناً بين الأمم.
في عقود الأربعينات والخمسينات وإلى أواخر السبعينات، كان التمترس خلف جدار العروبة أمراً فرضته تلك المرحلة، حيث نهاية الدولة العثمانية الإسلامية وتقاسم القوى الاستعمارية "تركة بني عثمان"، لكن هذا التمترس لم يعد مجدياً في العقدين الأخيرين من الألفية الثانية، حيث برزت قوى تسعى لاختطاف قيادة العالم الإسلامي منّا لأسباب لا تخفى على لبيب.
الفكر الإسلامي الذي يعمل على صياغة مشروعه الفكري بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، هو الآخر لا يصلح لمرحلة أصبحت فيها الهوية العربية قاب قوسين أو أدنى من الضياع. الفكر الإسلامي المتشدد يريد إسقاط الأنظمة القائمة من دون أن يقدم لنا مشروعه الفكري البديل. النموذج الطالباني الذي قدمه التكفيريون على أنه النموذج الإسلامي للحكم مشروع جاهلي متخلف، لم يتمكن من قراءة المرحلة وفق التطورات السياسية والفكرية والاقتصادية على الصعيد العالمي، وكذا فشل مشروع "دولة العراق الإسلامية"، ومشروع "حماس" على رغم أن قادة الأخيرة على قدر كبير من الدراية بالمعطيات، لكنها الأيديولوجيا قاتلها الله.
نحن نعيش اليوم في عالم التكتلات. لماذا لا نسأل أنفسنا: كيف اتفقت هذه الكتل وهي جاءت من خلفيات فكرية مختلفة؟ وكيف تمكّن الأوروبيون من توحيد قارتهم وهم شربوا من أحواض مختلفة؟ نحن اليوم لسنا في حاجة إلى الوحدة بقدر ما نحتاج إلى توحيد أفكارنا، فقد نخرج من تلاقحها بمشروع فكري يرضي الجميع، ويضمن استمرار أمتنا على قيد الحياة.
إن لم يجلس الإسلاميون العرب والقوميون العرب والليبراليون العرب والعروبيون العرب إلى طاولة واحدة، ويقرروا الوصول إلى أرضية فكرية مشتركة يكون الأساس فيها الوطن، فستختفي أوطان عربية كثيرة من الخريطة، وتصبح شعوب كثيرة أثراً بعد عين.
الإسلام دين لكل زمان ومكان. هذا أمر مُسلّم به. لكن "أسلمة" الأفكار أمر آخر نحتاج لأن نتوقف عنده طويلاً. ما يحصل الآن أن القوميين يسعون إلى "قومنة" أفكارهم كما يفعل الإسلاميون، الذين كلما انحازوا إلى التشدد انحاز نظراؤهم إلى التغريب. هذا سجال سيطول إن لم يسع كل طرف إلى التغلب على ذاته بإجراء مراجعة فكرية لكل طروحاته وفق المعطيات المتاحة، مع مراعاة المتغيرات التي طرأت على العالم، خصوصاً متغيرات ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عندما "زل" لسان بوش وقال وهو يُبلغ الخبر: "إنها حرب صليبية". الصليبيون لن يفرقوا بين الإسلاميين والقوميين، ولا بين الليبراليين والعروبيين.
العروبة لا تنفصل عن الإسلام، وخلافنا الفكري بين تيارين، الأول: ينادي بالعروبة، والثاني: بالإسلام، والسياق المنطقي لحل هذه المعضلة يكمن في العمل على خلق "فكر عربي إسلامي"، يكون منطلقه الأساس الحفاظ على الهوية الوطنية.
ميسر الشمري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد