عندما تدفع نقداً ثمن التأخير عن الموعد
كان كل شيء يسير بشكل مقبول مع هذا الدكتور الألماني، إلى أن ظهرت تلك الورقة التي دفعتها الممرضة السمينة بوجهي، طالبةً مني أن أوقع عليها. «اقرأها قبل أن توقع!»، قالت وهي ترمقني بنظرة غريبة، كانت أقرب إلى شزرة التأنيب التي يوجهها المعلمون الصارمون إلى التلامذة.
في القراءة الأولى لم أفهم فحوى المكتوب. نظرت إليها مجدداً، فسألتني إذا ما كان النص واضحاً أم تقوم هي بشرحه. رفضت خجلاً، ثم أعدت القراءة ثانية. فتأكد لي ما كدت أحسبه مزاحاً ثقيلاً. كنت ألهث لكي أكون على الموعد. غير أن الساعة كانت تجاوزت الخامسة بـ17 دقيقة، وذلك حسب هاتفي المحمول معي. لكن الدكتور غادر العيادة بعدما انتظرني عشرين دقيقة، كما قالت الممرضة. لا شك إذاً أن ساعتي ليست «مظبوطة» على ساعة الألمان الدقيقة.
عندما استغربت أمر مغادرته بهذه السرعة، أجابت أنه لم يكن يوجد مرضى آخرون، فذهب. لم أصدق ما حصل. فعيادة هذا الدكتور لطالما كانت تعج بالمرضى، وكنت أنتظر أحياناً قرابة نصف ساعة أو أكثر. مرة برّر الدكتور هيلمش لي أمر هذا التأخير بأن الدقة في المواعيد، في عيادات الأطباء، غير ممكنة عموماً، لأن تحديد موعد كل شخص يعتمد على تقدير الطبيب للمدة التي سوف يستغرقها العلاج، غير أن بعض الحالات قد لا تسير وفق التقدير المرسوم.
غير أن العجيب في أمر الدكتور هيلمش هو لجوؤه إلى هذه الطريقة الغريبة أو المنفرة بعض الشيء في التعامل مع مرضاه..
في الورقة التي وقعت عليها، ورد أن إلغاء موعد ما يجب أن يتم إخطار العيادة به قبل 24 ساعة من تاريخه، وأن أي تخلف أو تأخر عن الموعد من قبل المريض، سوف يترتب عليه إلحاق ضرر أو تعطيل لسير عمل الطبيب، الأمر الذي يوجب على الموقع دفع سبعين يورو كتعويض عن ذلك.
«اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب!»، يقول المثل العربي. هكذا تراني فعلت. إذ شكوت وجع ضرسي لكثير من المجربين العرب الذين أعرفهم. هؤلاء أجمعوا على ضرورة استبدال هذا الطبيب المتزمت والألماني جداً، بآخر عربي، يكون التعامل معه مريحاً في موضوع المواعيد. راحوا يشيرون عليّ بهذا الدكتور العربي الممتاز، أو ذاك المتساهل جداً: تذهب إليه متى تشاء، وبلا موعد. وإذا ما أخذت عنده موعداً فأنت لست مضطراً للالتزام به، وسوف لا يتوقف كثيراً عند أي تبرير تقدمه.
قبل أن أغادر عيادة الدكتور هيلمش، كررت اعتذاري للممرضة عن التأخير، محيلاً السبب لأصولي العربية، التي بات كثير من الألمان يضربون المثل بها: «موعد عربي أم ألماني؟». صار العرب مشهورين كذلك بقدرتهم البارعة في مسألة اختلاق الأعذار والحجج لتبرير كل تأخير أو تخلف عن موعد، إلى درجة أن أحد الألمان قال لي، «أنتم تتقصدون أن لا تلتزموا بالمواعيد.. لربما تشعرون بنوع من العار أو النقيصة في ذلك!».
والواقع أن نظرة مشوبة بنوع من الازدراء أو الاستخفاف يبادل بها كثير من العرب هنا، تلك القلة من العرب «المتألمنة» كما يسمونها، نظراً لتقليدها الألمان في موضوع الالتزام بالوقت والمواعيد، فيتندرون على «أبو محمد»: «هه، أنظروا لقد أصبح ألمانياً بعدما حصل على الجنسية، وصار يهاتفك قبل يوم من زيارته لك، ويسألك عن الوقت المناسب للزيارة!».
أما غسان، أحد أشهر الفتاكين بالمواعيد من العرب، وأحد أبرع المبدعين في اختلاق الأعذار والتبريرات، فهو صاحب نظرية طريفة في هذا الصدد. مفاد النظرية: عليك أن لا تقطع أي خيط أو صلة مع أي كان، فلا أحد يعرف أين يكمن رزقك. وعليه، تُقطع المواعيد هكذا جزافاً، وغالباً ما تكون مسايرة للوقت الذي يقترحه الطرف الآخر. وأغلب هؤلاء هم من تجار السيارات الذين يوزعون بطاقتهم على السيارات المتوقفة على جنبات الشوارع أو عبر إعلانات في الصحف أو الإنترنت. وعندما يتصل أحد الزبائن الألمان سوف يسرع التاجر العربي فوراً لملاقاة المتصل، وغالباً ما تأتي هذه الأمور على حساب مواعيد تكون معطاة لآخرين في هذه الأوقات. أمّا حسام احد المشهورين أيضاً، بتخلفه المتكرر عن مواعيده، فيحيل الأمر إلى عامل النسيان: «أهم أمر في الوصول على الموعد، هو تذكر الموعد نفسه».
ممرضة الدكتور هيلمش قالت بعد أن لاحظت تذمري وامتعاضي: «كان عليك أن تتصل، فالرقم موجود على بطاقة الموعد!». في الحقيقة لم يخطر الأمر ببالي، فأنا أنظر للعلاقة مع الدكتور على أنها علاقة مغفلة وعامة ولا تسمح لي بتصرف كهذا من قبلي، فالاتصالات الهاتفية تتم بين المعارف، على ما أحسب.
في الموعد الثاني، حرصت أن أكون على الموعد بالتمام. قدرت الوقت اللازم للوصول الى العيادة بـ15 دقيقة، وانطلقت. راحت الدقائق تفلت مني الواحدة تلو الأخرى. بدا أنها تفعل ذلك عن عمد، تريد مناكدتي أو زيادة توتري. كان الخوف من الموقف الحرج ومن قصة السبعين يورو يزيدان في معدلات الأدرينالين.
لا، لن أنجح أيضاً هذه المرة. سحبت الورقة التي عليها الموعد. طلبت الرقم: «آلو أنا فلان». كانت الممرضة السمينة نفسها تمسك بطرف الخط من هناك: «نعم يا سيد، ما الأمر؟». «أنا في الطريق وقد علقت بزحمة السير». لم أكن ببراعة الآخرين لهذا تراني لم أقع على غير هذه الحيلة المستهلكة، فأطلقت الممرضة ضحكة ساخرة، وقالت: «حسناً.. الدكتور لا يزال هنا، يمكنك القدوم».
ناجي طاهر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد