عن العاشقين.. وعيدهم

11-02-2009

عن العاشقين.. وعيدهم

الصورة لـ: ـمصطفى جمال الدين هو يشرح عن تلك »المأساة« الجميلة.. وهي تردّ

تتكشف الأسرار والخبايا الماضية في هذا العيد. فترفع الستائر عن تلك الذكريات، جارفةً معها »الألحان« العاطفية التي عزفت كرنة سحرية، على أول وتر من »قيثارة« القلب البشري. وفي الـ»الفلانتاين«، ترسو سفينة »الكرم« في ميناء الهدايا من الطرفين: الحبيب والحبيبة. فتكون تارةً هدية رمزية، أو باهظة الثمن نوعاً ما، أو تجديد لـ»نبتة« الحب تلك.. أو تكون اعترافات »جنونية« بين الحبيب وحبيبته تارةً أخرى.
في الآتي، مناظرة مقتضبة بين شاب عشريني وحبيبته. يبوح كل منهما للآخر عن تفسيره للحب، وكيف يرى »روميو« (هو) »جولييت« (هي). فيسترسل الأول بتعليقاته المختلفة عن آلهة الحب »عشتروت« - كما يصفها - حبيبته، تاركاً لها الأبواب المشرعة على حق التعليق والرد.

 

عندما تأتي أبتسم، نبتسم، ويبتسم العالم كله
عندما صمــتا، كــانت تنــظر إلى عيونه، وتحاول أن تجد شيــئاً ما. أي شيء يمــكن أن يقودها إليه. أو أن يقــودها بعيــداً عنه. قالت إن عينيه سوداوتان، وهي تحبهما عسليتين. وقالت إن شعره بنيّ وهي تحبه أسود، وبشرته بيضاء وليست حنطية.
عندما صمتا، كان يــردد أنها كــثيرة الــكلام، كثيرة الحركة، كثيرة النظام، شعــرها مجــعد، قامــتها قصـيرة، عيونـها سوداء وهو يـحبها عسلية.
كان هذا لقاءً أول. انتهى بجملة من نوع: »أنا أحترم صداقتنا كثيرا«.
[[[
»الصداقة« التقت مرة ثانية، لتتبلور.
اختلفا بين الفتوش والتبــولة، النسـكافيه والقهوة، ميلان كونديرا وخوسيه ساراماغو، عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، ريما خشيش ولينا شماميان، أنجيلينا جولي وشارون ستون، مايكل شوماخر ورايكونون.
[[[
في اللقاء الثالث، بعد أسبوعين سألها:
- قهوة؟
- سادة، أجابت.
- الشِعر؟
- العاميّ، أجابت.
قالت، وقال هو في وقت واحد: طلال حيدر.
وجدت ما تبحث عنه.
في اللقاء العاشر أو الحادي عشر، اتفقا على التالي: أم كلثوم، ريما خشيش، أنجيلينا جولي، المطر، التبولة، القهوة، ومؤكد ساراماغو. وبقي كل ما تبقى.. عالقاً.
في اللقاء الثاني عشر، شربا القهوة. مشيا على طول شاطئ صور، وقرآ ما يحفظان من الشعر.
انتهت السهرة عند أذان الصبح. وبقي طلال حيدر يحرك يده وحيداً على الرمل، وكأن بعلبك كلها تلوح في أفق كفه.. وبقي ينمنم:
مشتاق../ إيديّي غـمر مفــتوح متل النون/ معجّل.. متل جملة ما فيها سكون/ ولا بنهدى/ والوقت ما عنده وقت ينطر حدا/ يمكن أنا مجنون/ هيّ/ متل شي خط بريشة قصب/ وهوّ / متل حرف العرب..
[[[
مضى على اللقاء الأول أشهر ثلاثة. عادت فيها مراراً إلى دفتر يومياتها، وكتبت:
»يغير قناعتي، وكأنه يعيد كتابتي. يجدد ما ظننت أني حذفته من نفسي. أحب العيون السود، لا بأس بالبشرة البيضاء، أحب عندما يبالغ بقص أظافره، أحب عندما يناديني »بسينة« (قطة)، أظن أني..«.
[[[
كانت تريد أن تأخذ وقتها في التعرف إليه. كانت تريد أن تتململ به. كانت تريد ان تعطي نفسها فرصة أخيرة لئلا تحبه. لئلا تنهض في صباح كل يوم وهي تشعر أنها تختنق به.. ثم يعجبها الاختناق به. كانت تحب فكرة أن تستطيع الهرب منه. كانت تحب ألا تنهض وسط الحلم لتقول له همساً، وعبر المنامات إنها له. وإنها لا تغفو إلا عندما تتخيل نفسها فوق غيمة على شكل حضنه.
ما كانت تكــترث لأي شــيء، كــانت قد تغيرت منذ مدة. كانت تسأل نفسها أسئلة مملــة ومتعبة مثل »كيف نتغير فلا يعود الانتــظار مشـكلة. ولا الملل مشكلة. ولا الرهــبة مشــكلة ولا الكــآبة الناتجــة عن كل هؤلاء مشــكلة؟ كيف نتغير كما نغير عطرنا فلا يعود للعــطر رائحـــة. يمر بجابنا ولا يلتصق بنا. يلامـس البشـرة ولا تمتصه ولا تتشربه. يتغير جلدنـا فلا يعود يعرفنا ولا يتعرف على عطورنا. تصبح الرائحة ترشح منا لا تدخل إلينا«.
[[[
كان يحب ألا يكون مرتــبطاً أبداً. كان يحب أن يشاهد فيلماً رومانسياً، ويركــز على بطــلته المثيرة.. ولا يفكر بحبيبة رسمية. كان يحب أن يكون حراً.
كان يحب أن ينظف أسنانه بهدوء، يقرأ رواية بهدوء، يكمل مشروعه بهدوء.. بلا أن تقفز هي أمام كل شيء، بين الدقيقة والأخرى. بلا أن تغتال انفراده. بلا أن تسرق خصوصيته. بلا أن يشعر فجأة برغبة بضمها. بلا أي كلام.. لا كثير ولا قليل. الكثير منه لا ينفع. فقط يريد أن يضمها. وكلما شدّ أكثر.. قال لها بهذا إنه يحبها أكثر.
قبل أن يتدخل طلال حيدر في علاقتهما، كان يتجنب أن يلامس المدينة، ويفضل أن يتخفى في ثوب مظلل، يبعده عن صخبها ونسائها وفتياتها. كان يحب أن يهرب منهن.. ولا يخرج ليتأملهن، إلا وقت تتعبه الروايات. كان يخجل.
[[[
اختلفا. الحب، الغيرة، العلاقات السابقة.
اختلفا مرة ثانية: العمل، المال، الهجرة.. لبنان
نسيا الشعر. ارتبكا. ارتفع صوتهما. عاد وغمرها. ضحكت واستكانت.
اختلفا مرة ثالثة: الأهل، الفوارق الاجتماعية، العقيدة..
انفصلا.
أشهر ثلاثة مرت.
العلاقة انتهت.
ثم التقته مرة في أحد مسارح العاصمة. قالت له إنها بخير. أوحى لها أيضا أن »كله تمام«.
عند صباح اليوم التالي عالجته برسالة قصيرة: »عريس في بيتنا اليوم«.
اتصل : سألها »تتجوزيني؟«
أجابته: »سأسأل أمي«.
قالت لها: »هو أحن رجل على وجه الأرض«.
قالت الأم »لا«.
قالت له: »أمي تقول لا«. رسمت كرزتين صغيرتين لا إراديتين فوق وجنتيها.. ذبلت برومشها القصيرة.. وقالت له »بشوفك بكرا«.
[[[
عادا
[[[
حاول أن يشرح شيئاً من هذا لصديقه. ففشل في قول غير التالي:
»تعلمني كيف أرسم رجلين لفكرة رائعة ولكن عرجاء. تعلمني كيف اصطاد فكرة حقيقية من بحيرة اصطناعية. تعلمني كيف أنتظرها وأنتظرها وأنتظرها. وعندما تأتي، تعلمني أنها عندما تبتسم ابتسم.. وبعدها العالم كله.. يبتسم«.
وقال لنفسه همساً:
»لأنها ابنة مناماتي، أريد ان أنام ولا أصحو. أريد أن أعيش بلا صوت. أريد ذاك الجنون. أريده.. هو المجنون. أريد ان أهرب من كل مرجانة تلاحقني. علني بهذه الطريقة أعيش في البين والبين. أو أنام بين أغنيات ودندنات ومووايل.
علي ان أستلقي في بيت خيالي، في بيت أفكاري، في بيت البحيرة الذي أحفظه من فيلم قديم«.
[[[
هو حبيبي.
عندما كررت هذه الجملة بصوت مرتفع، قالت »اللعنة.. والله بحبه«.. سأقول له.
[[[
هو، قال لصديقه:
صرت أقف عند محلات الفضة، أبحث عن سوار برفع خيط.. يرسم خطاً على يدها، ولا يسرق من جمالها شيء. ابحث عن سوار بحبتي خرز، تحميانها من كل عين.
صرت أقف عند واجهات محلات الأحذية، أبحث لها عن »سكربينة« زهرية ناعمة، تشبه تلك التي تلبسها »بالورينا«. وجدت واحدة، بوردة صغيرة عند الكاحل، فاشتريتها لحبيبتي الصغيرة.
في اليوم الذي بعده.. بحث لها عن قصيدة.
وجدها: فوتي على خيالي/ تا سكّر عليك/ قاعد بالمرايه/ اتنوقص علــيك/ وجّك/ سفر العسكر/ متل الخنجر/ متل القدس وعم تتــسكّر/ قوليلهن إني انا خيالن/ رح اسكن بــها النوم/ واتخايل قبالن.

جهينة خالدية

التعريف الحرفي للقلب.. جهاز لضخّ الدم إلى الجسم
هذه أكثر أيام السنة احمراراً. تكرهها. تكره حين يتشح كل ما حولها بالأحمر الدامي. ربما لأنها لم تحتفل يوماً مع أحد بهذا العيد، فهي لا تريد أن تؤمن بخصوصيته في العلاقات العاطفية.
تسير في الشوارع فتدور بها الشوارع. اللون الأحمر في واجهات المحلات التجارية يطلّ خارج إطاره الطبيعي، كأنه شيء نافر ينبض.
تحس بالدوخة. تحاول أن تثبت نظرها إلى لون لا يستفزها إلى هذه الدرجة. فتستقر عيناها باتجاه الإسمنت.
شهيق زفير، شهيق زفير.. تهدأ نفسها.
لكن ما سر هذه الكراهية للأحمر؟ أيكون لأنه لون القلب؟
لأول مرة تواجه نفسها على هذا النحو من الصراحة. صوت من الداخل يصر على الوقوف بمواجهتها فيقطع لها حبل النسيان المعلّق بعناية داخل ذاكرتها:
»أنتِ لم تحبّذي استخدام كلمة »قلب« في كلامك يوماً. في صغرك، لم تجيدي تسميع أغنية: »الله كبير وقلبي صغير وبيساع الدني كلها..«، رغم أن ذاكرتك كانت نظيفة لا تزال.
تمنيت لو أن أحداً يعين المعلمة على استكمال الفكرة: »إيانا أن نجرح قلباً لأن الله قد يكون فيه«. ربما لبدت يومها أكثر منطقية برأيك.
وكان يزعجك تكرار جملة »عليك أن تحفظي عن ظهر قلب«. تقولين من المفترض أن المعلمة ناضجة كفاية حتى تعرف أن لا ظهر للقلوب. أليس كذلك؟
وأكثر ما صار يستفزك مع الوقت هو هذا الاستخدام المفرط لكلمة »قلب« حيث اتجهت. صار »لفظاً« يقف عند طبلة أذنك قبل أن يدخل. يُفتش كأي شيء مشكوك في أمره. وكنت تفضلين لو يدخل اللفظ مع »توت..« تخفيه عن ذهنها.. أنا اذكر ردود فعلك الداخلية هذه جيداً.
»العمى بقلبه«، ياما تقال في حضرتك. كنت تسألينني مستغربة: هل رسموا للقلب عيوناً أيضاً؟ إذ يكفي أن يتمنوا للمغضوب عليه عمى النظر، فهو على الأقل أمر ظاهر لا لبس فيه«.
لون الإسمنت الحيادي لم يعد قادراً على إبعاد الذكريات. تحاول عبثاً أن تلهي نفسها بأمر أثناء سيرها. أن تهرب من المباشرة والمواجهة.. لطالما كانت بطلة في التخلص من الأفكار السيئة برياضة روحية فريدة: شهيق زفير، شهيق زفير، شهيق..
لكن الصوت ينتصب كتمثال مارد عصيٍّ على التجاوز:
»أتذكرين؟ حين قال والدك إن العشق هو أكثر الأحاسيس إيلاماً، إذ أنه يحرّك القلب، وتحريكه من مكانه يغيّر من خارطة الجسد وطريق الروح المعتادة.
فصرت مذاك تستخفين بالذين يرسمون قلوباً على كرّاسات مدارسهم. وتعتبرين تلك الأسهم النافرة من الجهتين أبرز علامة على الجروح التي تثخن القلب جراء تحريكه. بعدها صرت تكرهين هذه الكلمة أكثر حين مات والدك جراء »أزمة قلب«.. أنا آسف، لكنها الحقيقة..
ويوم سمعت أمك تهمس وهي تمسح لك على شعرك: »لا اعرف إلى أين يذهب الإنسان بعد موته ولكنني اعرف أين يبقى«، بكيت. وأدركت انك لو استفهمت فقط لجاءك الرد: »إنه يبقى في القلب«. ففضلت عدم السؤال.
وبعد الجامعة، اخترت نمط الإعلام البعيد عن الأحداث اليومية الحامية، مع أنك في بلد لا يصلح لغير ذلك. لأنك أردت تجنب الوقوف وسط حشود وإذاعة انك من »قلب الحدث«، تحدثينهم.
وحين وصفوا أحد الشهداء الشباب بأنه كان كـ»قلب النهار«، توقف زخم الخبر عند هذا الحد. هل لكل شيء قلب؟ إذاً لماذا كل هذه القسوة في العالم؟«
نعم. هي تذكر هذا السؤال جيداً.. لكن هل يريد الصوت أن تعترف له بضعفها وهي في منتصف شارع؟
هيا، ركزي. شهيق زفير، شهيق زفير.. لكن كأنما الصوت يشدها إلى الأسفل. يتصرف ضدها الآن، كأنه ليس هي، فلا يترك لها مجالاً للشهيق أو الزفير..
»أما جواب شقيقتك بأن »القلب لم يدق بعد« على سؤال الناس عن عدم زواجها حتى الآن، فكان يثير فيك السخرية. إذ كنت على يقين أن لا يد للقلب يدق بها على صدر أحد. لذا، ولذا فقط، لم تتزوج شقيقتك وهي في السادسة والثلاثين من عمرها.
ولطالما قلت إنك ستعشقين بروحك فقط. لطالما قلت إن وصفك بـ»غصة في القلب« لم يكن ليثير كبرياءك، إذ لم ترغبي يوماً بأن تسجني خلف قضبان قفص صدري إلى الأبد.
وحين كان يصفك أي احد بأنك »بنت بلا قلب« في شجار ما، لم تكن تزعجك الصفة، لأنك تعلـمت أن القلوب هي أكثر الأشــياء القابلة للانكسار.
وآمنت بالتحليل المنطقي أن القلب هو عضو وظيفي يضخ الدم إلى كافة أنحاء الجسد. وعلى ذا يقتصر دوره فقط. وأضفت إلى نظريتك، أن الحب هو نقطة في الدماغ لا علاقة لشكل القلب أو لونه بها. فتخيلت انك ترسمين مخاً وتلونين قسماً منه بالرصاص، لتبديه متقداً وتشيري إلى التماعه، ساخرة من أعداد الناس المتهافتة على شراء القلوب والأغراض الحمراء«.
وابتسمت، وهي لا زالت تسير. تذكرت ان هذا الصوت بدا قاسياً جداً حين واجهها بهذا الخطاب، العام الماضي، في مثل هذه الأيام.
فرفعت نظرها نحو الشارع مسالمة هذه السنة وغير وحيدة. ووجدت نفسها قد وصلت إلى حيث تواعدا، فهي قد مشت ما فيه الكفاية في هذا المقال..

حوراء حوماني

جدّتي وأمي وأنا.. والحب الأول
جدتي لأمي تحدثني عن حبها الأول الذي كان قبل جدي:
»آييييه، شو حبني إبن خالتي يا ستي. هو كان ببلد وأنا ببلد، روح أنا زيارة لعــندن، وبس بدي إرجع عَ البيت يمشي معي. كنا ننــزل بالوادي ونرجع نطلع لتاني جبل حتى أوصل عالضــيعة..«. تدنــدن بيتاً من العتابا، وتهز رأسها مغمضة عينيــها. أما أنا، فيرتسم في مخيلتي مشهد تلك الفتاة، دون العشرين من عمرها، تتهادى مع ذلك الشاب، بينما يتسلقان الجبل. ربما كان يمد لها يده لمساعدتها عند كل منحدر..
تقطع جدتي شريط تخيلاتي مختتمة موالها: »..قال يلي بدو يحب يثــبت عالــمحبة«، وتسر لي باسم حبيبها، همساً، مخــافة أن تســمعها أمي. أسألها بخبث: »كان يمســكلك إيدك يا ستي«، تحمر وجنــتاها خجــلاً وتنفعل ناكرةً الأمــر: »أعوذ بالــله، مرة قلّي أنه يلي بحبوا بعض بيمسكوا إيدين بعض، انا جاوبتوا انو عيب، الله بطلعنا عالنار«.. تسكت قليلاً وتضيف: »شو كنا صغار بوقتها«.
ربما هذا هو ما يسمى بالحب العذري.
تملأ الســعادة قلب جـدتي عندما تتــذكر تلك الأيام، لاعنة العمر والوقت: »حبّي يا ستي حبّي، ما في أحلى من الحب. بس حافظي على حالك«.
أمي تحدثني عن حبها الأول الذي كان قبل أبي:
»كــان في حــرب، تعرفت عــليه بالحــيّ، كــان يجــي لعــند ناس منعرفهن. بس بلشت الحرب، نحنا هربنا عالضيعة، وانقطعت أخباري، كان يجي يسأل عني ويقولولو بالضيعة«.
تلتــقط أنفــاسها، وتشعل سيجارة، ثم تتابع حكايتها: »يا الله، مثل الأفلام.. بهيدا الوقت إجيتو سفرة. صار بدو يسافر. تركلي مكتوب، وقلي انو راسلوا تنشوف شو بدنا نعمل«.
بعدها عادت أمي الى المنطقة التي كانت تسكن فيها. سألت عنه فقالوا لها إنه مسافر. لكنهم لم يسلموها الرسالة إلا بعد فترة. كانت حينها قد خطبت لأبي.
»كانت البنت تسترجي تقول مين بتحب متل اليوم! البنت اليوم بتروح وبتجي عادي، بس الحب كان إلو طعم أكثر وقيمة أكبر، اليوم صار الحب رخيص، وتمضاية وقت«.
أنا استمع لجدتي وأمي وأحدث نفسي عن الحب:
فما هو مفهوم الحب في يومنا هذا؟ أصبحت كلمة »حب« صعبة، لذلك استبدلت بمصطلح أكثر تماشياً مع العصر: »علاقة«. تسمع مثلاً: »انا على علاقة مع فلانة«. ثم تجد من يسأل: »لكن هل تحبها؟«.
إذاً، العلاقــة تحــتمل »الحب« وعدمــه في الوقــت ذاته. ربــما مجرد الهروب من فراغ الحــياة، وقد يقرر الشــخص الفــترة التي يريد أن يحب فيها، وربما لا ينتظر الفتاة المناسبة بل يكتــفي بأن تكون جميلة.
كلمة »حبيبة« صارت إلى حد ما »موضة قديمة«، واستبدلت بـ»صاحبة«. السؤال الأكثر شيوعاً اليــوم هو »بعدك مصاحب؟«. وإن زادت فترة »المصاحبة« عن الثمـانية أشهر فســيكون ذلك إنجازاً عظيماً.
أما متممات هذه العلاقة فهي عديدة: بعد يومين من الارتباط تبدأ الطقوس المرافقة، حيث يتغير أسم الحبــيب الجــديد ليصبح »بيبي« أو »حبي« أو »بايبي«. أيضاً يخصص له رنة هاتف مميــزة لرقمه، أما على الـ»فايسبوك«، فيتحول هذا العاشق على خانة الحــالة الاجتماعية، من أعــزب الى مرتبط، لتبدأ بعــدها مرحلة الصور والألبومات على شاشة الكومبيوتر المــحمول والهــاتف، ولا ننسى بالطبع الهدايا التي أصبحت من المقومات الداعمة لاستمرار العلاقة مدة أطول.
من زمن حب جــدتي الأول والوحــيد إلى زمن الغــراميات التي لا تعد ولا تحصى..
ترى، ماذا سأروي لأحفادي عن الحب في زمننا الحالي..؟

نبيلة غصين

أحب بعقلي وأغار وأخاف
القصة بدأت بالصدفة.
في ذلك اليوم الربيعي، وقــعت عيــنا العاشق على جميلته. هو أيقن بأنها ستكون غنيمته. »تلك هي التي أبحث عنها«، أردف في نفسه. لكنه في الوقت عينه، عمد إلى مساءلة ذاته عن تلك القواعد التي اكتســبها مـن تجربته العاطفية »المتواضعة«: »هل أنسى أنني من »أعداء« الحب الذي يقع من النظرة الأولى؟«.
هنيهات قليلة ويستمد إجابته من إحدى النظريات: »لا قواعد دائــمة أو جـامدة في الحب، بل هناك مصـالح مشتــركة تفــضي إلى نشوء علاقة. ولهذه العــلاقة حقلها المعجمي: قلب، موعد، شاب، فتاة، إعجاب، ارتباط، زواج، جنس، اســتقرار، انفــصال، وردة حمراء، غيرة، ارتباك، خجل، دمعة، ابتسامة..
هو يرى في الحب أنه جنون العقل وعقل الجنون. ويجزم بأن العشق كالحرب، من السهل أن تشعلها ومن الصعب إخمادها. »أنا كفتى، أحب بعقلي. وأنت كأنثى تحبين بقلبك. أصدقهما الأول، وأجملهما الثاني« يقول لها. يضيف بأن الحب - فيزيائياً - حالة مغناطيسية، تجذب روحين وتدمجهما في جسد واحد.
يعترف بغيرته الشديدة عليها: »أثــق بها جداً، لكنني، بصراحة، لا أطيق رؤية شاب آخر يتحدث معها«. يتنهد قليلاً ويردف مغمغماً: »قد يجدني البعض متخلفاً نوعاً ما، لكنني أحبها. نعم، أنا أثق بنفسي. لكنني أكره الجامعة التي تتردد إليها، أكره من فيها. يخال أليّ بأنهم ينتظرون لحظة الانفصال، لينهشوها كقطعة لحم«.
باعتقاده، إنه في حياة كل إنسان مأساتان: الأولى عندما يفتقد المرء للحب، والثانية هي لحظة العثور عليه: »لقد عانيت الكثير حتى وقعت في هذه المأساة - الجميلة«.
يشعر بأنه سيخسرها. لكنه لا يريد لذلك أن يحدث.
يرى فيها »ملهمتي في الكتابة«.
يزعجه عنادها، وتفرحه طيبة قلبها: »هي طفلة في جسد فتاة بالغة، تغضب وتكره للحظات. ثم تبرد أحاسيسها الساخنة وتنسى«.
كان ينظر إلى الحب من عين واحدة. تجرع مفاهيمه الخاطئة باكراً. من البؤبــؤ الأول، كان يفسر الحب بأنه شعــور يهوي على ناظره وفقاً لجمال الفتاة الخارجي. ثم خاض التجارب »الجمالية« وفشل في إنجاحها. وسرعان ما انقشع الغبار عن عينه الثانية، فرأى من ذلك البؤبؤ جمال الروح. وأيقن بأنه من هذه العين تولد الأحاسيس المتمردة، التي يسمعها الأصم وينطقها الأبــكم ويبصرها الأعمى.


أحب بقلبي وأغار وأسامح
»الحب سيل من الأحاسيس، تمطره غمامة المحب في أرض حبيبه، فربما يجني وروداً وربما أشواكاً«، تقول إنها قاعدة راسخة في ذهنها.
تبتسم من كلام حبيبها. تتنهد وتضيف بأنها لم تجد - حتى الآن - شرحاً لما حصل بينهما: »كيف أحببنا بعضنا في هذه المدة القصيرة؟ سؤال أفكر به دوماً، فأنا أيضاً لا أؤمن بالــحب من النظرة الأولى. لكننا اتفقنا بأننا حالة خاصة واستثنائية، وعمدنا إلى إنجاحها«.
في اللقاء الأول، شعرت بأنها تعرفه قبل أن تلتقيه. دغدغت أنفها رائحة غريبة، كما لو أنها أحست بها منذ مدة. تقر وتعترف: »علمت بأن شيئاً ما سيقع بيننا. رأيت ذلك الشيء في نظراته. أدركت بأن الشرارة الأولى ستشتعل. لم أكن مترددة. والخوف البعيد الذي لمست أطرافه، كان سراباً«.
فعلاً، هي تحب بقلبها. وتعرف أنه أمر مباح في »الحرب«، أي في الحب. لكنه قد يجني نتائج غير محمودة، تبدأ باختلاف وجهات النظر تجاه الأمور الرمادية، ثم تفضي إلى نشوب مشاكل يومية متعددة.
تزعجها - في بعض الأحيان- غيرته الزائدة. »لكنني أعالجها بهدوء، وفقاً للخطة المعتمدة بيننا، والتي تقضي بحل كل الخلافات الثانوية وفصل ذيولها من جذورها، على أمل عدم العودة إليها«.
»اعتقد ،انك أخطأت سهواً«، ترد عليه، »فنحن لن ننفصل أصلاً ليأتي من يريد أن ينهشني كقطعة لحم. نحن لن ننفصل، وقد زرعنا- أنت وأنا- هذه الفكرة عن قناعة ودراسة محكمة، خلصت بأننا خلقنا لبعضنا البعض«.
وبرأيها: »الحب- كيميائياً- هو قنبلة موقوتة زرعتها الأقدار داخل الإنسان، لا يتقيد انفجارها بزمان أو مكان«.
الفارق بينهما، أنها تعترف له جهراً بعشقها له، وهو عشق يفوق حبها لأهلها. اعترافها يأتي كلاماً وفعلاً وشعراً، ولو ركيكاً. أما هو، فيشرع بمخاطبتها نثراً مطولاً وغامضاً في بعض الأحيان. بيد أن النتيجة واحدة: كل منهما يعشق الآخر. »تخيل أنني صرت أحب سيئاته، كغضبه السريع، وإهماله الدائم لمقتنياته، وحتى سيجارته«.
تنتشي فرحاً عندما يصفها بأنها ملهمته في الكتابة. وترى فيه الشاب الذي يكدح من أجل لقمة العيش، والشاعر الذي يثمل من حب يرزح تحت قلب مرصع بالألماس وممتلئ بالطيبة والإخلاص. »لكنني في الوقت نفسه، أعرف أنك شاب تستهويك النساء ذوات البشرة السمراء، وأنا لست بسمراء. وقد رأيتك أكثر من مرة تسترق النظر إليهن. لكنني استغنيت، تقريباً، عن تلك الغيرة المزعجة، بعدما أدركت وتيقنت أنك تحبني من ذلك البؤبؤ.. الثاني«.
أحبك، وأعشق »مأساتك«!

جعفر العطار

 

 

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...