صورتنا الثابتة في مخيال الغرب
ليس كل ما يكتب في الغرب عن -الإسلام- معادياً للإسلام بل ربما يقال إن حركة الأنوار الأوروبية في مطالعها كانت مهمومة بالبحث عن قيم الأديان الشرقية غير المسيحية بدافع الكشف عن أثرها في تكوين العقل الفلسفي وأبعاده الإنسانية ذلك أن الصراعات التي دفعت بها حروب الفرنجة لم تكن تسمح بأي نظرة موضوعية - للإسلام- ولاسيما أن ما كتبه الغربيون عن الإسلام في تلك الفترة بعامة وعن السيرة النبوية بخاصة لم يكن بدافع ترجمة التراث الإسلامي للتعرف على حقائقه ومفاهيمه بل إطراحه إطراحاً انتقائياً باستلال بعض نصوصه واستغلالها لمحاربة الإسلام وشعوبه وكأن الصورة الإسلامية المنقولة إلى الغرب هي من إنتاج نزعة هذا الانتقاء وهذا الاستلال الذي أنشئ لتزوير الدين الإسلامي وتشويه معتقداته لتبرير مسوغات العدوان عليه لنرى بعد ذلك مبررات الخوف من الانتشار الواسع للأتراك عشية حصارهم لمدينة فيينا وفي نهاية القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر (نشر بيار بايل Pierre Bayle معجمه التاريخي Dictionnaire Historique) حيث عمد فيه إلى تشويه السيرة النبوية الشريفة. وكان هذا المعجم قد حاز اهتماماً عريضاً في العالم الناطق بالألمانية بعد قيام الأديب يوهان كرستيان جوتشيد Gottsched بنقله إلى الألمانية غير أن المطابع الغربية قد أخرجت أعمالاً لمستشرقين كتبوا عن النبي محمد (ص) بنزاهة علمية نُشرت في هولندا وتُرجمت في باريس ولندن. وبوسع الباحثين في حوار الأديان العودة إلى مصادر أدريان ربلاند الذي أسس لفكرة البحث عن المشتركات الإيمانية بين المسيحية والإسلام. ولم يمتدح فولتير النبي محمد (ص) باعتباره أحد المشرعين العظام في تاريخ العالم إلا بعد قراءته لتلك الأعمال الفكرية المتسمة بالإنصاف العلمي ولم يتبدل رأي فولتير بشخصية النبي محمد (ص) إلا بعد طغيان التطرف الديني الذي دفعه إلى النفور من جميع الأديان فيما يظهر من حملاته على الكنيسة.
والكنيسة الكاثوليكية بالذات.. واللافت أن ألمانيا ما قبل خطاب قداسة البابا بندكتوس السادس عشر عن تأثير الفلسفة على اللاهوت المسيحي والفكر الإسلامي كان لايبنس Leibinz وليسنغ Lessing الألمانيان يتحدثان عن التسامح الديني في ضوء الحكمة الإسلامية والعقلانية الإسلامية، وكان هردر قد قام من جانبه بأكثر من ذلك إذ أثنى ثناءً عظيماً في كتابه المعروف ـ أفكار على حماسة النبي محمد (ص) ـ لعقليات عقيدة التوحيد. فهل يستوقفنا النظر في هذه المواقف من قضية مخاوف الغرب من محمد (ص) حتى لنجد في كلام هردر عن القرآن الكريم استفزازاً للهويات القومية الأوروبية من خلال قوله إنه «لو توافر للجرمان الذين غزوا أوروبا كتاب شبيه بالقرآن لغدت اللاتينية أبداً سيدة لغتهم ولما تفرقت قبائلهم وضلت في كل سبيل»ومن طريق هردر يتفق جوته وقد بلغ السبعين من عمره ليعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع تلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي محمد (ص) ما يعني أن غرب القرن الثامن عشر كان مستنيراً بالتسامح الديني أكثر بكثير من غرب القرن الحادي والعشرين الذي يستعيد في لحظته الراهنة أسئلة الخوف من الإسلام وإذا كان الطالب الفرنسي محتفظاً بذاكرته عن موقعة بواتييه التي خاضها شارل مارتيل Charles Martel جد شارلمان فلأنه يعي أهمية هذه الموقعة في إنهاء الاجتياحات الإسلامية وليس السؤال الآن عن مصير الغرب لو لم يكن شارل مارتيل موجوداً على رأس تلك الموقعة عام 732 م وإنما عن مصير الغرب الديني والثقافي والسياسي بعد تغلغل الانتشار الإسلامي بملايينه داخل النسيج الاجتماعي لعواصم الغرب الكبرى؟!!.. ولأن حوار الإسلام والغرب التبس منذ بداياته بتبادل مشاعر الكراهية وهواجسها السياسية والاقتصادية فإن صورة الإسلام في مخيال الغربي ستظل مرتكزة في إعلامه بوصفه للإسلام خصماً عسكرياً وثقافياً ودينياً لهذا الغرب المختلف لنرى باحثاً في فكر غيبر دي نوجان Guibert de Nogent يقول بأنه لم يتمكن غداة الحروب الصليبية أن يعرف شيئاً مكتوباً عن محمد (ص). ويرى بعض النقاد أن الصورة النمطية المشوهة عن الإسلام في الغرب ترتكز إلى أربعة مزاعم: الدين الإسلامي تحريف متعمد للحقيقة أنه دين عنف.. أنه دين الدعارة.. محمد نقيض المسيح.. وتكثر الكتابات التي تبرز هذه الصورة السلبية وعلى ذلك يعلق مصطفى بنشنان فيما يؤكده الدكتور بشارة خضر في كتابه عن أوروبا والوطن العربي «تسعى أوروبا بالطبع بمعارضتها الإسلام إلى تأكيد ذاتها»ويشير مونتغمري من جهته إلى أن الأوروبيين بمواجهتهم الإسلام كانوا يدّعون خوض حرب النور في وجه الظلمات ويضيف بشيء من السخرية: «نفهم اليوم أن الظلمات المنسوبة إلى العدو ليست غير إسقاط للظلمات التي تلفنا والتي نود إنكار وجودها وبهذا الصدد يجب اعتبار الصورة المشوهة للإسلام كإسقاط للجانب المظلم في الشخصية الأوروبية»ومع انتقال المركزة الغربية من أوروبا إلى الولايات المتحدة فإن اللوبي الإسرائيلي سيجد فرصته الذهبية في توظيف صورة الإسلام المشوهة لمصلحة كيانه الغاصب في فلسطين ومن أمثلة ذلك دعم التقرير الوثائقي بعنوان ـ الجهاد في أميركا ـ الذي قام بإعداده الإعلامي ستيفن أمرسون لشركة بي بي اس PBS منذ
العام 1994 أي في نفس الفترة التي تم التحضير فيها لمقولات صدام الحضارات ويتضمن هذا التقرير الصادر قبل أحداث الحادي عشر من أيلول معلومات ملفقة عن وجود شبكة دولية منظمة من الجماعات الإرهابية الإسلامية - في طول الولايات المتحدة وعرضها موجهة نيرانها ضد المصالح الغربية وطبقاً لضغوط اللوبي الإعلامي الإسرائيلي بعد تفجير المركز التجاري العالمي في نيويورك عام 1993 فإن المخاوف من الإسلام ستدخل في صلب اهتمامات الإدارة المركزية للأمن القومي لنجد الخارجية الأميركية ما قبل الحادي عشر من أيلول وما بعده في فخ الصحافة التي تساوي بين الإسلام.
وحركات التطرف الديني المتزامنة بعد الحرب الباردة مع ظهور دراسات وتقارير تتحدث عن الأعداء العالميين الجدد أو ما سمي عند بعضهم الخطر الأخضر ليظهر مشهد الصراع في الشرق الأوسط من صراع عربي إسرائيلي بفعل اغتصاب فلسطين واحتلالها إلى صراع غربي ضد الإرهاب الإسلامي والأصوليات الإسلامية تقود خنادقه المتقدمة إسرائيل. وعلى هذه المعادلة سيقف بعض العرب وصناع القرار الأميركي إلى جانب إسرائيل المهددة من سلاح المجموعات الإرهابية وما كان لهذا التضليل أن يستشري عميقاً في وجدان الرأي العام الغربي بوجه عام والأميركي بوجه خاص لولا قصور المؤسسات العربية وتقصيرها المفضوح عن مواجهة سياسات التضليل السياسي فضلاً عن مواجهة سياسات تشويه صورة الإسلام بوصفها كبرى الذرائع لتغطية الحروب الاستباقية التي تشنها الولايات المتحدة ضدنا تحت لافتة مكافحة التطرف والإرهاب.. وفي هذا الإطار تتحمل المرجعيات الدينية والمؤسسات الإسلامية كامل المسؤولية لمواجهة إخفاقاتنا المتتالية في انتزاع عوامل الخوف من إسلامنا ومن نبينا ولا يمكننا تبسيط أزمة المخاوف الغربية من الإسلام بأن نرمي الغرب بالجهالة الناقصة أو الجهالة المركبة، ولا يهدئ من روع تلك المخاوف أن تعقد المؤتمرات والندوات لإثبات أن التطرف الإسلامي منبوذ من داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية بل لابد من فتح جسور التواصل مع نخب الاستشراق الغربي الجديد لتصحيح صورتنا من خلال بعض المنابر الغربية المؤمنة بمثل ما نؤمن به من وجوب الجدال بالتي هي أحسن ما يعني ضرورة المبادرة لتأسيس مركز عربي إسلامي للأبحاث المتخصصة في دراسات العلاقة بين الإسلام والغرب مبتدئين بنقد الذات الدينية العربية وانعكاس مراياها السياسية والثقافية على مخاوف الغرب من محمد (ص).
الشيخ حسين أحمد شحادة
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد