صورة أمي: لم يكتبها أحد.. لم يرسمها أحد.. لم يصورها أحد
في الثالث من آب، عام 1962، ولدتني أمي.
كنتُ سادس أولادها السبعة، الذين بقوا لها على قيد الحياة.
قبل تلك اللحظة بعشرين سنة تماماً، كانت أمي قد صنعت تفاصيلَ صغيرةً من حكايتها الخاصة، التي لم تتمّ روايتها، على النحو اللائق، بعد. وذلك منذ أن خرجت من طفولة يُتم قلقة، مبكرة، ليتمَّ تزويجها صغيرة، بعد أن قُتل أبوها، وزُوِّجت أمها..
في يوم ما، كان الوقت يبحر في نيسان عام 1948. لم يكن أبي في البيت، فاتَّخذت أمي القرار الذي لابدَّ منه. حزمت القليل من متاع البيت، وأغلقت أبوابه، ودسَّت المفتاح في العصبة، وساقت دابتها غرباً، بعد أن جعلت طفلها الصغير «نصر»، يجثم بكل براءته، فوق المتاع القليل، دون أن تجعله ينتبه إلى القلق الذي كان يساورها، أبداً.
لحظتها، لم تلفت أمي كثيراً إلى الوراء، إلى قرية «الخالصة»، في إصبع الجليل الفلسطيني، لكنها ستبقى، اثنتين وخمسين سنة، بعد ذلك، ترنو إلى الوراء، حيث العالم الذي خلَّفته، مترعاً بالوحشة، وبذكريات الفرح، والوجع، على مبعدة لحظة من قبضة الاحتلال، التي ستحيق بالبلد في الخامس عشر من شهر أيار، ليبقى اسمه حتى الآن «يوم النكبة»!..
سيأتي أبي بعد قرابة شهر، ليبحث في ركام اللاجئين الفلسطينيين، المتناثرين بين «هونين» و«بنت جبيل»، في خيام النفي والبؤس، ليجد أمي، ويقودها إلى بلد آخر، وعالم آخر، لم يكن أبداً هو البيت الذي انطوى في الذاكرة، وما زال. ولم يكن العالم الذي لعلها وعدت نفسها به، في غفلة حلم ما، راودها في قرية «المفتخرة»، على حافة الجولان، من الناحية الفلسطينية..
الآن تماماً أراها، تنجب الأولاد، وتربّيهم، وتعلّمهم، وهي الأميّة التي لم تقرأ حرفاً في حياتها، ولم تتلُ سوى سورتين قصيرتين، أو ثلاثة، بقيت قرابة سبعين سنة تردِّدها، في صلواتها التي لم تنقطع، إلا على عتبة غرفة العناية المركَّزة، في مشفى المواساة.
الآن تماماً أراها، تصرّ زوّادتها من بيضة مسلوقة وحبتي بندورة، أو من بقايا طبخة البارحة، وتذهب إلى الحقول المجاورة للمخيم، حيث التعشيب والحصيدة والرجيدة واللقاط.. قبل أن تركب أول ميكروباص وصل إلى مخيم «دنون»، فتعمل في المطحنة، والمعامل، والورشات الصغيرة، للنايلون والبلاستيك، وصناعة الشحاحيط والأحذية الكاوتشوكية السوداء، التي طالما أكلت من حوافي أقدامنا المقشّبة، والمتشقّقة.
الآن أراها.. تطبخ، تغسل، تجلي.. تخوض الحروب على «الحنفية» العامة.
الآن أراها.. فارسة في كل شيء..
فارسة!.. إلا أمام نظرات والدي الغاضبة، أو تحت وقع قشاطه الجلدي العتيد، الذي لم يكن يوفّر صغيراً ولا كبيراً، في لحظة غضب، لم نكن نعدم زيارتها بين حين وآخر..
أرى صورة أمي..
تنطوي في الذاكرة.. يلفُّها الغياب، وتعاند النسيان..
لم يكتبها أحد.. لم يرسمها أحد.. لم يصورها أحد..
تكتفي بأنها سينما الحياة.
الجمل:بشار ابراهيم
إضافة تعليق جديد