صفقة بيع كادت تودي بنحو خمـسة مليـارات ليرة قبل إفشالها
250 ألف طن قمح فائضة عن حاجة الاستهلاك في محافظة الحسكة، والخطة بيع تلك الكمية لعدم إمكانية نقلها من هناك رغم الحاجة لها بسبب ارتفاع تكاليف النقل من جهة وصعوبته من جهة ثانية قبل أن يكون الطريق مؤمناً.
القصة انتهت بتوقيف عملية البيع، وإعفاء مدير مؤسسة الحبوب الذي تلكأ في تنفيذ قرار البيع بأقل من التكلفة، ومن دون حصوله على موافقة خطية بتغطية العجز.
في تفاصيل هذا الموضوع يتبين من خلال قراءة عشرات الوثائق المتوافرة لدينا أن وزير التجارة الداخلية يطلب من المؤسسة العامة لتسويق الحبوب البيع بالسعر الأقل من بين العارضين الراغبين في شراء كميات من القمح الفائضة في مركزين وحيدين يخضعان لسلطة الدولة هما «جرمز والثروة الحيوانية» في منطقة القامشلي في محافظة الحسكة، وعند محاولة معرفة الأسباب، «يفسر الماء بعد الجهد بالماء».
من البداية
على عكس الشائع توجه تاجر في مطلع العام الجاري إلى الوزير الغربي بطلب شراء الكمية المتوافرة في المركزين بمبلغ 165 دولاراً للطن الواحد، ويقول التاجر: إن استجرار الكمية سيتم على دفعات بمعدل 2500 طن يومياً، تسدد قيمتها قبل الاستلام.
مدير المؤسسة المعفى على خلفية هذه القضية ماجد الحميدان يقول: إنه كان من الأولى أن يتم الأمر بالعكس، أي من المؤسسة إلى الوزارة، وعند إحالة الأمر من قبل وزارة التجارة الداخلية إلى المؤسسة العامة للحبوب اقترح الحميدان بيع الأقماح الفائضة عن طريق استدراج عروض أسعار لأن السعر المعروض من قبل التاجر أقل بكثير من التكاليف المترتبة على المؤسسة، وهذا سيؤدي إلى عجز يجب ألا يكون على كاهل المؤسسة من جهة، ويحتاج تنفيذ القرار أيضاً إلى موافقة الجهات الوصائية المختصة لتغطية العجز وتحديد الجهة التي ستقوم بالتسديد من جهة ثانية.
خلال هذه المراسلات تقدم آخرون بطلبات شراء كانت في معظمها بأسعار أعلى ولكن بكميات أقل بعضها بالليرات السورية، وأخرى بالدولار، لكن ظلت أهواء البيع لصاحب العرض الأول والأقل! وهنا يؤكد المدير الحالي المكلف للمؤسسة العامة للحبوب يوسف قاسم، أن سبب التفضيل يعود إلى أن هذا التاجر توافرت فيه ميزتان هما الدفع بالدولار مباشرة في وقت قد يكون لهذا المبلغ (41 مليون دولار) حاجة لمشاريع أخرى، واستجرار كامل الكمية من جهة ثانية، كما أضاف قاسم، ولكن في الحيثيات يتبين أن هناك حلولاً أكثر جدوى
طلب استدراج مجدداً
عادت المؤسسة وطلبت ثانية من الوزارة الموافقة على إعلان استدراج عروض للحصول على أسعار أعلى تجنب المؤسسة الخسائر وتحقق عائدات أعلى لكن الوزارة لم توافق، وأصبحت تتعامل مع المؤسسة وكأنها غير موجودة أصلاً كما يقول الحميدان، وأضاف أن هناك طلبات أخرى وصلت الوزارة وبأسعار متفاوتة لكنها أعلى من العرض الأول الخاص بشركة المنصور.
تفاوتت أسعار العروض المتقدمة منها مثلاً 98 ألف ليرة أي 189.5 دولاراً للطن الواحد، و100 ألف ليرة للطن أي ما يعادل نحو 193.26 دولاراً للطن، ومع كل طلب شراء تعيد المؤسسة مراسلة كل من رئاسة الحكومة ووزارة التجارة الداخلية لإعلامهم بالسعر الذي تقدم به التاجر، وطلب الموافقة على استدراج عروض، لكن- كما يضيف الحميدان ويؤكد- أن الوزارة لم تطلع رئاسة مجلس الوزراء على الكتب المرفوعة وما تتضمنه من عروض.
سعران مختلفان
وفي تاريخ 18 شباط من العام الجاري وصل المؤسسة كتاب مذيل بتوقيع الوزير الغربي فقط يطلب فيه موافقة رئاسة مجلس الوزراء على البيع لصاحبي العرضين بسعرين مختلفين «شركة المنصور 165 دولاراً للطن، وعرضين آخرين بسعر 189.5 دولاراً للطن»، وأن من الأسباب الموجبة لقرار- وصفه الحميدان بغير المعقول- هو تعرض المحصول للسرقة والنهب والتلف، والحاجة لتأمين مادة القمح في بقية المحافظات، وهنا يؤكد الحميدان أن الكميات محمية تماماً ودليله أن القمح يخزّن بشكل دائم في هذين المركزين حتى الآن، وهما يقعان إلى جانب مطار القامشلي وجانب الفوج، وتحت سيطرة الدولة.
وكي لا يكون الأمر بلا إجماع طلبت رئاسة مجلس الوزراء إحالة الموضوع إلى اللجنة الاقتصادية التي وافقت بدورها على مقترحات وزارة التجارة الداخلية للبيع بسعرين، وطلبت اللجنة أن تبقى دقة الكميات ومناسبة الأسعار على عاتق الجهة المنفذة أي المؤسسة العامة للحبوب التي لم توافق أصلاً على عملية البيع.
لم تنفذ المؤسسة قرار البيع، وراسلت وزارة التجارة تعلمها بأن الأسعار المذكورة أقل من سعر المبيع المعتمد لدى المؤسسة والبالغ 134221 ليرة للطن الواحد، لأنه أقل من التكلفة ومن الأسعار العالمية للأقماح التي تستوردها سورية بعدما تحولت إلى بلد مستورد للقمح، ولأن اللجنة الاقتصادية لم تشر صراحة إلى الموافقة على تغطية العجز التجاري الناجم عن عملية البيع بأقل من سعر التكلفة، وضم الخسارة للعجز التمويني عام 2017، ولاسيما أن العجز المترتب نتيجة البيع المذكور تصل إلى 48847 ليرة لكل طن قمح عند بيعه بسعر التاجر الأول 165 دولاراً، و36221 ليرة للعروض الأخرى.
واختتمت المؤسسة ردها باقتراح يتضمن: إما دعوة العارضين وجميع الراغبين بشراء القمح إلى جلسة مزايدة علنية للتعاقد بالتراضي وتقديم آخر أسعارهم بما لا يقل عن الأسعار المذكورة، أو الموافقة على تغطية العجز الناجم عن هذا البيع وضمه للعجز التمويني.
لا جواب
لم ترد وزارة التجارة الداخلية، ولم ترسل النسخة المرفقة مع الكتاب إلى رئاسة الحكومة كما يؤكد الحميدان، وما وصل المؤسسة في التاريخ ذاته 1/3/2017 طلب يتضمن بيع شركة المنصور كمية 5 آلاف طن بسعر 165 دولاراً للطن، على أن يتم التسديد قبل تسلم الكمية، أي أن سبب البيع الذي ذكره قاسم كتسويغ لعملية البيع من أنه يريد شراء الكمية بمجملها قد انتفى.
لم تنفذ المؤسسة الطلب لأن موافقة الوزير مخالفة لتوصية اللجنة الاقتصادية التي تضمنت أن تقوم شركة المنصور للتجارة بتسديد المبلغ وقدره 41 مليون دولار خلال عشرة أيام سلفاً قبل الاستجرار، ومضت العشرة أيام ولم تسدد الشركة المبلغ المطلوب كما يؤكد الحميدان، ولأن التوصية بالبيع أيضاً لم تشر إلى من سيتحمل العجز الناجم عن البيع بأقل من التكلفة، كما يلخص الحميدان أسباب عدم تنفيذ القرار الأخير، ويضيف أنه في التاريخ ذاته الذي طلب منه الوزير الغربي بيع كمية خمسة آلاف طن لشركة المنصور كانت هناك ثلاثة طلبات تقدم بها تجار إلى وزارة التجارة الداخلية ومن دون أن تصل المؤسسة أيضاً بطلب شراء 25 ألف طن قمح بسعر 105 آلاف ليرة للطن أي 203 دولارات وفق أسعار الصرف الرسمية، وعرض آخر بسعر 189 دولاراً أيضاً، وكان اقترح الموافقة على اثنين ورفض الثالث لأنه جاء أقل سعراً من الطلبين الأولين، فأعلى من سعر شركة المنصور «181 دولاراً للطن».
تهديد ووعيد
يؤكد الحميدان أن الوزير الغربي اتصل به هاتفياً أكثر من مرة، وطلب منه إتمام عملية البيع وإلا سيتم إعفاؤه، ويعتقد الحميدان أن تدخّل جهات أعلى حال دون تنفيذ عملية البيع بالسعر الأقل والتي وفّرت على الخزينة مبلغاً يبلغ 4.525 مليارات ليرة تماماً كفارق بين السعر الذي تمت به عملية البيع مؤخراً لشركة عرضت شراء الكمية بسعر 103 آلاف ليرة للطن مضافاً إليه مبلغ خمسة آلاف ليرة لصندوق الشهداء أي 108 آلاف ليرة للطن، وهذا المبلغ يعادل بالدولار 205 دولارات للطن، وأيضاً الموافقة على أن تتحمل وزارة المالية العجز الناجم عن ذلك، علماً أن سعر المبيع هذا مازال أقل من سعر التكلفة، والسعر العالمي.
بعد توقيع الصفقة و«البيعة» انتهت المباحثات والمراسلات بكتاب أخير وصل الحميدان، ولكن هذه المرة كان يتضمن موافقة رئيس الحكومة على طلب الوزير الغربي بإعفاء مدير المؤسسة العامة للحبوب، أي المهندس ماجد الحميدان، القرار الذي يعدّه الحميدان «مكافأة» له على تحقيق شروط أفضل لعملية البيع، بينما يقول المدير الحالي يوسف قاسم، الذي يمثل وجهة نظر الوزارة، إنه لا صلة بين قرار إعفائه وقصة صفقة البيع برمتها.
وبعد تغيير قرار مكان عمله أكثر من مرة انتهى به الأمر بوضعه تحت تصرّف المؤسسة العامة للتجارة الداخلية والمعادن ومواد البناء «عمران» علماً أنها لا تحتاج إلى تخصص زراعي كالذي يحمله هذا الرجل!
لا بطولات
عند محاولة معرفة رأي وزارة التجارة الداخلية بما ورد في الوثائق تمت إحالة الأسئلة الموجّهة إلى وزير التجارة الداخلية إلى المدير الحالي لمؤسسة الحبوب المهندس يوسف قاسم الذي كان معاوناً للمدير المعفى والذي أكد أنه ليس في توقف بيع تلك الصفقة أي بطولات، فعملية البيع لم تنفذ لأنها لم تتم ضمن المدة التي تحتاج فيها الحكومة إلى عوائد تلك «البيعة»، وأنهم كجهة منفّذة لا يستطيعون التحفّظ على قرارات عليا، وأنهم طالبوا فقط باستكمال موافقات البيع وما يخص الموافقة على تحمّل المالية العجز الناجم عن البيع بأقل من التكلفة.
وإن فكرة البيع يمكن وصفها بالقرار الجريء الذي اتخذته الحكومة في ظرف له خصوصيته، وكان الهدف الأساس منه تأمين مادة القمح، ومواد أخرى صدرت عن اللجنة الاقتصادية أو رئاسة الحكومة، وإن قرار البيع كان متغيراً حسب واقع الحال حين اتخاذه، وارتباطه ببقية القرارات.
أضاف قاسم: لا يمكن سحب قرار والمحاسبة عليه، وقد جاء ضمن سلة واحدة لها ظروفها.
وعن سبب الإصرار على بيع شركة المنصور بالسعر الأقل ذكر يوسف أنه كان الوحيد الذي سيدفع بالدولار، وسيستجر كامل الكمية، بينما العروض الأخرى كانت كلها بكميات أقل، وبالليرة السورية، وهنا لابدّ من التذكير بأن الوزير الغربي طلب مؤخراً بيع كمية 5 آلاف طن للشركة ذاتها، وهناك أيضاً عروض للشراء بالدولار كما ورد في قائمة العروض المقدمة للشراء التي حصلنا عليها من المؤسسة أيضاً.
ومن ضمن الصلاحيات التي يستطيع التحدث بها قال يوسف: إنه لا يستطيع الحديث عن أسباب إعفاء الحميدان، ولكن يمكن لأي وزير أن يعفي مديراً عاماً، وأنه عندما يتعين أي شخص لا يسأل: لماذا تم تعييني مديراً، لكنه يسأل: لماذا تمّ إعفائي؟.
للاطلاع فقط
سبق للمؤسسة العامة للحبوب أن وقّعت عقد بيع مع شركة المنصور ذاتها لشراء كمية القمح ذاتها بسعر 274 دولاراً للطن، أي بفارق 110 دولارات عن السعر الذي طرحه مؤخراً، وبعدما دفع تأمينات قيمتها 100 مليون ليرة ونظّم العقد تهرّب من التنفيذ. وتشير الوثائق إلى أن المبلغ الذي دفعه صاحب الشركة محجوز لأنه لم يدفع طابع العقد بقيمة 67 مليون ليرة كما تقتضي الأصول.
يسرى ديب - تشرين
إضافة تعليق جديد