ستّات مصر أقوى من أهل الردّة
لم تمرّ أيام قليلة على حذف صورة الدكتورة درية شفيق من كتاب «التربية الوطنية» في المدارس المصرية، حتى أطلّت صورة عملاقة لها مرفرفة هذه المرة فوق أعناق المتظاهرين في الذكرى الثانية لـ«ثورة يناير» في «ميدان التحرير» في قلب القاهرة.
المناضلة النسوية البارزة، مؤسِّسة «اتحاد بنت النيل» ــــ أول حزب نسوي مصري ـــ التي كافحت حتى نالت المصرية حق الترشح والانتخاب في دستور 1956، حذفت صورتها وزارة التربية والتعليم في «التطويرات» الأخيرة للمناهج؛ لأنّها غير محجبة كما قيل، بينما وعد وزير التربية والتعليم الإخواني إبراهيم غنيم بإعادة النظر في الموضوع وإحالة الشكوى على لجنة وضع المناهج ودراستها. لكنّ الحجاب ـــ أو عدمه ـــ ليس إلا مظهراً شكلياً للأزمة، وهو يناسب العناوين الصحافية؛ لأنّ موقف الحكم الجديد من درية ورفيقاتها ومثيلاتها يصبّ في عمق نضالهن وتاريخهن وكفاحهن لوضع المرأة المصرية في الصفوف الأولى للمجتمع. الحرب على درية وهدى شعراوي، وهي أبرز الناشطات المصريات في مجالي الاستقلال الوطني المصري، ونبوية موسى، وهي إحدى رائدات التعليم والعمل الاجتماعي خلال النصف الأول من القرن العشرين، ما زالت تشنّ عبر المواقع الإسلامية كأنّهن ما زلن على قيد الحياة. إنّهن نماذج «التغريب وتشويه الهوية وكسر تقاليد المرأة الشرقية». اتهامات ليست جديدة ضد النساء اللواتي كافحن منذ بدايات القرن الماضي، وحرب قادها المحافظون في طبعاتهم المتتالية: أزهرية حيناً وإخوانية حيناً آخر، ثم سلفية وهابية. لذا، لم يكن غريباً ـــ وإن كان جميلاً ــ أن ترفع صور المصريات الرائدات في التظاهرات الأخيرة، حتى إن لم يكن معظمهن على قيد الحياة اليوم، إلا أنهن أصبحن في قلب المعركة.
الناشطة السياسية شاهندة مقلد أيضاً كانت حاضرة بين الصور، لكنها على عكس مثيلاتها الراحلات، فقد كانت تسير على الأرض بين المتظاهرين. المناضلة اليسارية أسّست «اتحاد الفلاحين» ولم يشغلها السجن ولا تعدّد مآسيها الشخصية من مشاركة الشبان مغامراتهم. أمام «قصر الاتحادية» الرئاسي قبل شهرين، امتدت يد إخوانية غليظة لتكتم فمها أثناء الهتاف. لكن الكاميرا كانت هناك، فصارت صورة شهيرة. لم تكن اللقطة التي ارتفعت في تظاهرات «التحرير» الأخيرة لها. هناك لقطة أخرى لها بنظرات قوية رفعها «تحالف المنظمات النسوية» في المسيرة الآتية من حيّ «السيدة زينب». تحت تلك الصورة، كُتب بحروف بارزة: ««الست» شاهندة مقلد». «الست» التي لا تحتاج إلى تعريف كانت هناك أيضاً، أم كلثوم بنظارتها السوداء وابتسامتها الواثقة التي تتحدث عن نفسها، لا يمكن حتى إسلاميّي اليوم الحاكمين أن يمسّوا «كوكب الشرق». صورتها ارتفعت فوق المتظاهرين كأنّها تسبغ حمايتها عليهم، كأنّها هي علم البلاد.
«السندريلا» سعاد حسني كانت هناك أيضاً، وقد أطلّت عبر صورة كبيرة حملتها إحدى المتظاهرات. الجمال المتمرّد الحزين كان مكتفياً بذاته، لا يحتاج إلى مبرر سياسيّ للوجود، أو ربما كانت حياتها هي نفسها رسالتها بلا حاجة إلى شعار. وربما لهذا امتدت يد عابثة (أو صاحبة خيال) لتستبدل ـــ بواسطة الفوتوشوب ــ صورة «السندريلا» بصورة أخرى لها أكثر شباباً وابتساماً فوق لافتات المتظاهرين.
لكن الدلالات المتعدّدة انعكست في صورة هدى شعراوي (1879 ـــ 1947). المناضلة الرائدة التي يحمل اسمها أحد الشوارع المؤدية إلى «ميدان التحرير»، دفعت المرأة إلى المشاركة بقوة في ثورة 1919، وناضلت ـــ وهي التي تلقت تعليما منزلياً ــ من أجل حق الفتاة المصرية في التعليم، ثم أسهمت في وضع حد أدنى لسن زواج المرأة. ليس غريباً إذًا أن يوجه الإسلاميون اللعنات نحوها حتى اليوم، هم الذين يكافحون لإلغاء سن الزواج. لا يفوت الناظر إلى صورة شعراوي أنّها كانت محجبة بمعايير اليوم للحجاب، رغم أنّها اشتهرت بـ«نزع الحجاب» الذي كان يعني آنذاك البرقع وهو النقاب بلغة اليوم. المعايير نسبية تتغيّر مع الزمن، لكنّ المجد يبقى لمن تجرأن على تجاوز المعايير ونزع القيود.
محمد خير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد