حمّامات النساء في بغداد كانت أنجح من «الخاطبة»
وصف دقيق ذاك الذي كانت تقدمه النساء عن الفتيات الجميلات اللواتي يلتقينهن في الحمّامات العامة، بهدف إقناع أولادهن بجمال الفتيات وتبرير إصرارهن على اختيار زوجات لأبنائهن.
فالحمّامات العامة التي كانت تمثل ملتقى النساء المتزوجات والفتيات العازبات لقرون طويلة مضت، منذ إنشائها في العصر العباسي وحتى سنوات خلت، كانت في الوقت ذاته مكاناً لاختيار العرائس، إذ يعتمد الشبان على عيون أمهاتهم اللواتي يرتدن الحمّامات ذاتها في نقل جمال العروس المختارة طبقاً لمواصفات خاصة يريدها الشاب، طالما أن الاختلاط بين الجنسين كان ممنوعاً والرؤية بين الشبان والشابات محجوبة وبالتالي لا يستطيع الشاب الأعزب أن يختار لنفسه.
الأمهات اللواتي كن يدققن في أجساد الفتيات بحثاً عن مواصفات الصحة والجمال وربما دلالات الخصوبة التي كان يعتقد بها في تلك الأيام، وكن يخترن كنّة المستقبل أيضاً وفقاً لسلوك الفتاة مع والدتها خلال زيارتها إلى الحمّام، إذ تستدل بذلك على اخلاق العروس وتربيتها وكيف ستتعامل مع حماتها التي ستقطن معها في بيت واحد إن «تمّ النصيب».
حمّامات بغداد، التي اكتظت بالزبائن من الرجال والنساء طوال عقود، ساهمت في تزويج الفتيات أكثر مما كانت تفعل «الخاطبة» في عصرها الذهبي. لكن تلك الحمّامات باتت اليوم معرّضة إلى الاندثار بعدما استبدلها السكّان بالحمامات المنزلية، وباتت العائلات العراقية تقلل من ارتيادها.
فعزوف النساء والرجال على حد سواء عن ارتياد الحمّامات تسبب في اختفاء عشرات الحمّامات العامة التي كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي، لا بل العمراني والتراثي في الأحياء القديمة، إذ تحولت إلى محال تجارية.
حمام الحاج مهدي في حي الكرادة وسط بغداد، وحمام الكفاح، وحمام الكاظمية هي الحمّامات الوحيدة ما زالت تستقبل الزبائن في فصل الشتاء، لكنها غالباً ما تكون خالية في موسم الصيف.
لجوء العائلات العراقية إلى تلك الحمّامات كان يزداد في فصل الشتاء بسبب طبيعة تصميمها وعمارتها التراثية المدروسة التي تجعلها أكثر دفئاً من أي مكان آخر، فضلاً عن الخدمات التي يقدمها القائمون عليها لزبائنهم، مثل التدليك والاستحمام بالبخار وغيرها. حتى العرسان الذين كانوا يرتادونها، قبل الزفاف بساعات، مع أصدقائهم وبصحبة عازفي الفرق الشعبية، لم يعودوا يرتادونها في الوقت الحالي.
عمر شهاب، المشرف على إدارة «حمّامات الكفاح العامة»، يقول إن كبار ساسة العراق كانوا يرتادون الحمّامات العامة في بغداد، مثلما يرتادها التجار وأصحاب النفوذ، حتى تحولت ملتقيات اجتماعية وثقافية وسياسية للسكّان من مختلف المناطق.
الحياة العصرية التي أهملت التراث كانت سبباً في إهمال الحمّامات العامة واختفاء العشرات منها في بغداد، كما يقول عمر الذي استعرض أشهر من زاروا المكان، ومن بينهم الملك فيصل الأول والوصي على عرش العراق عبد الإله، ومؤسس الحكم الجمهوري في العراق عبدالكريم قاسم، فضلاً عن كبار الضباط في الجيش.
وتقول امرأة مسنّة إنها لا تعرف كيف تستحم في المنزل، وأنها ترتاد الحمّام العام منذ أكثر من ستين عاماً: «كنت آتي مع والدتي منذ منتصف القرن الماضي، وما زلت آتي اليوم، أما أجيال اليوم فيفضلون الحمّامات المنزلية... لكن أينها تلك من نظافة الدعك والتدليك وراحة البخار؟ أينها من السّمر والصديقات واخبار الدنيا؟ في الحمّام المنزلي يستحم كلّ لوحده.. هنا الاستحمام غير شكل».
خلود العامري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد