جولة سرية في المصرف التجاري السوري
الجمل: يعيش موظفو البنك التجاري السوري حالة استنفار دائم مشوب بالقلق على مستقبلهم الوظيفي، جراء التغييرات الكثيرة التي طرأت على عملهم، منذ تسلم السيد دريد درغام إدارة المصرف التجاري السوري. وما بين مؤيد ومعارض لتلك التغييرات، لا بد من الاعتراف بأن أشياء كثيرة حصلت، لتحدث ما يشبه الانقلاب. وخلال جولة قامت بها "الجمل" على عدد من الفروع، بصفة زبون متعامل لا بصفة صحافة، التقطت بعضاً من الأحاديث المتداولة بين الموظفين، فأبدت إحدى الموظفات تعجبها من زرع كاميرات مراقبة في كافة الفروع وربطها بالإدارة العامة: «إن هذا الإجراء يقيد حركة الموظف، ويجعله غير مرتاح أثناء قيامه بمهمته». بينما اعترضت موظفة أخرى بالقول: «بل من الأفضل وضع هكذا كاميرات لملاحقة المقصرين». ثالثة ردت: «ومن سيكون لديه وقت لمراقبة ما تصوره كل تلك الكاميرات؟» إلا أن الرد المفحم، جاء من موظفة أخفت رأسها بين كومة أوراق تستعد للترحيل قريباً: «الكاميرات لتصوير ما يحدث فوق الطاولة فقط، ولا يصل إلى ما تحت الطاولة، والذي يريد أن يمد يده ليقبض من الزبون، لن يمدها على الملأ وأمام الكاميرات».
انتهى الحديث هنا، ودخلنا غرفة المدير، الذي لم نتمكن من الوقوف عنده طويلاً؛ فقد كان منشغلاً برتل من المراجعين، بالإضافة إلى اهتمامه بسؤال المهندس المختص حول بعض القضايا الفنية المتعلقة بأجهزة المراقبة وكيفية تشغيلها.
خرجنا منها إلى قسم آخر؛ وهناك كان الموظفون يتأففون من وضع آلة لصناعة المشروبات الساخنة، قائلين: «إنها مكلفة وبلا طعمة»، واتضح أن الموظفين يفضلون القهوة التي كان يعدها عامل البوفيه، لأنها أطيب وأرخص؛ لذلك قرر غالبية الموظفين مقاطعة هذه الآلة. وسخرت إحدى الموظفات من عمليات التحديث التي تعتني بالقهوة والشاي وتهمل البلاوي الزرقاء الأخرى. إلا أن موظفاً آخر رأى الموضوع من جانب مختلف، وقال: «إن هذه الآلة هي باب استرزاق لناس على حساب ناس، وهناك مستفيدون من العملية».
لكن ماذا عن عمليات الأتمتة التي تأخرت لأكثر من عام؟ وماذا عن أكوام الورق والتوقيعات التي ما تزال تسبق أصغر معاملة مالية في هذه البنوك؟ الجدل كان حاداً حول هذه المسألة، فهناك من رأى فيها شوربة وتخبيص يعيق العمل، وهناك من اعتبر أنه لا بد من بعض الفوضى لمرحلة مؤقتة، نتيجة النقلة الكبيرة التي تحدث. أما التأخير فردته مديرة قسم إلى عدم تقدير المدير العام لطبيعة المشاكل التي ستواجه مشروع الأتمتة، وأغلبها ناجم عن طبيعة العاملين، فهناك أشخاص كثيرون متضررون من الأتمتة، وهؤلاء لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيسعون بكل جهدهم لعرقلة المشروع؛ لكن زميلة لها في القسم اعترضت على هذا التشخيص بالقول: «إن الانتهازيين، الذين استغلوا عملهم في المصرف سابقاً، يحتلون الواجهة اليوم أيضاً ويبرزون أنفسهم أمام الكاميرات المنصوبة على أساس أنهم فقط العناصر النشيطة على حساب الموظفين النشيطين الفعليين».
إلا أن العلة في التأخير ليست فقط في العرقلة، فقد فهمنا من خلال الجدل الذي أثير في فرع آخر للتجاري السوري وسط دمشق، أنه يكمن في عمليات تدريب وتأهيل العاملين؛ فهناك من اشتكى من انتقاء على مبدأ الخيار والفقوس لمن يجري دورات خارجية، كما قالت إحداهن، أنه تم تدريب دفعة أولى من الموظفين وأنيطت بهم مسؤولية تدريب باقي الموظفين. وتساءلت: «كيف سيتمكن هؤلاء من تدريب غيرهم إذا كانوا منغمسين بالعمل؟» فيما رفض موظف آخر هذا الطرح، مؤكداً أن ما يتم التدرب عليه خلال ثلاثة أشهر، لا يحتاج لأكثر من ثلاثة أيام، واعتبر أن الدورات التدريبية والامتحانات هي تغطية على قرار التخلص من فائض الموظفين ليس أكثر، فالمدير العام هدد الموظفين إن لم يسعوا إلى تنشيط أنفسهم وتطوير مهاراتهم خلال ثلاثة أشهر فمكانهم البيت أسوة بالفائض، علماً أنه منذ الشهر الأول من هذا العام طلب المدير العام قوائم بأسماء الموظفين الفائضين عن حاجة العمل في كل فرع، وبعد إرسال الجميع إلى دورات تدريبية، تم اختبارهم، ومن نجح في الامتحان عاد إلى العمل، ومن رسب، جلس في بيته وسيصل راتبه إليه كل أول شهر. وهناك من يقول إن قوائم الفائض وضعت وفق أمزجة مدراء الفروع، وتم استبعاد خبرات هامة عن العمل. إلا أن الرأي الغالب كان مع هذه الخطوة رغم الألم الذي تسببه للبعض، لكنها حتماً ستجعل الجسم الوظيفي رشيقاً. وفي البنك التجاري الجديد لا مكان إلا لمن يتطور.
أما الاعتراض على ذهاب الموظفين الفائضين إلى بيوتهم، فلا يترتب عليهم أي خسائر طالما يتقاضون رواتبهم، وهنا بدأ الحديث عن الحوافز، واتفق الجميع على أنها أهم خطوة في التغيير، إذ وضع نظام للحوافز يعطي لكل موظف نصيبه وفق عمله، ومبلغ الحوافز يسير بمحاذاة الراتب، وقد يبدأ من ستة آلاف ليرة وينتهي عند العشرين ألف ليرة سورية. أحد الفروع بلغت كتلة الحوافز لديه 300 ألف ليرة سورية الشهر الماضي، ووصلت في إحدى الشهور إلى نصف مليون ليرة سورية. وتمنح الحوافز وفق تقييم الإدارة العامة والعمليات التي يقوم بها كل فرع، لذلك فإن تلك الحوافز تتأثر بالظرف السياسي وانعكاسه على كثافة العمليات الجارية، لذا فإن نظام الحوافز هذا قد يلحق الظلم ببعض الموظفين الذين طبيعة عملهم لا تخولهم المشاركة في العمليات المصرفية. وجهة نظر أخرى أكدت أن نظام الحوافز هذا وضع للحد من الرشوة والفساد، إلا أن من اعتاد أن يدخل إلى جيبه مبالغ تتراوح بين خمسين وحتى مائة ألف شهرياً لن يقتنع بعشرين ألف وهو سيأخذها "زودة على بيعة"، دون أن يثنيه ذلك عن الاستمرار بالرشوة، فكل موظف من هؤلاء له زبائنه الذين يتعاملون معه. وعموماً فإن كتلة الحوافز التي توزع الآن على أكبر عدد من الموظفين، كانت سابقاً تذهب لجيبين أو ثلاثة، كما أن نظام الحوافز يعطي شرعية لمعاقبة المقصرين والمرتشين في حال تم ضبطهم، لكنه لا يقدم ولا يؤخر، إذ بقيت الطبقة الانتفاعية ذاتها قادرة على التأقلم مع كل المتغيرات والظروف، والأهم أنها قادرة على استغلالها إلى أقصى حد ممكن.
الجمل
إضافة تعليق جديد