جنة على نهر العاصي

12-02-2008

جنة على نهر العاصي

يحمل كتاب «جنة على نهر العاصي» للمستشرق الفرنسي موريس بارس نكهة خاصة وقدرة على تشويق القارئ وإثارة فضوله لمتابعة مجريات السرد منذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة. ليس فقط بسبب عنوانه المميز الذي يثير مخيلة القارئ ويحفزه للوقوف على أسرار تلك الجنة المزروعة على ضفاف النهر المشرقي الواقع على تخوم الصحراء بل بسبب موضوعه اللافت ومناخه العاطفي وأسلوبه الرومانسي الذي يستطيع على بساطته أن يحرك كوامن النفس ومناطقها الخامدة. والكتاب الصادر أخيراً عن «دار المدى» في إطار السلسلة الشهرية «الكتاب للجميع» ينتمي الى أدب الاستشراق الذي تبلورت سماته عبر عدد من الكتّاب الغربيين الذين زاروا الشرق وعايشوا أهله ودونوا تجاربهم ومشاهداتهم في عدد من الكتب والروايات والسير مثل روبنسون ولورنس العرب وآرنست رينان وغيرهم. وإذا عرفنا أن موريس بارس قد التقى برينان بعد عودته من المشرق وأجرى معه حوارات مطولة نشرها في كتاب «ثمانية أيام مع السيد رينان» لأدركنا سر ذلك التشابه بين مناخاتهما الأدبية والسردية وبخاصة في إطار الرؤية الى المشرق ودوافع الإقامة في ربوعه.

يعتمد كتاب «جنة على نهر العاصي» على تقنية مشرقية بامتياز وهي تقنية الرواية داخل الرواية التي تذكرنا في شكل واضح بعوالم «ألف ليلة وليلة» وحكاياتها المتداخلة. كما أن ذلك الانتقال الدراماتيكي من عالم الواقع الممعن في محسوسيته الى عالم السحر والتخييل هو من صلب الأسلوب الذي اعتمده الكتاب الأكثر شهرة في العالم والذي ندر أن نجا من سطوته كاتب غربي أو عالمي. فالراوي القادم من فرنسا والجالس في يوم من أيام حزيران (يونيو) 1914 في حماه على مقربة من نواعير نهر العاصي يلتقي هناك بمستشرق إرلندي مهتم مثله بدراسة الآثار السورية. وهناك يخبره الإرلندي بحصوله من أحد التجار السوريين على مجموعة من التحف والتماثيل والقطع الذهبية الأثرية إضافة الى مخطوط قديم مكتوب بخط باهت، وقد يكون مؤلفه أحد الرجال الهجناء الذين تعود ولادتهم الى الحقبة الصليبية وينتمون الى أب إفرنجي وأم سورية، أو العكس.

تعود قصة المخطوط الى القرن الثالث عشر الميلادي حيث يلتقي الشاب غيوم في قلعة العابدين القريبة من حماه بزوجة حاكمها الإسلامي الفائقة الجمال والتي تقع بدورها في غرامه وتلعب وصيفتها الذكية دوراً رئيساً في جمع العاشقين ورعاية حبهما الجارف. وإذ يقتل الزوج الحاكم في إحدى مواجهاته مع الصليبيين تتسلم زوجته الملقبة بغانية الشرق زمام حكم المدينة مع حبيبها الإفرنجي الذي كان قبل ذلك قد رفض العودة الى فرنسا مع الحملة التي رافقها لشعور عميق منه بأن مصيره يرتسم في الضفة الأخرى من العالم. على أن أقدار العاشقين ما تلبث أن تتغير في اتجاه مأسوي بعد أن عاد قائد الحملة الصليبية لمحاصرة القلعة وقطع الماء عن سكانها وبعد أن آثر غيوم الهرب الى دمشق مواعداً «غانية الشرق» على لقاء خارج المدينة لم يتحقق أبداً. فالمرأة السورية آثرت صوناً لقلعتها ورغبة في البقاء في سدة الحكم أن تتحالف مع القائد الجديد تاركة حبيبها الى مصيره المظلم. وبعد أن ينتظر غيوم طويلاً في دمشق التي رفض حاكمها العربي أن يمده بأسباب العون والمؤازرة يعود الى القلعة متنكراً حيث يتمكن بمساعدة الوصيفة أن يستأنف علاقته بحبيبته العربية. إلا أن غيرته الجنونية تدفع به الى التشهير بخيانتها له أمام الحاكم الجديد الذي انهال معاونوه وفرسانه على غيوم بالركل والضرب الى أن قضى نحبه.

قد تكون قصة الحب التي تضمنها كتاب «جنة على نهر العاصي» امتداداً لقصص الحب الرومانسي التي عرفها الأدبان العربي والغربي في مراحل مختلفة. فمن يقرأ الكتاب لا بد من أن يتذكر سير العشاق الملتاعين الذين أنبتتهم الصحراء العربية في حقبة صدر الإسلام والذين رأوا في المرأة كل ما يعوِّضهم عن الفقر المدقع والإقامة القلقة والحر اللاهب، إضافة بالطبع الى قصص الحب الغريبة والمباغتة التي يكتظ بها كتاب «ألف ليلة وليلة». لهذا فالكتاب يعكس في الكثير من وجوهه روح الاستشراق الغربي والصورة النمطية التي حملها الغربيون في أذهانهم عن بلاد الشمس والتوابل والنساء الجميلات اللواتي يرغبن في التمرد على ذهنية الحريم المتحكمة في نفوس الملوك والسلاطين العرب، عبر الارتماء في حضن «المحرر» الغربي الذي يحسن معاملتهن ويرفعهن الى المستوى اللائق بهن. فنحن هنا إزاء عقلية تأنيث الشرق التي تبدو من خلالها المرأة العربية أنثى فائقة الجمال وملتهبة المشاعر ومنتظرة بفارغ الصبر الفارس الغربي الذي يجمع في داخله صفات الشجاعة والرقة العاشقة، وهي الصفات نفسها التي طالما أسبغها العرب القدماء على أنفسهم. وإذا كان غيوم قد خسر حبيبته العربية فلأنه احتفظ لنفسه بنصف الكأس المتعلق بالعشق والوله، في حين أن النصف الآخر كان من حصة رفيقه السابق وقائد الحملة على القلعة.

يبدو الشرق في رواية موريس بارس مزيجاً مركباً من عناصر مختلفة وموزعة بين حاضر بائس وموحش وبين ماض حافل بالحضارات والرؤى والأطياف. ولعل الإشارات المتكررة الى الشمس الساطعة واللاهبة التي تتوسط سماءه ليست أمراً بغير دلالة بل هي تؤشر الى تبرم الغربيين من جغرافية بلدانهم القاتمة وتوقهم الدائم للترحال الى عوالم السحر والضوء والرغبة التي تنبعث من شرق العالم. وإذا كان ألبير كامو قد دفع ببطله الى ارتكاب جريمة قتل بفعل حر الشمس المتعامدة فوق رأسه فإن الشمس التي تعامدت فوق رأس موريس بارس هي التي أطلقت خيال بطله الإرلندي ودفعته الى تجاوز المخطوط الواقع بين يديه لتأليف القصة من بنات أفكاره. وهو ما يعبر عنه المؤلف بقوله:»كان هذا الإرلندي ذا خيال مرتجل، وفي استطاعته أن ينفث في كل لحظة حياة. وهو من الذين يبث فيهم قيظ سورية المفزع ضرباً من الخيال وليد ارتجافة الأعصاب الملتهبة».

رواية «جنة على نهر العاصي»، أخيراً، هي رواية الأنا والآخر بامتياز. وعلى رغم أنها تدعو الى نوع من الوئام بين الحضارتين المسيحية (الغربية) والمشرقية (الإسلامية) عبر التساكن المطمئن الذي ساد المدينة السورية في ظل حاكها الصليبي إلا أنها تعبر من ناحية أخرى عن توق الأنوثة المشرقية للخضوع الى الذكورية الغربية المنتصرة والعادلة، كما أشرنا من قبل. لكن الأدب العربي لم يتأخر كثيراً برد التحية بمثلها بعد ذلك، وفي شكل معاكس تماماً، حيث بدا أبطال سهيل إدريس وتوفيق الحكيم والطيب صالح أشبه بالفحول المزهوين والمكللين بالظفر وسط أنوثة الغرب الظامئة الى الارتواء.

شوقي بزيع

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...