بين الأصوليَّة والاعتدال
في جميع الأنحاء يجد المرء نفسه محاصرا بالأفكار الَّتي تنبني فوق معاداة الأصوليَّة الدّينيَّة.
لنأخذ على سبيل المثال، الإسلام في الشَّرق الأوسط.
يقف المعتدلون الدّينيون ضدَّ أكثر ممارسات تنظيم الدَّولة الإسلاميّة (الدَّولة الإسلاميَّة في العراق والشَّام/داعش)، ينصبُّ موقفهم على إبعاد تلك الممارسات عن المساس بالجوهر الدّينيّ للإسلام، مردّدين أنَّ "الإسلام بريء من كلّ ذلك". يبدو السُّؤال المعقول هنا "ما هو الإسلام – الَّذي يبرأ من كلّ ذلك؟" لكن يمارس تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة أفعاله كليةً، منها ما يراه المعتدلون جرائم في حقّ الإنسانيَّة والدّين بالتَّبعيَّة، مؤسَّسة على نهج اتّباع النَّص الدّينيّ المقدَّس. تلك الأفعال المنبوذة من أغلب مسلمي العالم متاحة من النَّاحية الدّينيَّة من جهة، ويذهب تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة ليس فقط إلى اعتبار ممارساته الوحشيَّة متاحة دينيًّا بل واجبة في حالته الجهاديَّة الجارية.
في الواقع ليس الكيان الجهادي ما يرفضه المعتدلون، بل ممارسات العنف الَّتي لا تجاري النَّسق الأخلاقي لما بعد الحداثة. كيف كانت الفتوحات الإسلاميَّة بحسب ما تعرضه مخطوطات البلاد المغزوة، مقاربة لممارسات تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة بالرَّغم من إنكار الكثير من مسلمي اليوم*، وقد تجلَّت هذه المقاربة في إجبار الإيزيديين على اعتناق الإسلام، المقاربة الَّتي تمثّل نهج الفتح الطُّوبوي – حين يعتنق أهل البلد المفتوحة الإسلام. لكن هل يُسمح للإيزيديين اليوم بالارتداد عن الإسلام إذا ما تخلَّصوا من السُّلطة السَّوداء؟ لهذا السُّؤال توجد الموافقة وتوجد المعارضة، وبينهما تنطلق الحرب الفقهيَّة شعواء.
ظاهريًّا، يبدو أنَّ الكلَّ يكره تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة، ويستند في ذلك إلى أساس أنَّ تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة يجسّد أقصى مراحل التَّشدُّد الدّينيّ للإسلام. هذا الأساس المنطقي في الظَّاهر ذو علاقة بمفهوم "الإسلام الحقيقي" أو "جوهر الإسلام الّذي لم يُمس"، والَّذي حادت عنه كافَّة الفرق. من هنا، يمكننا أن ننتقل إلى النُّقطة المنبثقة من بين الفكر الدّينيّ الأصوليّ (المعروف بالمتشدّد)، والفكر الدّيني المعتدل (المعروف بالوسطي)، الَّذين يظهران بعيدان كلّ البعد عن بعضهما البعض. وفي الحقيقة، لا يمكننا اعتبار أنَّ ذينك النَّسقين من الفكر الدّينيّ مستقلَّين تماما عن بعضهما البعض، ما يعني أنَّ كلٌّ منهما مؤسّس على أساس مشترك، ما يمكن اعتباره: "الإسلام الحقيقي".
إنَّ كافَّة الرُّؤى الدّينيَّة تقريبا ترى أنَّ الإسلام كان أصلا واحدا انبثقت منه مع الزَّمن فروع كثيرة، اتّسمت بالضَّرورة بالطَّابع البعيد عن جوهر الدّين. إنَّ منبع هذا الافتراض هو تأصّل مفهوم الإسلام الحقيقيّ أو الجوهر في نفسيَّة المسلمين جمعاء – كلٌّ بحسب طائفته أو مذهبه – بالتَّالي تعتبر الطَّوائف النَّاشئة في منأى عن بعضها البعض. بالرَّغم من ذلك تبقى المحاجاة المنطقيَّة قائمة لمثل ذلك الاعتبار: أنّ الأساس المشترك من جوهر الإسلام لا يزال موجودا إذا ما اتَّبعنا هذا التَّصوُّر، الَّذي لا يتمُّ قبوله إلاَّ في إطار الدوجمائيّة نفسها، على هذا الأساس لا يسعنا سوى أن نتسائل: من أفرز الآخر، أأفرزت الأصوليَّة الاعتدال، أم أفرز الاعتدال الأصوليَّة؟
من جانب، لا يوجد تعريف واف لماهيَّة الاعتدال الدّينيّ، غير مجاراة روح العصر الأخلاقيَّة؛ فينشأ الاعتدال نتيجة لوجود المتشدّد أو وجود المفرّط. مثلا، في أسرة أحد أفرادها أصولي تراه البقيَّة متشدّدا فتميل إلى الاعتدال – أي الاقتصاد في اتّباع النُّصوص الدّينيَّة والآراء، كذلك لو تبدَّل الملحد بالأصوليّ، ستميل البقيَّة إلى الاعتدال لأنَّهم لا يقبلون التَّفريط في الدّين، وأنَّهم يريدون أن يبتعدوا عن إلصاق التَّعصب بالإسلام. هل يمكن أن نفترض إذن أنَّ ذلك "الاعتدال" ناتج لوجود الأصوليَّة والإلحاد، على الرَّغم من أنَّه من الصَّعب أن تنتج نتيجة واحدة عن مقدّمتين مختلفتين، والأحرى أن نفترض أنَّ الأصوليَّة والإلحاد معا هما نتيجة لمقدّمة واحدة هي الفكر المعتدل، أو بعبارة أكثر دقَّة: تيه الفقهاء في البحث عن طابع عصريّ للممارسات الدّينيَّة، ذلك التّيه الَّذي أفرز التَّشدُّد وأفرز التَّفريط.
لكن ما الَّذي يمكن أن يعمل على تحفيز الفقهاء أو المفكّرين الدّينيين لكي يصبغوا الدّين بصبغة علمانيَّة يا ترى؟ هل "رفض" الممارسات الدّينيَّة الَّذي يتَّسم هو الآخر بالعلمانيَّة؟ بالتَّالي ما الَّذي أدَّى إلى ظهور مثل ذلك الرَّفض؟ هل هو الأخذ بحرفيَّة النَّص الدّينيّ المقدَّس؟ في رأيي، نعم هو كذلك.
هناك مغالطة أصيلة في فهم ما نعنيه عادة بالأخذ بحرفيَّة النَّص الدّينيّ؛ ما نعنيه بشكل عام هو الأخذ بالنَّص المكتوب دون تبديل لأي كلمة أو حرف، مثلا "لا تقربوا الصَّلاة وأنتم سكارى" يُفهم الأخذ بحرفيتها من خلال إقرار المعنى من وراء كلمة سكارى، الكلمة المثلى في هذه الحالة ولذلك لا يجوز إحلالها بأخرى، فإذن لا يقرب الصَّلاة شارب الخمر. لكنَّ الفعل الثُّلاثي المجرَّد لـ(س ك ر) الَّذي يشتقُّ منه اللّفظ سكارى له أكثر من سبب، ولا يشير حصريًّا إلى السُّكر النَّاتج عن شرب الخمر، بل من الممكن أن يشير إلى حالة السُّكر النَّاتجة عن النَّوم، أو حتَّى الموت، في نفس الوقت تكتمل الآية بـ"حتَّى تعلموا ما تقولون" وليس حتَّى تفيقوا إذا كان المشار إليه هو الخمر فقط. نعتبر أنَّ هذه العمليَّة من عدم الأخذ بحرفيَّة النَّص، عمليّة تتعلَّق بالمعنى والسّياق لا الكلمة وحسب، وهذا خطأ، لأنَّ هذه العمليَّة برمَّتها لم تخرج عن الأخذ بحرفيَّة النَّصّ.
لفهم أوسع، لنأخذ مثلا رحلة الإسراء والمعراج؛ يعني الأخذ بحرفيَّة النَّص المقدَّس اعتبار أنَّ كلّ ما ورد في النَّص صحيح من النَّاحية الواقعيَّة، أي أنَّ القصة حدثت كما وردت في النَّص. بيد أنَّ عدم الأخذ بحرفيَّة النَّص يعني اعتبار المعاني اعتبارا رمزيًّا أسطوريًّا (كلمة أسطورة تعني القصَّة المقدَّسة لا الخرافة)، وفي هذه الحال سنجد قصَّة ذاتِ مغزى صوفي معتبر. لكن ما يقوم به الفقهاء أو المفكّرين "العقلانيين" هو محاولة إثبات وقوع الرّحلة بالأساليب العلمة الحاضرة، وبالطَّبع يفشلون، وينتج عن محاولتهم إقرار مسألة إمَّا الإيمان بالنَّص أو الكفر به، شيء آخر غير ما ورد من أجله النَّصُّ.
في وقتنا هذا، ذينك الإيمان والكفر هما الأصوليَّة والإلحاد، ناتجان عن محاولة "المعتدل" لعقلنة النَّص الدّيني، ووسمه وسما عصريًّا. ينبغي لي على الأقلّ أن أعيد النَّظر في الكثير من الآراء الَّتي تعادي الأصوليَّة الدّينيَّة باعتبار أنَّها السَّبب المباشر وراء انتشار الإلحاد، وأتوقَّع إحصاء مغالطات لا حصر لها.
* الهاجريون، باتريشا كرونة ومايكل كوك
بقلم: كمال غازي
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد