بواخرنا تبحر خارج السرب

19-02-2008

بواخرنا تبحر خارج السرب

يعتبر النقل البحري أكثر أنماط النقل أهمية، حيث إن نسبة 80 % من حجم المبادلات التجارية العالمية تتم عن طريقه، بينما تتولى جميع أنماط النقل الأخرى من نقل جوي وطرقي وسككي نسبة 20% المتبقية، لذلك فقد عمدت جميع حكومات العالم على التركيز على أهمية هذا القطاع ومده بجميع أسباب النماء والتطور ليلعب دوراً مفصلياً في تطوير واقعها الاقتصادي.
وليس خفياً على أحد أن هذه النسبة من حجم المبادلات التجارية لا يمكن أن تنخفض في مجال النقل البحري وهذا التمييز لهذا النوع من النقل لا يمكن أن يضمحل نظراً لأن وسيلته السفينة التجارية التي تشكل العمود الفقري للنقل البحري وتملك المقدرة العجيبة على التكييف مع كل أشكال وأنواع البضائع مهما كانت أحجامها أنواعها وأصحابها.
وإذا ما نظرنا لواقع النقل البحري لدينا نجد أنه لم يأخذ مكانه الطبيعي حتى الآن في معادلة النقل العامة.
فما أسباب تردي واقع الملاحة البحرية لدينا؟ ولماذا لم يتم حتى الآن الاهتمام اللازم بالنقل البحري رغم أهميته القصوى في مجال التجارة الدولية؟ وما حقائق وضع المرافئ السورية وقدرتها التنافسية والاستيعابية في مجال النقل وحركة الملاحة البحرية؟.

إن مرفأي اللاذقية وطرطوس رغم أهمية موقعهما الاستراتيجي على الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلا أنهما ما زالا وحتى تاريخه من المرافىء الثانوية التي تستقبل السفن الصغيرة والمتوسطة، بينما تتولى بعض المرافىء التي لا تفوقهما أهمية من الناحية الاستراتيجية دور المرافىء الرئيسية، كمينائي دمياط في مصر ولارنكا في قبرص، إن هذا الواقع يفرض نفسه إضافة إلـى بعـض العوامـل الأخـرى ارتفاعـاً فـي أجور النقل البحري تصل نسبة 20-30 % عن أجور النقل إلى المرافئ المجاورة.
يقول المخلص الجمركي إبراهيم الصفدي الخبير في مجال النقل البحري: إن المرافئ السورية تعاني من كثير من المشكلات والعوائق التي تحول دون ارتقائها لمستوى المرافئ الدولية أبرزها أنه لا يوجد في مرفأي اللاذقية أو طرطوس محطة خاصة للحاويات، وليس المقصود هنا الحاويات العادية بل المتخصصة رغم ازدياد أهمية الاعتماد على النقل في الحاويات، حيث وصلت إلى مستويات كبيرة غير مسبوقة.
إضافة إلى استمرار عمل المرافئ السورية وفق نظام استثمار يعود إلى مطلع الاستقلال في بداية الخمسينيات، وبتقديرنا إن التعديل الذي جاء من خلال المرسوم 67 لعام 2002 لم يبتعد عن نظام الخمسينيات إلاّ بشكل جزئي ومازالت المسؤولية عن البضائع المفرّغة أو المحملّة عند الفقدان أو التضرر تقع بمجملها على الناقل البحري، حيث أوكل نظام الاستثمار التحقيق بأي مخالفة إلى الضابطة المرفئية، حيث يصبح المرفأ الخصم والحكم بآن واحد.
أن الناقل البحري في نهاية المطاف تاجر يعكس كل ما يتكبده من مصاريف وإعاقات وكلف على أجرة النقل البحري، وبالتالي تنعكس سلباً على الصناعي الذي تزداد كلف الوحدة المصنعّة من قبله ويصعب تداولها تنافسياً سواء أكان ذلك داخل الوطن أم خارجه، لذلك يوصي الصناعيون باعتماد نظام استثمار مرافئ يراعي وينسجم من القوانين والأنظمة الملاحية العالمية ولاسيما بالنسبة لمسؤولية كل أطراف العقد البحري من شاحن وناقل ووكيل ومرفأ ومستلم للبضائع.
إضافة إلى خلو المرافئ من تحليل الناولون البحري الذي يتكبد الصناعيون المستوردون للمواد الأولية كثيراً من النفقات والمصاريف الإضافية في المرافئ السورية.
كذلك تعثر عملية تزويد المرافئ بروافع الكانتري الخاصة بالحاويات، ما يعني زمن تفريغ أطول وكلفاً أكبر ناجم عن بقاء السفينة في المرفأ زمناً أكثر.
كما تعاني مرافئنا قلة ممارسة الأساليب الحديثة في عملية تحميل وتفريغ البضائع، حيث مازال وحتى تاريخه يتم استخدام بعض الأساليب البدائية كاستخدام شنكل " الشرشور " من قبل عمال التفريغ، حيث تصل نسبة الضرر للبضائع المعبأة ضمن أكياس كالسكر والرز إلى أرقام قياسية تصل غالباً إلى مئات الشوالات في كل رحلة.
ويؤكد الصفدي ضرورة تحسين حالة المخازن والمستودعات في المرافئ فبعض المستودعات غير كتيمة وزجاج نوافذها مهشم، إضافة لاستخدام بعض المستودعات لتخزين بضائع ذات طبيعة مختلفة كتخزين مادة الرز أو السكر في مخازن استخدمت من زمن ليس بالبعيد في تخزين الأعلاف أو الكيماويات كما لابد من تدريب وحثّ عمال المرافئ على العمل في جو من الشفافية بعيداً عن المصلحة الشخصية ولاسيما أمناء المستودعات والساحات والآليات لأن أي خلل في عملهم ينعكس سلبياً على كلف المواد المستوردة والمصنعة, وإيلاء محاضر ضبوط الإدخال المرفأي الجزئية والنهائية أهمية قصوى لأنها الوثيقة المعتمدة لدى المحاكم السورية حتى تاريخه وصياغة هذه المحاضر لا تتم دائماً وفق الواقع بل أحياناً وفق رغبة المستلم وأحياناً أخرى المسلّم.
واعتماد معدّلات تفريغ وتحميل لكل نوع من البضائع وفق توضيبها بشكل يسمح للناقل البحري المعرفة المسبقة بالمدة التي ستستغرقها سفينته للتفريغ والتحميل لكي لا يعكسها زيادة في أجور الشحن.
إضافة إلى اعتماد الصيانة اللازمة لمرافئ وساحات المرافئ وتعزيل الأحواض المائية، فإذا كان الموضوع يظهر من عنوانه، فالأمر ليس كذلك في مرفأ اللاذقية، فالأبواب مرتبة ومنظمة إلاّ أنّ الوضع داخل المرفأ ليس على هذه الصورة, والعمل في كل أيام الأسبوع دون النظر إلى العطل والأعياد الرسمية التي تزيد على شهرين في السنة الواحدة لأنّ أهمية العمل في مرفق مهم كالمرفأ ليس كالعمل في إحدى الدوائر الرسمية أو غيرها.

إن البواخر المسجلة تحت العلم السوري تتناقص عاماً بعد عام نتيجة للتعقيدات الإدارية والضرائب المرتفعة، ما دفع بالعديد من مالكي تلك البواخر لتسجيلها تحت أعلام دول أجنبية تهرباً من تلك التعقيدات.
فقبل سنوات كان مسجلاً لدينا أكثر من 300 باخرة تحت العلم السوري.. أما الآن فإن العدد لا يزيد على مئة باخرة، أي إن أكثر من مئتي باخرة شُطبت من سجلاتنا وسجّلها أصحابها
تحت أعلام دول أجنبية والأسباب كما يقول بعض مالكي تلك البواخر يعود للتعقيدات التي كانت تواجههم عند التسجيل وللضرائب التي كانت تفرض عليهم من قبل الجهات العامة ومنها الجمارك التي كانت تعتبر الباخرة سلعة وفق قانونها السابق وتتقاضى عليها الموانئ عمولة.
تقول مصادر المديرية العامة للموانئ إن عدد السفن المسجلة عام 2003 (7) سفن وعام 2004 (15) سفينة وعام 2005 سفينتان وعام 2006 (9) سفن، أما في العام الحالي فلم تسجل أي سفينة، أي لم تسجل أي سفينة منذ إحداث غرفة الملاحة أما عدد السفن المشطوبة فكان في عام 2003 (23) سفينة وعام 2004 (22) سفينة وعام 2005 (12) سفينة وعام 2006 (23) سفينة والعام الماضي 6 سفن.

وعن أسباب عدم تسجيل أي سفينة جديدة تحت العلم السوري برأي مديرية الموانئ لاسيما بعد إحداث غرفة الملاحة هو انتظار صدور تشريعات وقوانين وطنية بحرية تحرر من إجراءات وشروط التسجيل لدى الجهات المعنية الأخرى مثل الجمارك وغيرها، حيث أزيلت جميع المعوقات مثل تقديم البيان الجمركي وإجازة الاستيراد وكذلك الإعفاء من التعهد بتقديم القطع الأجنبي ولكن ما زال يوجد العديد من المعوقات التي تعترض ملاّك السفن أهمهما الرسم الجمركي عند التسجيل والبالغ 3% من القيمة التخمينية للسفينة، وهذا الرسم كبير عند مقارنته بالرسوم الجمركية في الدول الأجنبية وصعوبة تأمين البحارة المؤهلين وفق الاتفاقيات البحرية الدولية الخاصة بتدريب وتأهيل أطقم السفن مع العلم أن العمل جارٍ لتذليل هذه الصعوبات.

إن غرفة الملاحة تسعى إلى إزالة جميع المعوقات التي تحول دون التشجيع على تسجيل السفن تحت العلم السوري، كما أن غرفة الملاحة تعمل بشكل نشيط من خلال حضورها كل الاجتماعات واللجان المنعقدة والمعنية بموضوعات النقل البحري، وإن جميع النقاط التي كانت تشكل عائقاً أمام تسجيل السفن تحت العلم السوري قد شاركت في إزالتها وذلك من خلال التنسيق مع المديرية العامة للموانئ والجهات المعنية الأخرى، وكذلك من خلال اللقاءات الدورية مع ملاّك السفن للوقوف على آرائهم ومطالبهم المتمثلة بوضع آلية مبسطة تشجع على التسجيل تحت العلم السوري وترقين قيد السفينة القديمة، والعمل جارٍ الآن لإزالة العقبات الأخيرة المشار إليها أعلاه.
إلا أن الواقع لم يتغير بل على العكس ازدادت حركة خروج البواخر من التسجيل تحت العلم السوري فإذا كان أعضاء مجلس إدارة الغرفة يرفضون تسجيل بواخرهم تحت العلم السوري فكيف سيقنعون الآخرين.
يقول مسؤولو الغرفة: إنهم قاموا باتصالات عديدة وبينوا للمسؤولين أسباب عزوف السوريين عن تسجيل سفنهم تحت العلم الوطني للأسباب عديدة أبرزها تعقيدات إجراءات التسجيل, والرسوم الجمركية المرتفعة على السفن والتي تبلغ 3% من القيمة وخضوع الاستيراد إلى رسم إنفاق استهلاكي 1.5% من القيمة والرسوم إضافة إلى صعوبة تأمين ركب مبحر على السفن السورية من العمالة السورية وذلك لتعقيدات الحصول على تصديق على الشهادات المحمولة من دول العلم البيضاء لدى المديرية العامة للموانئ ومعاملة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للعمال البحريين الأجانب والعرب وفق تصور خاطئ وخضوع عملية البيع والتنازل إلى ضرائب أرباح رأسمالية مقدرة بمزاجية موظف غير خبير وغير مؤهل لاتخاذ قرار كهذا.
ويضيف بعض مسؤولي الغرفة الملاحية: إن قصور قانون التجارة البحري السوري رقم /46/ والمطالبة بقدوم السفينة إلى مرفأ التسجيل عند عملية التسجيل يؤدي إلى عزوف أصحاب البواخر عن التسجيل تحت العلم السوري والمطلوب النظر بكل هذه القضايا معاً من أجل تعزيز مكانة الملاحة البحرية السورية ليس محلياً بل عالمياً أيضاً.

حتى يومنا هذا لم نجد تأميناً كافياً للنقل البحري سواء للناقلات أو البواخر أو بالنسبة للعمال على متن تلك البواخر وكثيراً ما سمعنا عن مشكلات حدثت لعمال تلك البواخر نتيجة بخس حقوقهم المادية والقانونية من قبل أصحاب تلك البواخر أو من قبل قبطانها أو الفريق الملاحي.
يقول طارق يوسف العامل على إحدى البواخر السورية: ذهب تعبي مدة تزيد على أربع سنوات سدى نتيجة تهرب صاحب الباخرة ومحاسبها الإداري من تسديد الأجور المستحقة للعديد من العاملين على متنها وحتى يومنا هذا لم يدفع لي المحاسب أي شيء، علماً أن صاحب الباخرة يقول: إنه سدد كامل التزاماته المادية، والمحاسب هو المسؤول ورغم مراجعة العديد من الجهات الحكومية لتحصيل حقوقنا لم نجد آذناً صاغية ولم تكن الباخرة مسجلة لدى التأمينات البحرية، وبالتالي لم نجد من يناصرنا لنأخذ حقوقنا العادلة, فمن يحاسب هؤلاء المقصرين رغم التهديد من قبل طاقم الباخرة بإنزالنا في أحد المرافئ الدولية إذا استمررنا بالضغط على المحاسب لتأمين حقوقنا المادية.

علينا أن نبحث سريعاً عن حلول جذرية لواقع ما يسمى بملاحتنا البحرية البعيدة كلياً عن واقع ملاحة أي بلد متوسطي آخر.
فواقع النقل البحري مازال متواضعاً هشاً أقل من أن يسمى نقلاً عاماً، ليس لقلة الخبرة وعدم توفر المادة الأولية في صناعة مثل هذا النقل بل لإهمال هذا الجانب المهم من الدورة الاقتصادية لأي بلد، وما يحدث لبواخرنا من هجرة تسجيلها تحت العلم السوري والإخفاء وراء أعلام دول أخرى إلا دليل على ضعف قدرتنا على منافسة تلك الدول بجذب بواخرنا للتسجيل لدينا لأسباب قد تكون أشبه بالتافهة، بحجة التعقيدات الإدارية والضرائب المرتفعة والإجراءات الشكلية، وضعف التأمين الخاص بالنقل البحري كلها غير مبررة في زمن الاقتصاد المفتوح وزمن الصراع على أشده لجذب أي استثمار خاص مهما كان محدوداً أو كبيراً.
فكيف نسمح لأنفسنا أن تغادر بواخرنا للتسجيل تحت أعلام أخرى مع أننا نملك شاطئاً ومقومات عالية للنقل البحري الذي بتنا اليوم بأمس الحاجة لتفعيله نظراً لقدوم الاستثمارات العربية والأجنبية للعمل داخل البلاد، وهذا يجب أن يدفعنا لإعادة النظر كلياً بالنقل البحري وتفعيله قبل أن يصيب الجفاف مرافئنا.

المصدر: مجلة المال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...