انهيار تاريخي في أميركا: الأزمة تدق أبواب المصارف الأوروبية
تقاطعت مصالح غالبية جمهورية محافظة وأقلية ديموقراطية يسارية في مجلس النواب الأميركي لإجهاض خطة إنقاذ الأسواق المالية التي اقترحتها إدارة الرئيس جورج بوش وقيادات الكونغرس، في تحوّل ترك البيت الأبيض و»وول ستريت« والانتخابات الرئاسية والأسواق العالمية في حالة قلق وترقب.
ويبدو أنّ الأزمة المالية الأميركية قد انتقلت إلى أوروبا، حيث يجري سباق مع الوقت لإنقاذ المصرف البلجيكي الهولندي »فورتيس«، بعد انهيار أسهمه في البورصة، فيما أعلنت الحكومة البريطانية تأميم مصرف العقارات »برادفورد بينغلي«، الذي يعاني بدوره من مصاعب مالية. وانعكست هذه المؤشرات سلباً على الأسهم الأوروبية، حيث هبطت أسهم مصارف »رويال بنك اوف سكوتلند« و»يو. بي.اس« و»بانكو سانتاندر« و»باركليز« و»يونيكريدت« و»بي.ان.بي باريبا« ما بين ١,٥ و ٥,٢ في المئة، وسط مخاوف من أن يؤدي انهيار »فورتيس« و»برادفورد بينغلي« إلى سلسلة من الانهيارات المالية على امتداد القارة.
ومن الواضح أنّ الأمور في »وول ستريت« تتجه إلى مزيد من التدهور، بعدما صوّت مجلس النواب الأميركي ضد »قانون الطوارئ والاستقرار الاقتصادي«، الذي يقع في أكثر من ١١٠ صفحات، وذلك بعد ١١ يوماً من المفاوضات الشاقة، حيث حصل القانون على ٢٠٥ اصوات ايجابية (١٤٠ ديموقراطياً و٦٥ جمهورياً) في مقابل ٢٢٨ صوتا سلبيا (٩٤ ديموقراطياً و١٣٤ جمهورياً).
وفور فشل الكونغرس في إقرار الخطة هوت الأسهم الأميركية بشكل حاد، حيث تراجع مؤشر »داو جونز« الصناعي ٦٦٨,٥٧ نقطة (٦ في المئة)، وهو الانهيار الأكبر في تاريخه، فيما هبط مؤشرا »ستاندرد أند بورز« الأوسع نطاقاً ٩٤,٠٨ نقطة (٧,٧٦ في المئة)، و«ناسداك« لأسهم شركات التكنولوجيا ١٧٢,٥٥ نقطة (٧,٩٠ في المئة)، للمرة الأولى منذ العام .٢٠٠٣
وقد منع الفراغ السياسي في قيادة الحزب الجمهوري الإجماع الفوري على القانون، وبدا التقارب واضحاً بين وزير المالية هنري بولسون والقيادات الديموقراطية في الكونغرس من أجل التوصل إلى مخرج، فيما كانت القيادات الجمهورية منقسمة على نفسها ومتمسكة بأفكارها المحافظة، التي تفضل عدم تدخل الدولة في القطاع الخاص.
لكن المستغرب كان تراجع التأييد الديموقراطي لهذا القانون الذي كان يحتاج لـ٢٢١ صوتاً فقط لإقراره، ما يعني عدم تمكن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي من إقناع زملائها الديموقراطيين، ولا يعرف بعد ما إذا كان أعضاء الكونغرس قد شعروا بالقلق من التصويت على قانون غير شعبي، أو أنّ ذلك كان تكتيكاً لعدم إقرار القانون بفضل أصوات الديموقراطيين، وبالتالي تجنب تحميل الحزب تبعاته في حال فشل الخطة.
وأعرب البيت الأبيض عن أسفه لإفشال القانون، وقال المتحدث باسمه طوني فراتو إنّه »لا يوجد شك في أن البلاد تواجه أزمة صعبة تحتاج الى المعالجة«، مشيراً إلى أنّ بوش سيجتمع مع فريقه ليقرر الخطوات المستقبلية وسيكون على اتصال مع قيادات الكونغرس«.
كذلك أعرب بوش عن »خيبة أمله« لرفض الخطة. وقال بعد لقائه الرئيس الأوكراني فيكتور يوتشينكو في البيت الأبيض »لقد وضعنا خطة كبيرة، لأننا واجهنا مشكلة كبيرة«، مشيراً إلى أنّ »استراتيجيتنا هي في أن نواصل معالجة هذا الوضع الاقتصادي بصورة مباشرة وسنعمل على تطوير استراتيجية تمكننا من مواصلة المضي قدماً«.
والواضح أنّ الحزب الجمهوري غير مقتنع في أن الأسواق المالية في أزمة، حيث يعتبر أن الجميع يعمل على تضخيم الأمور، ويبدو أنه يحاول امتحان السوق ليرى مدى تفاعلها مع عدم إقرار القانون، ويسجل انتصاراً انتخابياً يتحدّى من خلاله الأكثرية الديموقراطية في الكونغرس، ويعزز موقع الجمهوريين بين ناخبيهم قبيل الانتخابات المحلية، لا سيما أن طبيعة الدوائر الصغرى تقرب أعضاء مجلس النواب من الناخب وتجعله يتخذ قرارات لا تقارب بالضرورة المصالح الوطنية.
وقد وضعت القيادات الجمهورية في مجلس النواب، لا سيما النائب جون بوهنر، باللوم على »الخطاب الحزبي« لرئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي قبيل التصويت، وردت بيلوسي بعد الجلسة بالقول »هذا اتهام سخيف في وقت يمرّ بلدنا في ضائقة اقتصادية عميقة«، في حين سخر الديموقراطي بارني فرانك من زملائه الجمهوريين بعدما سمحوا لمشاعرهم بـ»معاقبة البلاد«.
وكانت الضغوط قد ظلت مستمرة حتى ساعة متأخرة من ليل أمس لإعادة التصويت على القانون، خصوصاً أن الكونغرس في عطلة غداً لمناسبة رأس السنة اليهودية. وقد يدعو البيت الأبيض مجدداً إلى اجتماعات مكثفة بين وزير الخزانة هنري بولسون وقيادات الكونغرس من أجل التوصل إلى صيغة أخرى، في وقت أعرب المرشحان الرئاسيان الديموقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين عن استعدادهما التصويت على القانون في مجلس الشيوخ غداً.
وتقضي خطة بوش بحصول وزارة الخزانة على ٧٠٠ مليار دولار فورا لشراء موجودات الشركات المالية، على أن يتم توفير ٢٥٠ مليار دولار فورا، إضافة إلى مئة مليار دولار من قبل البيت الأبيض إذا ما دعت الحاجة، فيما يحتاج المبلغ المتبقي (٣٥٠ مليار دولار) إلى موافقة الكونغرس لصرفها من اجل الإشراف على هذا البرنامج الطموح ومتابعة التقدم الذي يحرزه.
إلى ذلك، أعلنت شركة التأمين على الودائع الفدرالية أنها توصلت إلى صفقة تقضي بسيطرة مؤسسة »سيتي غروب« على الأعمال المصرفية لشركة »واكوفيا« بمبلغ ٢,٢ مليار دولار، بحيث تتكفل »سيتي غروب« بتسديد ٤٢ مليار دولار من ديون »واكوفيا«، والتي تبلغ ٣١٢ مليار دولار.
وكانت الأزمة الحالية قد انطلقت منذ فترة، مع خسارة عدد كبير من الأميركيين لمنازلهم وعدم تمكنهم من دفع الرهن العقاري تزامنا مع استدانة مفرطة على »وول ستريت« من دون ضوابط، فيما امتنعت الإدارة الأميركية عن التدخل بحيث اعتقد فريق عمل بوش انه يجب ترك السوق على حالها وهي ستصلح نفسها في النهاية. لكن الإدارة تدخلت في آذار الماضي بدفع ٢٩ مليار دولار لتسهيل بيع شركة »بير ستيرنز« لمنافستها »جي بي مورغان شايس«.
وبحسب الأرقام المتوفرة حتى نهاية ٣٠ حزيران المقبل، فإنّ اكبر ٢٠ مؤسسة مالية أميركية لديها ما مجموعه ٤,٧ تريليون دولار من الرهون العقارية والسندات المالية العقارية والاستثمار العقاري. ويعتقد بعض الخبراء ان تدخل الإدارة الأميركية لشراء موجودات الشركة المالية بأسعار منخفضة نوعا ما قد يؤثر سلبا على الشركات الأخرى في السوق التي ستنخفض قيمتها أيضا.
٧٠٠ مليار دولار تعني ثلث الميزانية الفدرالية في الولايات المتحدة، وقد تمنع انهيار الأسواق المالية العالمية لكنها ستورط الشعب الأميركي في ديون لأجيال، ولن تمنع الاقتصاد الأميركي من الدخول في ركود يبدو محتوماً. لكن الأزمة المالية تحولت إلى مسألة سياسية وأزمة ثقة مع واشنطن، فالرأي العام الأميركي ضغط على ممثليه لإسقاط قانون البيت الأبيض والكونغرس، ووضع الحزب الجمهوري أمام أزمة.
جو معكرون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد