القوانين لا تجرّدنا من الإنسانية بل تحرّكها
الإنسانيّة لا تُحقن تحت الجلد، والتألمّ من نبذ الناس لا يُداوى بأقراص المسكنات، وبائع الأكفان لم يعد وحده قاسي القلب في حضرة الموت.. فنحن أيضاً تحجرت قلوبنا وقست، وقصّرنا في فعل الخير (أغلى ما ورثناه من أجدادنا أصحاب الأيادي البيضاء) لمّا تركنا إنساناً مريضاً وعاجزاً عن الحركة نائماً في الشارع ثلاثة أيام أمام دار الكرامة للمسنين، وسمعنا ورأينا صوت أنينه وبكاءه كالطفل مع أنه تجاوز الخمسين، لكثرة الألم من نبذه وحيداً في الشارع، بينما تفصله عن دار إيواء العجزة والمسنّين بضع خطوات!..
قبل أن يُرمى في الشارع، كان نذير محمود محتجزاً لدى أربعة شبان، في بيت متطرف بمنطقة بساتين برزة، بعد أن أحضروه معهم من مستشفى ابن النفيس، بكامل إرادته، ومن ثم سلبوه إياها حين كشفَ ابتزازهم لحالته الصحية، وطلب المغادرة، ولكن..؟!
¶ كتلة
بدأت القصة عندما دخل نذير محمود مستشفى ابن النفيس في شهر تشرين الثاني 2009 لإجراء عملية «فتق» بسيطة، وتخرّج في اليوم نفسه، لعدم استدعاء حالته الصحية المستقرة المبيت في المستشفى. ولكن، بعد عشرة أيام، شعر محمود بشيء بارد بين قدميه، وبكتلة يمنعه ألمها وحجمها من الحركة، فصرخ على جيران غرفته (في منطقة القابون) ليسعفوه إلى المستشفى بسيارة «سوزوكي»، ليتبيّن، بحسب تقرير الأطباء، أنّ الكتلة «قيحية». ووقت أخرج الأطباء «القيح» من الكتلة بين قدمي نذير محمود، دون بنج أو تخدير موضعي، كانت حالته الصحية تدهورت بشكل تطلّب خضوعه إلى عمل جراحي تنظيري، أرغمه على البقاء في المستشفى مدة 20 يوماً.
¶ لوجه الله
جاور نذير، في غرفة المستشفى، مريضاً في الخامسة والخمسين من العمر كان أجرى عملية استئصال مرارة، واعتاد على زيارته ثلاثة شبان في منتصف الثلاثينات. وبحكم الجوار في الهواء والمكان، نشأت علاقة طيبة بين نذير والشبان الثلاثة ومريضهم، والتي حرص نذير على توطيدها «لوحدانيته» وعدم وجود من يزوره أو يطمئن عليه (لا أولاد ولا زوجة ولاأصدقاء أو حتى جيران). وهذا ما شجع أصدقاءه (الثلاثة الجدد) على دعوته إلى الإقامة في منزلهم في منطقة برزة حتى تتحسّن حالته الصحية، بعد أن قرَّر الأطباء عدم حاجة محمود للإقامة، وطالبه المستشفى بالخروج في صباح اليوم العشرين على دخوله بحالة إسعافية..
طبعاً محمود رفض في البداية الخروج من المستشفى، لأنه لا يملك منزلاً يرجع إليه، ولا شخصاً مقرباً يقيم عنده أو يساعده على تلبية حاجاته الأساسية. ولكن، يبدو أنَّ إصرار المستشفى على خروجه، دفعه إلى قبول دعوة الأصدقاء الجدد، الذين لا يعرف حتى أسماءهم، أو طبيعة عملهم، ويذهب معهم إلى حيث قالوا إنهم سيحتضنوه كأب ولوجه الله..
¶ الضيف رهينة
بقي نذير محمود في منزل مضيفيه، الذين ازدادوا واحداً، مدة شهرين، لا يأكل إلا اللحم الأحمر والدجاج المشوي، ولا يشرب إلا العصير الطبيعي.. بل، وأكثر من ذلك، تلقَّى، على يد ممرض خاص، كلَّ الرعاية الصحية، من خلال إعطائه المقويات والفيتامينات ليستردّ عافيته ويمشي على قدميه من جديد. ولكن، كما يقول المثل «من دهنه قليله»، كانت الأموال التي تصرف على هذا البذخ هي من «تحويشة العمر» التي جمعها نذير محمود من عمله لأكثر من 10 سنوات في لمّ الخبز اليابس والألمنيوم والنحاس، وهي تقريباً 172 ألف ل.س.
وظنَّ نذير، بسذاجة، أنَّ مضيفيه بذلك ليسوا أصحاب «منية»، وأنه يعيش من حرّ ماله، طالما أنه سلَّمهم «تحويشته»، إلى أن اكتشف بالمصادفة أنَّ مضيفيه «الكرماء أخلاقياً» يحتجزونه رهينة، لاستغلال حالته الصحية، وابتزاز بعض الأشخاص حتى يقدّموا معونة لعلاج عمّهم نذير «كما ادعوا»!..
عندها طالب نذير بأن يصرفوا عليه من ماله، وليس من ابتزاز الناس على حساب كرامته، فسخروا منه، على حد قوله، وطالبوه بالصمت، وإلا سيعاقب بالحرمان من الطعام ومن مساعدته في القيام بحاجاته الأساسية..
¶ سين وجيم
وكان ذلك، وصارت حصة محمود من الطعام ومن تنظيفه، تقدّم كل ثلاثة أيام مرة. واستمرَّ على هذه الحال مدة سبعة أشهر، إلى أن سمع نداءه بعض المارة، في وقت غياب مضيفيه الأربعة عن المنزل، وساعدوه على الهرب، من خلال نقله على خشبة من غرفة التوتياء والصفيح المحتجز فيها إلى سيارة سوزوكي، ومن ثم أكملوا معروفهم ورموه في الشارع أمام دار الكرامة للمسنين، وهربوا متذرّعين بأنَّ «مساعدة الناس في هذه الأيام صارت تتسبَّب في وجع الرأس والدخول في السين والجيم».
جرى ذلك يوم الخميس في الـ28 من كانون الأول، الساعة الثالثة ظهراً. وبقي على هذه الحال، مرمياً، حتى يوم السبت 30 /10 الساعة الثانية ظهراً، عندما وافق مدير دار الكرامة (المهندس حسن المحمود)، على مسؤوليته الخاصة، على نقله إلى الدار ليتلقّى الرعاية الإنسانية اللازمة، أسوةً بباقي المسنين، الذين ينامون مطمئنين في أسرتهم داخل الدار. ولكنه، عاد ليشترط ذلك باستقباله حتى صباح يوم الأحد فقط، ليخاطب السيد محافظ دمشق، باعتباره رئيس مجلس إدارة دار الكرامة، ويحصل على موافقته ببقاء نذير في الدار كمسن وعاجز..
¶ القوانين ليست حجراً
يوم الجمعة 29/10 تلقَّى نذير محمود تهديداً من أحد الموظفين في دار الكرامة، بالاتصال بالشرطة لأخذه إلى سجن المتسولين في خان دنون، إن هو لم يلتزم الصمت ويتوقف عن إرسال المراسيل إلى دار الكرامة ليسمح له بدخولها. وتحجَّج الموظف بأنَّ «هيئة نذير وملابسه المتسخة والمهترئة تدلّ على أنه متسول». ولكن، كيف يتخيّل (هذا الموظف) أن تكون هيئة شخص لم يستحم أو يغيّر ملابسه منذ عشرة أشهر؟!.. وكيف يتخيَّل أن تكون رائحته، وهو ينصاع إلى حاجاته الأساسية «مرغماً» في لحافه؟!.. هل يجب أن يكون الشخص المحتاج إلى رعاية الدار مقبلاً إليها وهو بكامل أناقته؟!..
ورغم ذلك، استمع مدير الدار (المهندس حسن المحمود) إلى قصة نذير، ووعده بأن يخاطب المحافظ، الذي لن يتردَّد، بحسب المهندس المحمود، في الموافقة على رعايته في الدار وتعويضه عن الظروف القاسية وغير الإنسانية التي تعرَّض لها. وفي نفس الوقت، برَّر إبقاء نذير نائماً في الشارع منذ يوم الخميس بأنه ليس من صلاحياته إدخاله إلى الدار عملاً بمواد القانون رقم 20، التي تحدّد شروط قبول العجزة والمسنين في الدار باستكمالهم الأوراق الرسمية وبموافقة المحافظ رئيس مجلس الإدارة. ويأتي التشدد في تطبيق القانون هذه المرة -يتابع حسن المحمود- من أنَّ «نذير يعتبر شخصاً مفروضاً على الدار، وظروف وضعه على هذه الهيئة في الشارع أمام الدار لا تزال ملتبسة ومجهولة التفاصيل. وبالتالي، لا يمكننا أن نخالف القانون وندخله بشكل اعتباطي».
للقصة بقية..
تحت السماء وفوق الأرض، نام نذير، الذي يخبّئ بطاقته الشخصية و1000 ل.س قدَّمها له فاعل خير في كيس نايلون صغير في بطنه، ملتحفاً من برد أواخر تشرين الأول ببطانية حملها معه إلى المستشفى، لأنه لم يكن يملك غيرها بعد أن سلَّم غرفة الإيجار لصاحبها في منطقة القابون.. وببطانية ثانية أكثر سماكة وأقل دفئاً، لأنها «عيرة» لمدة يوم واحد من دار الكرامة، و«توب العيرة ما بيدفي»!...
دارين سليطين
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد